خاص: إعداد- سماح عادل
“اضطراب الشخصيّة الحدّي” (BPD) معروف أيضًا باضطراب الشخصية غير المستقرة عاطفياً (EUPD)- نوع من أنواع اضطراب الشخصيّة من المجموعة B أبرز أعراضه وملامحه وجود اندفاعية مميّزةٍ، وعدم اتّزانٍ في التعبير عن المشاعر، وفي العلاقات مع الأشخاص، وفي صورة الذات، وهو مصنّف ضمن الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية. إنه اضطراب في الشخصية يتميز بنمطٍ طويل الأمد من العلاقات الشخصية الكثيفة وغير المستقرة، والشعور المشوه بالذات، وردود الفعل العاطفية القوية.
وغالبًا ما ينخرط المصابون في إيذاء النفس وسلوكياتٍ خطيرةٍ أخرى بسبب صعوبة إعادة سويَّتهم العاطفية إلى خط الأساس الصحي أو الطبيعي. وقد يصارعون أيضًا الشعور بالفراغ والخوف من الهجران والانفصال عن الواقع.
يكون هذا الاضطراب موجودًا منذ مرحلة المراهقة، ويمكن أن يظهر عَرَضًا حسب الموقف. ومن الأعراض الأخرى المصاحبة له الخوف من الهجران والتهميش، وحدوث نوباتٍ شديدةٍ من الغضب من الصعب فهمه بالنسبة للآخرين. غالباً ما يبدي الأشخاص المصابون باضطراب الشخصيّة الحدّي رأيهم في الأشخاص المحيطين بشكلٍ إقصائيٍّ؛ إمّا بجعلهم مثاليّين وإما بأنهم غير متحلّين بالقيم، وذلك بشكلٍ متفاوتٍ ما بين التقدير العالي الإيجابي وخيبة الأمل السلبية. من الممكن أن يصل الأمر إلى إيذاء النفس أو حتى الانتحار.
بما أنّ هذا الاضطراب يتميّز بطول الأمد وقابليته للانتشار والتغلغل، فغالباً ما توجد ممانعة من قبل المصابين به للتشخيص النفسيّ، وخاصّة في المراحل الأولى من المراهقة أو البلوغ المبكر. ومن الممكن أن تزداد أعراض هذا الاضطراب سوءاً في حالة عدم العلاج المبكّر لها.
المزاج غير المستقر..
وُصفت معايشة أشخاصٍ ذوي أنماط مزاجٍ عنيفةٍ ومتباينةٍ منذ زمن الإغريق مروراً بالحضارات المختلفة حتّى أتى الطبيب السويسري ثيوفيل بونيه Théophile Bonet سنة 1684 وأعاد استخدام كلمة ميلانخوليا -وهو التوصيف القديم للاكتئاب- وذلك بالمصطلح folie maniaco-mélancolique، وفيه وصف ظاهرة المزاج غير المستقر الذي ينحو منحىً غير قابلٍ للتنبّؤ. وبمرور الوقت بدأ التمايز في توصيف الأمراض النفسيّة، فعلى سبيل المثال في سنة 1884 استخدم الطبيب النفسي الأمريكي C. Hughes مصطلح الجنون الحدّي لتوصيف هذا الاضطراب. وسنة 1921 حدّد إميل كريبيلن وجود شخصيّة قابلة للاستثارة وهي مقاربة جداً لميّزات الشخصيّة التي تعاني من الاضطراب الحدّي.
مصطلح الحدي..
ورد أوّل استخدامٍ واضحٍ لمصطلح «الحدّي» في تقرير تحليلٍ نفسيٍّ كتبه أدولف شتيرن Adolf Stern سنة 1938، وصف فيه مجموعةً من المرضى يعانون ممّا ظنّ أنّه شكل خفيف من الفصام، وذلك على «الحد» بين العُصاب والذِّهان. شهدت ستينات وسبعينات القرن العشرين انزياحاً في التوجه في توصيف الحالة من كونها حالة فصامٍ حدّيٍّ إلى كونها اضطراباً حدّياً في المزاج، وذلك على غرار الاضطراب ذي الاتجاهين، ودَورَويّة المزاج، والاكتئاب الجزئي، وقد بان هذا الأمر في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية في نسخته الثانية سنة 1968 عندما جرى التأكيد على أهمية توصيف اضطرابات المزاج.
ومع تطوّر كيفيّة وضع الشروط القياسيّة لتشخيص اضطراب الشخصيّة الحدّي -وذلك بغية تمييز هذا الاضطراب عن اضطرابات المزاج وعن اضطرابات المحور الأول الأخرى- أصبح تشخيص اضطراب الشخصيّة الحدّي يندرج تحت اضطراب الشخصيّة، وذلك في الإصدار الثالث من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-III سنة 1980. وبذلك جرى تمييز اضطراب الشخصيّة الحدّي عن اضطراب الشخصيّة الفصامي. وفي الإصدار الرابع من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية جرى تحديد التسمية باضطراب الشخصية الحدي، بالرغم من أن مصطلح «الحدّي» وصفه البعض بغير المناسبٍ لتوصيف الأعراض المميّزة لهذا الاضطراب.
أعراض اضطراب الشخصيّة الحدّي..
مشاعر خارجة عن السيطرة.
علاقات غير متوازنةٍ مع الأشخاص.
قلق ينتاب الشخص بتخلّي الناس عنه وهجرانه.
سلوك مؤذٍ للذات.
اندفاعيّة.
ويصاحبه غالباً الاكتئاب أو القلق أو الغضب.
ومن أكثر أعراض اضطراب الشخصيّة الحدّي تميّزاً هي الحساسيّة تجاه الرفض الاجتماعي، والأفكار والمخاوف من أن يُلفظ ذاك الشخص من قبل المجتمع. ويمكن أن يتعدّى الأمر إلى حدوث اضطرابٍ في مفهوم الهويّة والقيم الذاتيّة، بحيث يمكن أن ترد أفكار جنون الارتياب عند الشعور بالتوتّر، بالإضافة إلى شعورٍ بالتفارق.
يشعر المصابون باضطراب الشخصية الحدّي بالمشاعر النفسيّة شعوراً أسهلَ وأعمقَ ولمدةٍ أطولَ من الآخرين. يمكن للمشاعر أن تظهر على السطح بشكلٍ متكرّرٍ، وأن تستمرّ لفترةٍ طويلة. وعليه فإنّ المصابين بذلك الاضطراب يتطلّبون وقتاً أطول من الناس العاديّين كي يعودوا إلى حالة التوازن العاطفي الطبيعي بعد خضوعهم لتجاربَ عاطفيّةٍ شديدة التأثير.
حسب الأخصائية في علم النفس مارشا لاينهان Marsha Linehan فإنّ حساسية وشدّة ومدّة الإحساس بالمشاعر لدى المصابين بهذا الاضطراب يترك آثاراً إيجابيّةً وسلبيّةً في الوقت نفسه، فهم غالباً ما يكونون مثاليّين ومفعمين بالسعادة والحب في حالة المشاعر الإيجابيّة، ولكنّهم بالمقابل يشعرون بطغيان المشاعر السلبيّة عند الأسى، فهم يشعرون بالفجع الشديد بدل الحزن، وبالخزي والإذلال بدل الحرج، وبالغضب بدل الانزعاج، وبالفزع بدل القلق.
غالباً ما يكون المصابون بهذا الاضطراب حساسين تجاه المشاعر المرافقة للرفض أو العزلة أو الفشل. في حالة عدم وجود بوادرَ للتأقلم فإنّ محاولات هؤلاء الأشخاص للتحكّم أو الهرب من المشاعر السلبيّة ربما تودي بهم في نهاية المطاف إلى إيذاء الذات أو الانتحار. غالباً ما يكون المصابون باضطراب الشخصيّة الحدّي مدركين لشدة تأثير ردود أفعالهم على المشاعر السلبيّة، وبما أنهم لا يستطيعون التحكّم بها، فإنّهم يلجؤون إلى تعطيل تلك المشاعر بالكامل، وهذا يمكن أن يكون ضارّاً بهؤلاء الأشخاص، لأنّ مهمّة المشاعر السلبيّة هي تنبيه البشر إلى وجود ظرفٍ إشكاليٍّ ليقودهم إلى مواجهته في الحالة الطبيعيّة.
الانزعاج..
يكون المصابون باضطراب الشخصيّة الحدّي عُرضةً بشكلٍ خاصٍّ لحالة الانزعاج، أو للشعور بحالةٍ من المعاناة الذهنيّة والعاطفيّة. قامت مجموعة بحث زاناريني Zanarini بتمييز أربعة أصنافٍ من حالة الانزعاج، والتي تكون نمطيّةً ومرافقةً لمرضى اضطراب الشخصية الحدي وهي: المشاعر الجامحة، التدمير أوالتدمير الذاتي، والشعور بالتجزئة أو بنقص الهوية، والشعور بالتضحية. ضمن هذه التصنيفات يترافق تشخيص الحالة ترافقاً كبيراً مع مزيجٍ من ثلاث حالاتٍ محدّدة: وهي الشعور بالخيانة، والشعور بالأذى النفسي، والشعور بالوجود في حالةٍ خارجةٍ عن السيطرة. وبما أنّ هناك تنوّعاً كبيراً في أنماط حالات الانزعاج المصادَفة لدى مرضى هذا الاضطراب، فإنّ مقدار المعاناة يعدّ مؤشّراً مهمّاً على وجود اضطراب الشخصيّة الحدّي.
بالإضافة إلى المشاعر الجامحة قد يعاني المصابون من التقلقل (أو عدم الثبات الانفعالي)، أو تقلّب المشاعر؛ إذ يتأرجح مزاج المصابين باضطراب الشخصيّة الحدّي في العادة بين الغضب والقلق، وأحياناً بين الاكتئاب والقلق.
السلوك الاندفاعي..
يشيع السلوك الاندفاعي عند مرضى اضطراب الشخصيّة الحدّي بما في ذلك تعاطي مواد الإدمان، أو معاقرة الكحول، أو اضطرابات الأكل، أو التهوّر في القيادة، أو تبذير النقود. كما يمكن أن يصدر عن المصاب به سلوك اندفاعي يتمثّل بهجر العمل أو العلاقات، أو بالهرب.
يتصرّف المصابون بهذا الاضطراب باندفاعيّةٍ، لأنّها تمنحهم شعوراً بالارتياح الفوري من آلامهم الانفعاليّة، وذلك دون التفكير بالعواقب على المدى الطويل، والتي ستزيد من معاناتهم بالشعور بالخزي والندم جرّاء تلك الأفعال. يصبح الأمر في النهاية حلقةً مفرغةً تبدأ بشعور مرضى هذا الاضطراب بألمٍ انفعاليٍّ ينتج عنه سلوك اندفاعي للتخلّص من ذلك الألم، ثمّ الشعور بالندم على ذلك السلوك، ممّا ينجم عنه رغبة أقوى من ذي قبل بالتخلّص من ذلك الألم الانفعالي، وهكذا دواليك. وبمرور الوقت يصبح السلوك الاندفاعي ردّ فعلٍ آليٍّ تجاه الألم الانفعالي.
إيذاء النفس والانتحار..
يكون إيذاء النفس أو السلوك المؤدي للانتحار أحد شروط التشخيص الرئيسة لاضطراب الشخصيّة الحدّي في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-IV-TR. يكون كل من إيذاء النفس والإقدام على الانتحار ردّا فعلٍ على الإحساس بالمشاعر السلبيّةٍ. إنّ إدارة وعلاج هذا السلوك معقّد وليس بالأمر الهيّن. تتراوح نسبة المخاطرة في الانتحار عند المصابين بهذا الاضطراب ما بين 3% و10%، وتشير دراسة إلى أنّ نسبة الانتحار عند الرجال المصابين باضطراب الشخصيّة الحدّي أكبر بحوالي الضعفين مقارنةً بالنساء المصابات. وتشير دراسة أخرى إلى إمكانيّة وجود نسبةٍ معتبرةٍ من الرجال الذين أقدموا على الانتحار، ولديهم أعراض غير مشخّصةٍ من اضطراب الشخصية الحدي.
إنّ إيذاء النفس عند المصابين باضطراب الشخصيّة الحدّي أمر شائع، ويمكن أن يحدث مع أو بدون نيّة الانتحار، إذ إنّ الأسباب المؤدية لإيذاء النفس تختلف عن الأسباب المؤدية لمحاولات الانتحار. تتضمّن الأسباب المؤدية لإيذاء النفس دون الانتحار إظهار مشاعر الغضب، ومعاقبة النفس بالألم الجسدي لمحاولة حيودها عن الألم الانفعالي أو الظروف الصعبة. بالمقابل فإنّ محاولات الانتحار تعكس غالباً إيماناً بأنّ الآخرين سيكونون بحالٍ أفضلَ بعد الانتحار. وجدت دراسة أن الانتهاك الجنسي يمكن أن يكون عاملاً مؤثّراً ومؤدياً للانتحار عند المراهقين الذين لديهم ميل لاضطراب الشخصيّة الحدّي.