25 ديسمبر، 2024 12:00 م

استيلاء النقل على إنجازات العقل

استيلاء النقل على إنجازات العقل

خاص : بقلم – د. رضا خالد :

من عجائب قصة تطور العلوم الدينية لدى المسلمين أنها تنشأ بفضل براعة وإبداع أهل الرأي لتنتهي باستحواذ أهل النقل عليها بعد تحويل مسارها من علوم منفتحة على سؤال العقل إلى علوم جامعة لسجل النقل.

بدأ الفقه كعلم منظم له مصادره وقواعده مع “أبي حنيفة”؛ حتى قال “الشافعي”: “الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة”.

وكان فقهًا يقوم على إخضاع مرويات أهل النقل إلى حكم القرآن والعقل وطبائع الاجتماع ويتفاعل مع الواقع عبر آليات القياس والاستحسان والعرف.

وظل هو الفقه الغالب قرابة قرن من الزمن.

جاء “الشافعي” فتشبع بمنهجية أهل الرأي وكرع من مصادر أهل الحديث لينقلب على الفقه الحنفي ويُكرس باسم الجدل العقلي أولوية النصوص. يتجلى ذلك واضحًا في كتابه (الرسالة)، حيث يُجادل شخصًا وهميًا من أهل الرأي ويُفند حججه كما يرد ذلك أيضًا وفي فصول من كتابه (الأم).

ثم بلغ الانقلاب ذروته مع “أحمد بن حنبل”؛ الذي جعل المرويات في المركز وضيق مجال العقل في الفقه إلى أبعد الحدود معتبرًا: “ضعيف الحديث خيرًا من صحيح الرأي”.

ما حدث في الفقه حدث في علم الكلام، حيث كان المعتزلة هم من نظم هذا العلم ونشره وطرح جملة قضاياه في حرية وتنوع جديرين بالإعجاب. ففشا الاعتزال في الكلام والفقه والتفسير قرابة القرنين.

كان الاعتزال يقوم على حرية السؤال وأولوية العقل حتى جعله المعتزلة أول مصادر المعرفة وأساس كل العلوم الدنيوية والدينية على حدٍ سواء.

وكان أهل الحديث أشد خصوم المعتزلة؛ قد وجدوا في “الشافعي” أول مجادل يُقارع أهل العقل بحجج العقل دفاعًا عن المرويات وتحديدًا لمجال عمل العقل وتبريرًا لأولوية النصوص.

لكنه كان فقيهًا وليس متكلمًا. وما أنجزه في الفقه لم يكن بمقدوره إنجازه في الكلام. ولكن أحد أتباعه قام بذلك بعد أن تشبع بمنهج المعتزلة وتقنيات الحجاج. ونعني بذلك “أبوالحسن الأشعري”؛ الذي انقلب على المعتزلة معلنًا صراحة أنه على عقيدة “أحمد بن حنبل”.

فانتصر لأهل الحديث مكرسًا مقولاتهم ومعتقداتهم من الإيمان بالقضاء والقدر وأزلية القرآن الكريم ورؤية الله في الآخرة والصراط والشفاعة والدجال وتداخل الجن في الأنس ووجوب طاعة السلطان وحصر الخلافة في “قريش” وتقسيم المسلمين إلى أهل السُنة وأهل البدعة وأن الأولين هم الفرقة الناجية وسواهم في النار…

ثم جاء الخليفة “القادر” في بداية الألفية الثانية ليجعل من ذلك الإعتقاد المذهب الرسمي لكافة المسلمين ويُصدر به مرسومًا لا يحل مخالفته.

ما حدث في الفقه والكلام حدث في التفسير وفي الفكر السياسي.

تبدأ الأمور بحثًا عقليًا لتنتهي سجلاً مرويًا من “الطبري” إلى “ابن كثير” في التفسير، ومن “ابن المقفع” إلى “ابن تيمية” في الفكر السياسي، ومن “الماوردي” إلى “الفراء” في الفقه السلطاني.

(هكذا يبدو تاريخ الفكر الديني والسياسي لدى المسلمين تاريخًا يسير وفق خط تراجع مستمر عن النظر الحر والسؤال المتطلع إلى آفاق جديدة نحو تسليم متزايد للمرويات وتكرار كثيف لأقوال السلف الصالح أي السابقون من أهل النقل ومن على شاكلتهم).

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة