خاص : بقلم – محمد البسفي :
إن كنت ممن يريدون معرفة حقيقة وضعنا – كشعب – في ظل قروض صندوق النقد والبنك الدوليين والمؤسسات الائتمانية لدول الاتحاد الأوروبي، التي دلفت مصر تحت ظلالها منذ أكثر من أربعة عقود ونصف العقد – برغم كل تلك الضجة التي تعلو الآن حول قرض صندوق النقد الدولي الأخير لمصر – وإنما تسارعت فقط وتيرة خطواتنا إليها منذ السنوات الثلاث الأخيرة لإقامة “دولة السوق الحر المفتوح”، ومعرفة شروطها الاقتصادية التي تخلق مناخًا مجتمعيًا خانقًا للطبقات الكادحة والشغيلة الممثلة للأغلبية الساحقة من شعبنا، ورؤية “مشاهد” تأثيرات كل هذا على المجتمعات “المدانة” لتلك الجهات الدولية، وبدلاً من الغرق في العديد من الأبحاث والدراسات الاقتصادية وبين أطنان من الأرقام والمصطلحات اللوغاريتمية.. ليس عليك سوى فتح أوراق “د. رمزي بطرس نصيف”، تلك الشخصية التي نسّجها الروائي والمفكر صنع الله إبراهيم عام 1996، ضمن روايته “التسّجيلية” (شرف)، التي رصد خلالها حياة مدير مصري لأحد الشركات متعددة الجنسيات والنشاطات من واقع كتاب “Stanley Adams” عن شركة “روش” 1984، وكتابات “رشدي سعيد” ودراسات “رمزي زكي” عن الديون والتضخم وأزمة الدول النامية والليبرالية المتوحشة، وغيرها الكثير من الدراسات والكتب.
الدكتور رمزي بطرس، الذي دخل محراب دول المال “بازل” سويسرا، وعمل بسوق دول جنوب أميركا الجنوبية النامية (200 مليون شخص يقل دخل الواحد منهم الشهري عن 60 دولارًا وعشرة ملايين عاطل)، قائلاً: “كنت في كراكاس عاصمة فنزويلا في 1989؛ عندما فرض عليها صندوق النقد الدولي خطة تقشف رفعت أسعار الطاقة بنسّبة 80 بالمئة والمواصلات بنسّبة 50 بالمئة، فثار الأهالي وخرجوا إلى الشوارع وشاهدتهم ينهبون المحلات التجارية بينما العسكريين المدربون على حرب العصابات يحصدونهم بالمدافع الرشاشة”.
ويحاول تلخيص فلسفة رجال “صناعة” الرأسمالية العالمية وشركاتها العابرة للقارات: “لكن رجال البيزنس لا يملون البحث عن مصدر جديد للربح بأي ثمن. ويزعم فلاسفتهم أن هذه الخاصية بالذات هي المسؤولة عن التقدم الحضاري. وسرعان ما ابتكروا مفهومًا جديدًا يسمح بتوسّع لا حدٍ له.
“فبوسّع أي شركة قابضة أن تمتلك أي عدد من الشركات العاملة في مجالات متباينة دون أن تخرق القوانين المعادية للاحتكار.
هذا المفهوم عبّد الطريق لظهور ونمو شركات عملاقة متعددة النشاط والجنسيات ذات إمكانيات هائلة”.
وأمام هذه الفلسفة والنظرة الربحية الصرفة يهّون كل شيء وتهّون بالتالي الأرواح البشرية لشعوب الدول الفقيرة بالطبع، “هل يعرف أحد أن حكومات إنجلترا وفرنسا وسويسرا تعفّي صادرات الأدوية من الرقابة على السلامة والنوعية والجودة وهي الرقابة المفروضة محليًا على أي دواء جديد قبل الترخيص بتوزيعه ؟ وأن هيئة الغذاء والدواء في أميركا تسّمح بتصدير الأدوية التي انتهى تاريخ مفعولها أو غير مسّجلة نهائيًا تحت عنوان “استقصاء”.. لتجربتها على الشعوب الأخرى ؟.
“هناك أكثر من عشرين ألف شخص يموتون سنويًا في العالم الثالث من جراء استخدام المبّيدات الحشرية التي لم يُعّد الغرب يستخدمها على نطاقٍ واسع. جهل السكان هو السبب كما يقال ؟ أبدًا. بدليل هذه القصة التي وقعت في مصر دونًا عن أي بلاد الدنيا.
“في 1978، وكنت وقتها في فنزويلا، أعلنت مجلة (دير شبيغيل) الألمانية أن شركة (سيباغايغي-Ciba Geigy) السويسرية للأدوية، قامت بتجربة المبّيد الحشري (غاليكرون-Galycrone) على أطفال وشباب مصريين بعد أن ثبت أنه يسبب أمراضًا سرطانية لفئران التجارب وأن تقريرًا أميركيًا سّجل ظهور نزيف دموي في بول الفلاحين في نفس اليوم الذي استخدم فيه المبّيد. وفي أعقاب نشر النبأ أصدرت الشركة بيانًا اعترفت فيه بأن: “بعض الأطفال المصريين أصيبوا بالسرطان نتيجة استخدام مبّيد (غاليكرون) عام 1976”. وكان رد فعل السلطات المصرية مضحكًا فقد أعلنت وزارة الصحة أنها لا تسّمح بإجراء تجارب على أي مواطن تعرض حياته للخطر، وأن تجارب استخدام الـ (غليكرون) كانت على دودة القطن وليس على المواطنين ! ونفت أن تكون أية آثار ظهرت على المواطنين والأدهى من ذلك أنها دافعت عن المبّيد وأكدت أن الأبحاث الجديدة عليه أكدت خلوه من الآثار الضارة على الحيوان والإنسان ولهذا أعيد تسجيله في قائمة المبّيدات المسّموح بتداولها في مصر. أما ممثل الشركة في القاهرة فأعترف بأن المبّيد يُسّبب “بعض المتاعب الصحية” للأطفال المصريين بسبب جريهم في الحقول وراء طائرات الرش ونفى أن تكون حدثت إصابات سرطانية”.
ثم ينتقل “صنع الله”؛ عبر شخصيته رمزي بطرس، في خطوة استشرافية داخل المجتمع المكسيكي الذي يُقارنه بمجتمعنا المصري، وكأنه يتنبأ بـ”مطابقة” النسّختين (مكسيك التسعينيات توازي مصر الآن).. يقول رمزي: “المكسيك أمم ولغات.. قرابة التسعين مليونًا.. وعاصمتها ستُصبح قريبًا أكبر مدن العالم، يسّكنها الآن 16 مليونًا أو أكثر. الزحام والمواصلات والضجة والوجوه المتجهمة، كل شيء يُشعرك أنك في القاهرة. الأهرامات.. نعم. عندهم أهراماتهم.. والقصور الجديدة التي يملكها أهل البيزنس ومهربو المخدرات والمتقاعدون من الساسّة وقادة الشرطة، بينما تتكوم عائلات مكونة من خمسة أشخاص وأكثر في غرفة واحدة. ثُلث سكان العاصمة بهذا الشكل. والتلوث.. كل يوم 11 ألف طن من العادم في الهواء. إذا خرجت من السيارة لبضع دقائق يسّود قميصي ووجهي. الشوارع الجانبية حية ومزدحمة طول الوقت.. حوانيت الميكانيكية والسمكرية في كل مكان. حوادث السيارات كل يوم. عشش الصفيح. كأنك في القاهرة. فارق واحد يتضح على الفور. فعلى عكس القاهرة المؤدبة المسّتكينة، المظاهرات هناك كل يوم. مظاهرات تهتف لكاسترو أو للحمر وهم السكان الأصليين، ومظاهرات ضد الجوع وضد الاعتقالات.
“المكسيك أيضًا جنة للسّائح الذي معه دولارات. في سنة 76 خفضت الحكومة قيمة العُملة إلى النصف لسّداد 20 مليار دولار سبق أن استدانتها من أجل التنمية. الفكرة أن التخفيض سيؤدي إلى تخفيض قيمة الصادرات بالنسّبة للدولار وبالتالي زيادة حجمها. ومن حصيلتها يمكن تسّديد الديون. وهذه هي وجهة نظر صندوق النقد وأنصار التخفيض. أما الواقع فمختلف. المضحك هو أن الديون التي تم التخفيض بزعم تسّديدها جاء أغلبها من أميركا وتولى رجال الحكومة والصناعة تهريّبها إلى أميركا مرة أخرى في صورة استثمارات خاصة لهم دون تنمية أو دياولو”.
وبجانب كل هذا الفقر وقذارته واختناق شوارع المدينة، هناك مدينة أخرى تعمّرها طبقة أخرى من السّماسرة والوكلاء والسُّياح ومن على شاكلتهم: “في البداية كنُت مثل السّواح تمامًا. رحلات في أنحاء البلاد حيث الطبيعة الوحشية المتنوعة. ذهبت إلى Acapulco التي حولتها قروض البنك الدولي من قرية صيادين إلى جنة سياحية للأثرياء، حيث يمكن للواحد في فندق (البريزيدنتي-IL Presidenti) أن يشرب كأسًا من النبيذ وهو داخل حمام السباحة.. تفرجت على مصارعة الثيران وجربت رياضة تسّلق الجبال.. استمعت بألوان الطعام والفنون.. الأسماك المشوية في ورق الموز. التورتيلا وفاكهة البابابا والموسيقى الشعبية ولوحات ريفيرا وسيكورس العملاقة وآثار حضارة الآزتيك الرفيعة في وسط البلاد والمايا في جنوبها.
“التاريخ الحديث لبلدينا حافل بأوجه التماثل أيضًا، من الثورات الفاشلة حتى صندوق النقد الدولي”.
ويُدقّق الدكتور رمزي، النظر أكثر في واقع المكسيك الزراعي: “لقد تحولت الزراعة من الإنتاج المحلي (الذرة والقمح) إلى الإنتاج من أجل التصدير (البصل والخيار والطماطم والإسبرجس والفراولة). والنتيجة أن المكسيك تجد نفسها مضطرة للاستدانة من أجل الحصول على القمح والذرة لأن الناس لا يمكن أن تُغمّس الجبن بالفراولة (التي تعجز عن شرائها لارتفاع سّعرها). وتكتمل الدائرة الخبيثة إذا عرفنا أن 56 بالمئة من الفواكه والخضراوات المُنتّجة للتصدير في أميركا الوسطى تُلقى حرفيًا في الزبالة لأنها إما تواجه سوقًا متخمة في الولايات المتحدة أو لا تسّتوفي المعايير الجمالية للمسّتهلكين هناك ! كما أن الأرض التي يحصل عليها المستثمرون بثمنٍ رخيص يستخدمونها بصورة رخيصة تؤدي إلى استنزافها باستخدامٍ مدُمر للري والمبّيدات. لكن الشركات الزراعية تُدرك أن بإمكانها الانتقال إلى أراضٍ جديدة أو حتى إلى بلد آخر حيث يمكن بدأ العملية برُمتها من جديد !”.
“في وادي ثامورا رأيت مشهدًا مُثيّرًا من نوعٍ آخر. في البلدة التي تحمل هذا الاسم مئة ألف من السّكان وتأتي آلاف أخرى إلى الوادي بحثًا عن عمل وينامون في الطرقات حيث تُمثل نفقات المواصلات بالنّسبة للبعض 30 بالمئة من الأجر اليومي إذا وجدوا عملاً. ويعيش أكثر من ثلاثة أرباع السُكان في أحياء من الكرتون تطوق البلدة بعرض نصف ميل بلا مرافق صحية ولا مياه جارية والقليل من الكهرباء. وهناك أيضًا قصور يملكها مليونيرات الفراولة.
“شاهدت خمسة آلاف باحث عن العمل محتشّدين من الخامسة صباحًا بجوار محطة القطار. وفي حراسة عسكريين مسّلحين بالبنادق نصف الآلية كانوا ينتظرون مجيء مندوبي الشركات الزراعية في الشاحنات لينتقوا بضع مئات من العمال يتقاضون أقل من الحد الأدنى القانوني للأجر وهو ثلاثة دولارات يوميًا. ويقنع النساء والأطفال بثُلثي هذا المبلغ”.
“الواردات الأجنبية في كل مكان. نجحت الخطة الأميركية التي رعاها البنك الدولي لخلق طبقة متوسطة متلهفة على شراء الواردات. من أميركا بالطبع. انهالت القروض من البنوك التي تجمعت فيها أموال النفط العربي بعد 73، وصار البنك الدولي في كل مناسبة يستشهد بالمكسيك ليُدلل على نجاح مفهومه للتنمية. أما الأزمة التي ظهرت سنة 76 فقد حلتها الحكومة كما ذكرت من قبل بتخفيض العُملة. لهذا فإن ما حدث عام 1982 جاء مفاجأة. أعلنت المكسيك فجأة ودون مقدمات عجزها عن تسّديد ديونها الخارجية لأكثر من 500 بنك.
“تقدمت أميركا بخطة تقوم على تكرار الروشتة السابقة التي أودت باقتصاد المكسيك: تخفيض مجمل قيمة الديون مقابل التزام المكسيك بالعودة لتسّديدها عن طريقين: الأول هو الاقتراض من جديد والثاني بيع المواد المحلية أي الصناعات والأراضِ والغابات، بأثمان زهيدة للمستثمرين الأجانب والمحليين.
“تدفقت الاستثمارات مرة أخرى. وخرجنا من هذه العملية بنصّيب الأسد إذ أشترينا عديد من شركات الدواء الصغيرة والصيدليات بل وبعض مؤسسات العلف الحيواني وشركات أخرى بأثمان زهيدة للغاية. كنت أبعث بتليكس إلى بازل ذاكرًا مواصفات الشركة المعروضة للبيع. وكان الرد دائمًا كلمة واحدة: أشترِ…
“طبعًا لم نعبأ بالمظاهرات التي عمت البلاد. اليسار تحرك ورفع شعار “لا لبيع المؤسسات العامة”. وتجمعت قواه خلف مرشح واحد للرئاسة كان معروفًا بعدائه لسياسة الخصخصة وأوشك على الانتصار في انتخابات 88. لكن النتيجة زُيفت وجاء إلى الحكم منافسّه ساليناس. كان معروفًا بأنه من رجال الصندوق، وكان شديد الدهاء. لم يستخدم تعبير الخصخصة وإنما ابتكر تعبيرًا جديدًا هو “فك الشركات”. وتمت هذه العملية بهدوءٍ شديد.. شهدت فترة ساليناس ازدياد نفوذ تجار ومهربي المخدرات وأصبحت المكسيك منتجًا كبيرًا للماريغوانا والهيرويين. عصابات كبرى تخصّصت في الترويج والتهريب معتمدة على رشوة رجال الشرطة والجيش والحكومة. كان التهريب يتم بواسّطة مركبات عسكرية خاصة بالقوات البحرية المكسيكية تدعمها مدفعية مضادة للطائرات. وبلغت ثروة ساليناس 500 مليون ودولار في بنوك الخارج. طبعًا مبلغ صغيرة بالمقاييّس المصرية. كما قلت أوجه الشّبه معنا كثيرة…
“انفجرت فقاعة الازدهار في 1994. وللمرة الثالثة أعلنت المكسيك عجزها عن تسّديد ديونها. وأجرت تخفيضًا جديدًا للعُملة. وفي لحظة واحدة ارتفعت قيمة الدولارات لدى المستثمر الأجنبي إذ بدأت أسعار السّلع المكسيكية بالدولار تنخفض يومًا بعد يوم. وفي نفس الوقت ارتفعت أسّعار نفس السّلع بالبيسو، العُملة المحلية، دون أن تتحرك الأجور.
“سّارعت الولايات المتحدة بترتيب صفقة إنقاذ من عدة قروض بلغت خمسين مليارًا من الدولارات قدمتها هي وصندوق النقد الدولي وبنوك أخرى مقابل أن تودع المكسيك كل عائداتها من النفط والمنتجات البتروكيماوية لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك تحت السّيطرة الفعلية للولايات المتحدة بحيث تُصادر فورًا إذا توقفت عن سّداد ديونها. فضلاً عن تقرير اسبوعي مفّصل عن الوضع الاقتصادي تُقّدمه المكسيك للدائنّين. مع الالتزام بتقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والصحية وغيرها.
“علقت صحيفة (الموند ديبوماتيك) الفرنسية على هذه العملية بقولها: خمسون مليارًا من الدولارات مقابل الاستيلاء على تسعين مليون إنسان أي على آلاف الملايين من ساعات العمل المعروضة في سوق أقرب إلى أسواق الرقيق”.
وأصيب الدكتور رمزي بالاكتئاب نتيجة تناقضات حادة تجاذبته من العمل داخل “كواليس” الشركات مالتي ناشيونال والأوضاع العامة للشعوب المسّتهلكة لمنتجاتها: “تبيّنت أن فقر الأغلبية السّاحقة من الناس ضروري كي تتمكن أقلية قليلة من ممارسة التبذير. فحتى يُزّيد البعض استهلاكهم لابد أن يُخفّض الكثيرون منه. ولكي يلتزم هؤلاء بالحدود المرسومة لهم تقوم الأقلية بتكديّس الأسلحة الحربية وتتصدى للفقراء.
“رأيت الناس في الأرجنتين، وهي من أكبر الدول المُنتّجة للحوم في العالم: يعجزون عن تذوق اللحم، ومن النادر أن يحصل الأرجنتيني العادي على كوب من اللبن أو قطعة من الجبن. السبب أن الأرجنتين في حاجة إلى تصدير اللحوم لدفع ما عليها من ديون (لم يسّتفد منها هذا الأرجنتيني العادي) ولذلك يتجه مربو الماشية إلى التسّمين والتصدير ويذهب اللحم مباشرة إلى مصانع التجهيز العملاقة ليظهر بعد ذلك على شكل أقراص في محلات (ماكدونالد) أو علب تحمل صورة البقرة في شبرا.
“الناس الآن لا يعملون ليعيشوا بل هم يعيشون ليعملوا مثل شّغالة النمل. هناك ناس يعملون أكثر لأنهم لا يستطيعون توفير احتياجاتهم. وكما هو الحال في مصر، يقوم غالبية سكان أميركا اللاتينية بعملين في وقتٍ واحد، وأحيانًا ثلاثة، فليست أمامهم وسيلة أخرى للخلاص من الجوع.
“الوقت يتناقّص وثمنه في تزايد مستمر. أصبح يُباع ويؤجر. لكن من هو سيد الوقت ؟ إن السيارة والتليفزيون والفيديو والكمبيوتر والتليفون المحمول وغيرها من أدوات الرفاهية التي اُبتكرت لربح الوقت أو تبدّيده أصبحت تتحكم فيه. فالسيارة تحتل حيزًا مكانيًا في المدن وتستهلك وقت الإنسان، إنها نظريًا تُفيد في اقتصاد الوقت لكنها في الواقع تسّتنفذه. ذلك إن جزءًا هامًا من الوقت المخصّص للعمل يستخدم في تسّديد ثمن الانتقال إلى مكان العمل وهذا الانتقال يتطلب المزيد من الوقت بسبب تعطل حركة السّير”.
وبالطبع مثل هذه الاقتصاديات تُنتّج مجتمعات جديرة برصد “رمزي بطرس”: “المجتمع الاستهلاكي يبتلع الناس ويُجبّرهم على الاستهلاك بينما يُقدم لهم التليفزيون دروسًا في العنف. هكذا يمكن أن يعيش المُعّدمون بعيدًا عن الميسّورين لكنهم يطلون عليهم يوميًا من خلال الشاشة الصغيرة التي تعرض فجور الاستهلاك الفاحش وفي نفس الوقت تُلقنهم كيف يشّقون طريقهم في الحياة برصاص السلاح.
“العنف الذي يشهده الشارع ليس إلا امتدادًا للعنف على الشاشة. فالتجول في شوارع أميركا اللاتينية أصبح خطرًا لكن البقاء في البيت أخطر. المدينة سجن فمن لم يكن سّجين الفاقة فهو سّجين الخوف، من يملك شيئًا مهما كانت تفاهته يشعر أنه مُهّدد ويخشى أن يُصبح ضحية لاعتداءٍ ما، أما من يملك الكثير فيعيش منعزلاً في أبراج الأمان، تلك العمارات والمجمعات السّكنية الضخمة المزودة بكاميرات المراقبة والحراس المسّلحين والتي تنتشر في أنحاء بلادنا.
“لم تُعد للإنسان أية قيمة. اختفت نغمة رعاية الأطفال بعد أن تخلت الدولة عن دور الرعاية استجابة لتعليمات صندوق النقد الدولي. أصبح التخلص من الأطفال الزائدين، أطفال الشوارع الفقراء والعمال والمُهمّشين، يتم بواسطة الجوع والرصاص: فهم ليسوا صالحين للمجتمع والتعليم حق الذين يستطيعون دفع ثمنه أما من لا يستطيعون فليس لهم الحق في الوجود. في غواتيمالا اغتالت الشرطة أكثر من أربعين طفلاً من المتسّولين والذين كانوا يعبثون في صناديق القمامة وقد عُثر على جثثهم مشّوهة مفقودة العيون مبتورة الآذان ومدفونة مع الفضلات. وعندما انتشرت ظاهرة أطفال الشوارع في البرازيل تشكلت فرق إعدام من رجال شرطة سابقين ومهربي مخدرات طاردتهم مثل الكلاب الضالة وقتلت منهم 457 طفلاً عام 1989 وارتفع الرقم في 1993 إلى أربعة أطفال يوميًا.
“بلدان عديدة في أميركا اللاتينية ألغت عقوبة الإعدام. لكنه يُمّارس بها يوميًا لحماية حق الملكية. ففي بيونس إيرس أواسط 1990 أطلق مهندس النار على طفلين سّرقا راديو سيارته. وعلق أهم صحافي أرجنتيني على الحادث في برنامج تليفزيوني قائلاً: لو كنت مكانه لفعلت الشيء نفسه”.
“اليوم تبيع الدولة المؤسسات العامة مقابل لا شيء. إنها تُسّلم المفاتيح وكل ما تبقى إلى المحتكرين الدوليين: عدة مئات من الشركات والبنوك العالمية التي تملك القدرة على التلاعب بالناس وأموالهم، بينما تتحول هذه الدول إلى أسواق حرة أما التكنوقراطية الدولية. فتحاول إقناع الناس بأن تحرير السوق هو سر تحقيق الثروة. إذا كان الأمر كذلك فعلاً فلماذا لا تُطبقه البلدان الغنية التي تنصح به ؟ ذلك أن السوق ليس حرًا على الإطلاق في فرنسا وألمانيا وكندا بل والولايات المتحدة نفسها”.
ومن شخصية الدكتور رمزي بطرس بـ (شرف)؛ إلى (أمريكانلي) مازلنا مع “صنع الله إبراهيم”، يُسّجل قول أحد شخصياته – بالأرقام الدامغة – الأميركية، الراصد لأميركا أخرى لم ولن نرها في الميديا البرجوازية – أميركا الخلفية – التي تصّفها إحدى إداريي المؤسسة الأكاديمية لأستاذ التاريخ المصري: “أنت من الناس الذين يتصورون الجنة هنا. هل تُحب أن تسّمع بعض الأرقام: بين 137 مليون يُمثّلون القوى العاملة الأميركية هناك 38 مليون يعملون بعض الوقت؛ و35 مليون يعملون وقتًا كاملاً بأجور تكفي بالكاد لإعاشتهم؛ ثم 8 مليون عاطل و7 مليون أجبروا على قبول التقاعد المبكر فانخفضت أجورهم إلى الرُبع و5 مليون داخل السجون. رأيت ؟ هل تعرف أن النسّبة بين أدنى أجر وأعلاه داخل المؤسسة الواحدة هو واحد إلى مئة وعشرين ؟
“الأجانب لا يعرفون أن نصف الأميركيين يُنفقون سبعين في المئة من دخولهم على السكن الذي يمكن أن يضيع منهم بسّهولة إذا تخلفوا عن دفع الإيجار أو قسّط الملكية. عندئذ يتنقلون بين أصدقائهم وأقاربهم ويتركون طفلاً هنا وآخر هناك. وبعد إقامة قصيرة في أحد الملاجيء ينتهي بهم الأمر في الشارع.
“في كل نصف ساعة يتسّرب 50 صبيًا من المدارس في “الولايات المتحدة”. وفي نهاية كل عام يبلغ عددهم مليونًا. كل هؤلاء يذهبون إلى الشارع. يعيشون حياة الصراصير والفئران. الأرصفة، قنوات الصرف، حاويات القمامة، محطات الباص وواجهات الحوانيت ومداخل البنايات. يتبولون ويتبرزون إلى جوار السيارات المركونة. البعض يعيش على جمع الفوارغ وغير ذلك من محتويات القمامة. وإذا أسعدهم الحظ نالوا بعض الحسّاء في بدرومات الكنائس، وتمتعوا بحمام ساخن في أحد الملاجيء”.