13 أبريل، 2024 5:37 ص
Search
Close this search box.

استراحة “محارب” أبدية وفارس يضع سيفه وقلمه ويرحل بعد أن قال كلمته .. “قيس العزاوي” مسيرة مثقف تلخص سيرة وطن !

Facebook
Twitter
LinkedIn

وكالات – كتابات :

أخيرًا وضعت رحلة الشقاء الطويلة لها نهاية.. ويوم السبت الـ 15 من كانون ثان/يناير وضع “مثقف التنوع والاختلاف” قلمه ومهمته التي اختارها لنفسه ودفع في سبيلها عقودًا من الغربة والهجرة والمطاردة، وأرتاح أخيرًا…

أعلن المكتب الإعلامي لـ”جامعة الدول العربية”، مساء يوم السبت؛ وفاة السفير الدكتور “قيس العزاوي”؛ الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، ورئيس قطاع الإعلام بالجامعة، إثر صراع مع المرض.

محطات في حياة “العزاوي”..

والسفير “قيس العزاوي”؛ هو سياسي عراقي؛ سبق وعين مندوب لـ”العراق”، في “جامعة الدول العربية”، لخمسة سنوات، ثم أصبح لاحقًا إلى جانب منصبه هذا؛ رئيسًا للجنة الإعلام في جامعة الدول العربية.

ودرس السفير “قيس العزاوي”، في “مصر” عام 1963؛ حيث التحق بجامعة “القاهرة” ثم جامعة “عين شمس”، وكان أتى بالأساس لدراسة القانون، لكنه اتجه لدراسة علم النفس، حيث حصل على الليسانس في هذا المجال، عام 1969؛ من جامعة “عين شمس”.

وسافر السفير “العزاوي”؛ لاحقًا إلى “فرنسا”، حيث درس بجامعة “السوربون” الفرنسية؛ وحصل منها على درجة الدكتوراة في تاريخ الدول العثمانية، حيث كان متخصصًا في علم الاجتماع العسكري، كما حصل كذلك على درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية من “معهد الدراسات الإسلامية” بالقاهرة.

وعاش السفير “قيس العزاوي”؛ لأكثر من 35 عامًا خارج “العراق” لمواقفه المعارضة، خصوصًا لمعارضته “اتفاقية شط العرب”؛ بين “العراق” و”الجزائر”؛ عام 1975. وكان ا”لعراق” ألغى جواز سفره العراقي، إلا أن السلطات السورية منحته جواز سفر سوري؛ عام 2003.

“الجامعة العربية” تنعي “العزاوي”..

ونعى الأمين العام لجامعة الدول العربية؛ “أحمد أبوالغيط”، السفير الدكتور “قيس العزاوي”، الأمين العام المساعد لشؤون الإعلام والاتصال، الذي وافته المنية اليوم بعد صراعٍ مع المرض.

وقدم “أبوالغيط”؛ التعازي لأسرة الفقيد، باسم “الأمانة العامة للجامعة” وجميع العاملين فيها، مؤكدًا أن السفير “العزاوي” كان قيمة كبيرة، لبلده، “العراق”؛ وللأمة العربية، وأنه مزج بين العمل السياسي والأكاديمي فأجاد وترك بصمة في كل مجال.

وقال الأمين العام إن فترة عمل الراحل الكبير بالجامعة كشفت عن حس عروبي صادق وإلتزام بالقضايا العربية والعمل العربي المشترك؛ صاحب “العزاوي” عبر مسيرته المهنية والأكاديمية، داعيًا المولى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يُلهم أسرته ومحبيه الصبر والسلوان.

نهاية حياة أشبه بأفلام الإثارة والرعب..

عاش غريبًا عن بلده، “العراق”؛ ما يزيد على ثُلث قرن من الزمان؛ منذ أن قدم إلى “مصر”، ليدرس فى جامعتي: “القاهرة” و”عين شمس”؛ وعمل في “مستشفى الأمراض النفسية” بالعباسية؛ وأسس فرقة مسرحية، ثم اضطر لظروف سياسية أن يتخلى عن اسمه الحقيقي ليعيش باسم حركي، وأن يسافر إلى “فرنسا” ويعيش في “باريس”؛ وألجأته الظروف للعمل في شركة نظافة، وهناك أسس مكتبة؛ وواتته الجرأة لينشر أعمال الفيلسوف الفرنسي؛ “روجيه غارودي”، الذي قاطعته دور النشر الفرنسية بعد إسلامه وتعرض للاغتيال.. وفي “بيروت” طارده الموت أكثر من مرة في أتون الحرب الأهلية، وعاد إلى “العراق” بعد غربة طويلة، أطلق عليه: “مثقف التنوع والاختلاف”.

حصل من “مصر” على ماجستير في الفلسفة الإسلامية، وفي “فرنسا” نال الدكتوراه من “السوربون”.. إنها رحلة حياة عجيبة التنوع تبدو كأفلام الإثارة والرعب؛ حافلة بالكفاح.. غايتها تكوين الذات والإسهام في صياغة مستقبل واعد ليس لوطنه فحسب.. لكن للمنطقة العربية.

فارس حياة “التنوع والاختلاف” يسردها بنفسه..

في حديث صحافي مطول؛ أجرته صحيفة (الأهرام) القاهرية؛ مع السفير “قيس العزاوي”؛ قبل أسابيع، سرد بنفسه مسيرته الشخصية الزاخرة بالحكايات، والأحداث وقصص كفاح، بقصد التأريخ لمرحلة مهمة جدًا ساهمت فى تشكيل المنطقة العربية سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا.

يقدم “العزاوي” لبداية رحلته الأكاديمية التي إنطلقت من “بغداد” إلى “القاهرة” ومنها إلى “باريس”، قائلاً: “وصلت إلى القاهرة، في السادس من أيلول/سبتمبر عام 1963؛ وسجلت في البداية في جامعة (القاهرة)، ثم انتقلت إلى قسم (علم النفس والاجتماع) بجامعة (عين شمس)، ودرست على يد الدكتور أحمد فؤاد فايق؛ والدكتور أحمد عكاشة؛ أستاذ الطب النفسي، والدكتور مصطفى زيور، والدكتور لطفي فهيم؛ والدكتور حسين عبدالقادر وغيرهم، عملت بعد ذلك لمدة عام في (مستشفى الأمراض العقلية) في العباسية، وإلى جانب دراستي كنت مهتمًا بالفن؛ فأسست فرقة مسرحية وكتبت مسرحية شعرية ساخرة ومثلتها على مسرح نقابة المهن الزراعية، وكان في القاهرة مخرج عراقي اسمه: عبدالهادى مبارك، قام بتسجيل المسرحية وعرضها في التليفزيون العراقي، وكانت الكارثة، فبعد يومين من عرض المسرحية في العراق حضر والدي إلى القاهرة؛ وهو في قمة الغضب فهو من العقليات المحافظة، وقال لي: “أنا أرسلتك إلى القاهرة لتدرس القانون لتصبح محاميًا، فدرست علم النفس ورضينا، ولكن أن تُصبح “ممثلاً” لابد أن ترجع إلى الإسلام”، وكأن التمثيل من وجه نظرة إرتداد عن الإسلام، فأقسمت له أنني لن أعيد الكرة مرَّة أخرى، فسجلت دراسة الماجستير في الفلسفة الإسلامية ودرست على يد أساتذة كبار منهم الدكتور الباقوري؛ والدكتور عبدالحليم محمود”.

بداية نضاله السياسي..

وعن أولى إرهاصات نضاله السياسي؛ يحكي “العزاوي”: أثناء وجودي في “مصر” انضممت لحركة (القوميين العرب) و(التنظيم الطليعي)؛ وتطوعت في الجيش المصري، وقالوا لنا سنكون في مجموعة المظليات في “مطار ألماظة”، لكن للأسف لم نُقاتل ورجعنا بيوتنا.

وفي “العراق”.. خرجت من “بغداد”، في 1963؛ لم أعد إليها إلا، في 1968؛ وتشاء الصدفة أثناء عودتي قام (حزب البعث العربي الاشتراكي) بعمل انقلاب عسكري، في يوم 17 تموز/يوليو 1968، وكان عمي وزير في هذا الانقلاب؛ بينما أنا “ناصري” أتحدث في إذاعة (صوت العرب)؛ وأتكلم عن البعثيين، وقتها قال “صدام حسين”؛ وكان أيامها نائبًا للرئيس، لعمي إنه سيقضي على كل “القوميين” وسيحبسهم، فساعدني عمي بعلاقاته ونفوذه على الخروج من “العراق” بجواز سفر باسم غير حقيقي، أنا اسمي: “قيس خزعل العزاوي”، فأصبح اسمي: “قيس جواد”، وقد تخرجت في الجامعة باسم: “قيس جواد”، وتزوجت وأنا اسمي: “قيس جواد” وعشت طوال: 36 عامًا باسم غير اسمي.

إعلان خبر وفاته إنقاذًا للعائلة !

ونتيجة لعملي بالسياسة وملاحقة نظام “صدام حسين” لي، أعلن أخي الكبير خبر وفاتي حتى لا تتعرض عائلتي للتنكيل؛ لكوني معارضًا لنظام (البعث)؛ وبالتالي مطرودًا منه، لقد كان النظام العراقي الذي كنا ضده، في ذلك الوقت؛ يُمارس أنواعًا من الاستبداد لم يعرف العالم مثيلاً لها من قبل، ولأنني كنت منتميًا لأول لتنظيم جبهوي معارض لنظام “صدام”، النائب في ذلك الوقت، وهو (التجمع الوطني العراقي)، قام النظام بالحجز على حصتي من ميراثي فحرمني من كل شيء.

قصد أميركا فبدأت رحلة الكفاح في باريس طيلة 34 عامًا..

ثم يعرج “العزاوي” في رحلة حياته إلى المحطة الفرنسية؛ فيكمل: في عام 1972؛ تركت “مصر” إلى “ليبيا”، وقمت بالتدريس في “طرابلس” سنتين دراسيتين؛ قررت بعدهما أن أكمل الدكتوراه في “أميركا”، وفي طريقي طلب مني صديق يدرس الدكتوراه هناك؛ التوقف في “باريس” لكي أسلم عليه، لمدة 24 ساعة؛ فبقيت في “باريس”؛ 34 سنة، لم أغادرها طوال هذه السنوات.

كانت أيامًا صعبة في البداية، لذلك أجبرت على العمل لكسب قوتي ونتيجة لعدم معرفتي باللغة الفرنسية؛ كان الحصول على وظيفة صعبًا جدًا، وفي النهاية وجدت عملاً في شركة تنظيف شوارع “باريس” صباحًا ومكاتبها مساءً، وكان الجو في فصل الشتاء في الصباح قارسًا جدًا، وكان معي زميل مصري؛ وكنا لا نستطيع الإحتفاظ بلبس المعطف لأنه يجعل حركتنا مقيدة وبطيئة، لذلك كنا مجبرين على خلعه فكنا نلف أوراق الصحف تحت القميص حول جسمنا حتى نحتفظ بالحرارة لنستمر في عملنا بالشارع، واستمرت الأمور على هذا المنوال لمده ثلاث سنوات؛ كنت أعمل منذ الصباح وأركب أول مترو الساعة الخامسة والنصف صباحًا، أبدأ العمل من السادسة حتى التاسعة بعدها أعود للاستحمام وأتوجه إلى الجامعة، وأعود في المساء من السادسة إلى التاسعة، أي أعمل 06 ساعات يوميًا، كل هذا لكي أدبر المال الكافي للسكن والدراسة، وفي السنة الثالثة انتخبني العمال مندوبًا لهم في النقابة؛ فكنت أجلس في مكتب وأدير مخزنًا لأجهزة وآلات التنظيف؛ فكانت بالنسبة لي وظيفة مريحة.

في باريس عينه ترقب الحال العراقي..

ردًا على سؤال عن الأسباب التي جعلته ينضم لصفوف المعارضة ضد “صدام حسين” في بداية توليه الرئاسة، قال “العزاوي”: لم يمنعني سفري خارج حدود الوطن؛ وتغيير اسمي وانشغالي بالعمل والدراسة، من ممارسة السياسة، في سنة 1975؛ عقب توقيع “صدام حسين”، “معاهده الجزائر”، مع شاه “إيران” لإنهاء الثورة الكُردية مقابل تنازل “العراق” عن نصف “شط العرب” التالوك وأراض عراقية على الحدود، فأصدرنا فى الهيئة الإدارية لـ”جمعية الطلبة العراقيين”؛ بيانًا نُدين فيه هذا الاتفاق، فما كان من “عزة الدوري”، وزير الداخلية العراقي”، إلا أن أصدر قرارًا بسحب جواز سفري وكانت الحرب بين (حزب البعث) السوري و(البعث) العراقي على أشدها، الأمر الذي جعل وزير الخارجية السوري؛ “عبدالحليم خدام”، يُقرر أن يمنحني جواز سفر سوري.

ولم تثنيني هذه القرارات عن ممارسة عملي؛ كمعارض شاركت مع مجموعة من العراقيين في “باريس”، بإصدار أول مجلة أدبية سياسية معارضة وهي: (أصوات).

مكملاً: وفي عام 1978؛ غادرت “باريس” إلى “بيروت” أنا وزوجتي وابنتي، تواجدنا فيها قرابة: 300 عراقي؛ وعملت في “مركز دراسات الوحدة العربية”؛ كمصحح، وبعد ستة أشهر، تبين للإدارة أنني مولع بالعمل، فقام المدير بترقيتي لأصبح سكرتير تحرير مجلة (المستقبل العربي)؛ وقمت أنا ومجموعة من الصحافيين بتأسيس مجلة (فهرست)، وكنت مديرًا لتحريرها تحت اسم: “أحمد جواد”؛ وهو اسم حركي، وأسسنا “اتحاد الديمقراطيين العراقيين”، وكان بمناسبة تولي، “صدام حسين”، السلطة وجرت انتخابات الهيئة الإدارية للاتحاد من خمسة أعضاء؛ هم: “عادل وصفي ومحمد الحبوبي وتحسين الشيخلي، والزهيري أبوأيوب وقيس العزاوي”، وأرسلنا رسالة إلى “صدام حسين”؛ مضمونها أننا نأمل أن يبدأ عصر جديد فيه حرية صحافة وحرية أحزاب، وبعد بعث الرسالة بيومين، اتصل بي، “عادل وصفي”؛ ليقول لي هددوني بالقتل، قلت له لماذا يهددونك ؟!.. نحن لم نفعل لهم شيئًا؛ نحن ديمقراطيين نطالب بحرية الصحافة ولا ندعو للعنف؛ مطالبنا سلمية ومشروعة، قلت له لا تخف.

في قلب النار والجنون..

يواصل “العزاوي” سرده لقصة كفاحه في “بيروت” وهروبه من موت محيط، قائلاً: وفي صباح اليوم التالي كان يودع زوجته ليذهب إلى عمله؛ اقترب منه شخص على ظهر دراجة نارية وصوب إلى رأسه مسدسًا كاتمًا للصوت وأطلق عليه الرصاص أمام أسرته وقتلة.. أصبت بالذعر واجتمعت مع اللجنة الإدارية؛ وبدورها استعلمنا من القيادات الفلسطينية فعرفنا أن مجموعة اغتيالات أرسلت من “بغداد” ومعها صورنا، لذلك لابد من أخذ الاحتياطات الحازمة، وبعد شهر تقريبًا كان “تحسين الشيخلي” يزورني في منزلي، وعندما استدرك معتذرًا من ابنتي التي كان يجلب لها كل مرة الحلويات ووعدها بأنه سيمر بمنزله ويقدم لها شيكولاتة، ولكنه وبالقرب من منزله، أطلقت عليه من كاتم صوت عدة رصاصات على رأسه وسقط قتيلاً.

بعد شهر من اغتيال “عادل”، جاء حادث “أبوسلام”؛ الذي اغتالوه بثلاث رصاصات وهو يعبر “جسر الكولا”، نفس الطريقة تكررت، سافر “أبوأيوب” إلى “صيدا”، وبقيت أنا و”محمد الحبوبي”، على أثرها أخبرنا “أبوالهول”؛ مسؤول الأمن بمنظمة (فتح) وقيادي آخر من (الجبهة الديمقراطية)؛ لـ”نايف حواتمه”، وحذراني قائلين: “أنتم و13 شخصية سوف تُقتلون واحدًا تلو الآخر”، وبعدها انتقلت أنا وزوجتي وأولادي إلى السكن فوق بناية المخابرات العراقية، وهو مقر “مركز دراسات الوحده العربية” و”مصرف الرافدين”، كانوا يُطلقون عليه: “محطة المخابرات”، أقمت في المركز حتى حدثت مواجهات بين (البعث) السوري و(البعث) العراقي؛ على إثر تفجير السفارة العراقية في “بيروت”، عام 1981؛ وكُتبت لي النجاة.

ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي الذي بدأ في الجنوب؛ وحاصر “بيروت”، وكنت أسكن في “حي جامعة الدول”، وهو حي خطر جدًا، وقد قصف بيتي بصاروخ، ومن حسن الحظ أنه نزل في صالة الاستقبال ودمرها؛ ووقتها لم نكن في البيت، وأصبح الأمر أكثر خطورة، فانتقلنا إلى بيت “بشير الدعواق”، واستمر القصف وكانت المشكلة الرئيسة ندرة الماء وكانت تأتي في أيام محددة ساعة واحدة، وكان مفتي الديار اللبنانية يبعث إلى ملك “السعودية” يتوسط لدى “ريغان”؛ فيكلم “بيغن”؛ و”بيغن” يُعطي إذنًا حتى يوصلوا لنا الماء لمدة ساعة من باب الإذلال، والمشكلة لم تكن في فقط شرب الماء، ولكن فى استخداماته.

وفي ظل كل هذه الظروف الصعبة، طلبت من زوجتي الفرنسية أن تتركني وتسافر إلى “فرنسا”، لكنها رفضت.

ومن المواقف الصعبة التي عايشتها في “بيروت”؛ ذات صباح فتحنا النافذة وجدنا الدبابات الإسرائيلية تجتاح المدينة؛ تُفتش عن الفلسطينيين والسوريين؛ وكنت أنا أحمل هوية نقيب فلسطيني حتى يحق لي حمل السلاح وجواز سفر سوريًا، وهو ما يبحثون عنه؛ وكادت القوات الإسرائيلية تُلقي القبض عليّ لولا أن تدخلت سيدة تسكن في البناية هي وزوجها؛ لتقول للإسرائيليين بأن السكان أوروبيون ولا أثر للمخربين في البناية.

عشت هذه الفترة بكل أحداثها الحزينة، فقد حدثت بالقرب منا؛ مجزرة “صبرا وشتيلا”، فقد تحول كل شيء إلى سواد كان الواقع مظلمًا ومرعبًا؛ انقلبت الدنيا كلها ضد وجودنا.. الحزن يملأ الأرض والسماء في كل الأرجاء دموع وقلق، مضت أيام وإذا بفاجعة أخرى زلزلت الأرض وانهارت بعض الأبنية وقفزت زوجتي وابنتي من فراشهما مذهولتين والكل يدعوني للنزول من البناية، لكني رفضت وقررت العودة إلى النوم، وقلت إذا كان لنا نصيب في الحياة فسوف نحيا.

قرار العودة إلى “فرنسا”..

يستطرد “العزاوي”: في يوم كان عمر “ياسمين” ابنتي: (07 سنوات)، كانت تقول لي إنها تعرف أنواع الصواريخ والقنابل فور سماع صوتها، وكانت تقول هذا (هاون) وهذه قذيفة دبابة، سألتني في يوم: “بابا لو جت قذيقة عليّ ومت يعني ما فيني أشوفك تاني ؟”، وكان هذا السؤال كفيلاً بأن يجعلني أتخذ قرار العودة إلى “فرنسا”.

العودة إلى.. الفلسفة والفكر والثقافة..

يؤكد “العزاوي” بأن بعد سفره إلى “فرنسا” لم تُعد السياسة شغله الشاغل؛ وأصبح يميل إلى قضايا الفلسفة والفكر والثقافة، موضحًا ذلك التحول: في عام 1983؛ لم تُعد السياسة ميدانًا لاهتمامنا؛ فماذا نقول للناس بعد كل تنظيراتنا السياسية، لذلك عكفت على كتاب “رايش” والتحليل النفسي؛ ونشرته على شكل مقالات، وفي “فرنسا” تعاقدت مع “جامعة الدول العربية” على تحرير وإصدار وطباعه مجلة (شؤون عربية)، وفي “باريس” طلب مني الرئيس الجزائري؛ “أحمد بن بيلا”، لقائيي وتم اللقاء في “جنيف”؛ وعرض عليّ أن أكون مستشارًا له ورئيسًا لتحرير مجلة (البديل) باللغة العربية؛ ومجلة (إلترناتف) بالفرنسية، وفي عام 1986؛ أنشأت مكتبة في “الحي اللاتيني”؛ سميتها (الأفباء)، وبعد فترة أسست درا نشر اسمها: (أفكار)؛ نشرت فيها كتبًا عديدة، ومنها كتب الدكتور “عبدالرحمن بدوي”؛ (الدفاع عن النبي ضد منتقديه)، وكتاب (آيات شيطانية). كما أصدرت مجلة (دراسات شرقية)، بعدها تعرفت على المفكر الكبير؛ “روجيه غارودي” الذي أسلم وسمى نفسه: “رجاء”، وقد تعرض بعد إشهار إسلامه لمشاكل كثيرة، بعد أن كان مطلوبًا من كل دور النشر؛ فأصبح منبوذًا، فقد رفضت: 200 دار نشر فرنسية النشر له، إلا أنا فقد أخذت منه كتاب (مجد الإسلام وانحطاطه)؛ وطبعته ونشرته، لذلك وضعني “اللوبي الإسرائيلي” تحت نظره.

لم يقتصر عملي في “فرنسا” على العمل في الصحافة والنشر؛ فقد واصلت دراستي في جامعة “السوربون”، فأصبحت باحثًا في “مركز الدراسات الإستراتجية”، بها لمدة ثماني سنوات، وحصلت على الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى.

العودة إلى “بغداد”.. عودة الروح..

يسترجع “العزاوي” لحظات عودته إلى العراق؛ مصورًا مشاهد “عودة الروح” لجسد أضنته الغربة والهجرة الجبرية، يقول: بعد نفي لمدة: (35 سنة)؛ هي فترة حكم “صدام حسين”؛ من 1986 إلى 2003؛ بعد سقوط “صدام”، خرجت أنا وثلاثة من رفاقي إلى “سوريا”، ومن “القيماشلي” على ظهر لوح خشب وضعناه على عجلتي سيارة ودفعناه حتى عبرنا للناحية الثانية إلى أن وصلنا إلى “بغداد”، وعند وصولنا لأرض الوطن بكينا عندما رأينا الكلاب تعوي والجنود الأميركان في بلادي والحرائق في كل مكان.. كان مشهدًا حزينًا لن يُمحى من ذاكرتي.

استرجعت اسمي بعد عودتي إلى “العراق”، بعد سقوط “صدام”، عدت إلى قريتي، وعملت إعادة قيد وعدلت اسمي ليُصبح: “قيس خزعل”، وأحتفظت: بـ”جواد العزاوي”، لأن “جواد” أصبح يصل بين الأسمين.

العودة إلى وطن مثخن بالجراح..

يجاوب “العزاوي” على سؤال عن شعوره بعد إعدام “صدام”، قائلاً: “صدام” هو من جاء بالأميركان إلى “بغداد”؛ بسبب ممارساته ضد “إيران” وضد “الكويت”، فقد قتل من العراقيين أكثر من أي شخص يتوقع أو يتخيل، “أنا كنت بحلم باليوم الذي نتخلص فيه من صدام، لكن حقيقي أنا أنزعجت جدًا لإعدامه؛ لأنه جاء في يوم عيد؛ وكان أميركا تتحدى العالم الإسلامي والعالم العربي، لكن هو انتقام أميركي”.

موضحًا: لابد أن نعلم أن الأميركان لم يأتوا لتحرير “العراق” من “صدام”، هم جاءوا ليحتلونا، وكنت دائمًا أقول هذا الكلام، أنا ضد الحرب على “العراق”؛ لأنها كانت حربًا للاحتلال وليست حربًا للتحرير، وظللت أقول إن المقاومة حق شرعي، إن الشعب الذي لا يدافع عن أرضه شعب جبان والعراقيون ليسوا جبناء، والأميركان بدلاً من أن يقيموا دولة ديمقراطية على غرار دولهم، وزعوا السلطة على أساس طائفي وعرقي وديني، فمزقوا المجتمع والهوية العراقية الوطنية؛ مثلما قال “جورج بوش”؛ سنعود بـ”العراق” إلى خمسين سنة للوراء.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب