إعداد/ محمد الكوخي
تحاول هذه الورقة فهم أسباب عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي بعد ثلاثة عقود من الغياب، ودلالات هذه العودة، وأدوات السياسة المغربية تجاه إفريقيا من جهة، إضافة إلى تداعيات هذه العودة على المستوى الإقليمي خاصة في العلاقات المغربية-الجزائرية والصراع على الصحراء من جهة أخرى.
الاستثمارات الاقتصادية إحدى أدوات السياسة الخارجية المغربية في إفريقيا. (الجزيرة)
قبل أكثر من اثنين وثلاثين عامًا، وبالضبط في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1984، قرَّر المغرب الانسحاب من منظمة الوحدة الإفريقية (OAU)، وذلك بسبب اعتراف المنظمة القارِّية بالجمهورية العربية الصحراوية (المعروفة في قاموس المنظمات الدولية بالصحراء الغربية Western Sahara) عضوًا فيها، وهي الأراضي التي يعتبرها المغرب جزءًا من سيادته الترابية، وكان يخوض فيها حربًا ضروسًا ضد من يُسمِّيهم الانفصاليين الصحراويين المدعومينمن الجزائر، وعدد آخر من الدول أبرزها ليبيا في عهد زعيمها السابق العقيد معمر القذافي.
ومنذ حوالي سنتين قرَّر المغرب القطع مع سياسة الكرسي الفارغ التي اتبعها طوال ثلاثة عقود، وبدء مسلسل العودة إلى المنظمة الإفريقية التي كانت قد غيرت اسمها وميثاقها سنة 2002 لتصبح منظمة الاتحاد الإفريقي (AfricanUnion)، وهو المسلسل الذي سيُتوَّج بانضمام المغرب رسميًّا إلى الاتحاد في 30 يناير/كانون الثاني 2017، في قمة أديس أبابا. فما دلالات هذه العودة؟ وما الظروف العامة التي جاءت فيها؟ وما التداعيات المحتملة لها على المستوى المحلي والإقليمي والقاري؟ ذلك ما تحاول هذه القراءة تقديمه وتوضيحه.
التحول في السياسة الخارجية المغربية: القطيعة مع سياسات الماضي
مَثَّل التغير الحاد في الموقف المغربي المعتاد من الفاعلين الدوليين في قضية الصحراء منذ حوالي سنة ونصف، علامة فارقة على بداية تحول جذري في السياسة الخارجية المغربية، والانتقال من استراتيجية الدفاع التي كانت عنوانًا للمرحلة طوال العقدين الماضيين، إلى استراتيجية الهجوم ومحاولة تغيير قواعد اللعبة على الأرض كعنوان لمرحلة جديدة.
فقد جاء الرد المغربي قويًّا على تصريحات الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، حول الصحراء في مارس/آذار 2016، والتي استخدم فيها كلمة “احتلال” لوصف الوجود المغربي في الصحراء، والتي أثارت انزعاج السلطات المغربية، لترد فورًا بإلغاء زيارته المقررة إلى المغرب، وتقليص وجود بعثة الأمم المتحدة في الصحراء “المينورسو” ووقف التعاون معها(1)، وطرد دبلوماسيين أمميين من المغرب. قبل أن يعتذر بان كي مون لاحقًا عن سوء الفهم الذي لحق تصريحاته، ويصدر قرار من مجلس الأمن يطالب المغرب بالعودة عن قراراته واستئناف عمل بعثة المينورسو سنة إضافية.
وفي نفس الفترة جاء رد المغرب بنفس القوة على قرار محكمة العدل الأوربية، في ديسمبر/كانون الأول 2015، القاضي بإلغاء اتفاقية التبادل التجاري الخاصة بالمنتجات الزراعية والصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوربي، بسبب تضمنها منتجات إقليم الصحراء المتنازع عليه. مباشرة بعد صدور الحكم قرَّر المغرب تعليق كل الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تربطه بالاتحاد الأوربي ووقف التواصل معه(2)، وهو القرار الأول من نوعه في تاريخ العلاقات المغربية-الأوربية، والذي دفع بالاتحاد إلى استئناف حكم محكمة العدل أمام المحكمة الأوربية (أعلى سلطة قضائية في الاتحاد الأوربي)، والتي حكمت في ديسمبر/كانون الأول 2016، بإلغاء الحكم السابق وسريان الاتفاقية التجارية بين الاتحاد والمغرب، وبالتالي عودة العلاقات الثنائية إلى سابق عهدها.
شجعت هذه المواقف المغرب على المضي قدمًا في سياسته الخارجية الجديدة، بعد أن ثبت له أن الهجوم يؤتي أُكُله وأن الأطراف الأخرى الإقليمية والدولية تحسب حساب الربح والخسارة في علاقتها بالمغرب، وهي علاقة ربما بدأ يصير فيها المغرب تدريجيًّا أقوى من خصومه في معركة الصحراء، بسبب التحولات الكبيرة التي عرفتها المنطقة بعد الربيع العربي، والاستقرار السياسي والاقتصادي الذي يتمتع به المغرب في منطقة تعصف بها الفوضى والحروب المدمرة.
ويبدو أن المغرب، قام بمراجعة لمحصِّلة نتائج سياساته الخارجية السابقة، والتي اتسمت بالسلبية في التعامل مع القضايا الشائكة، والاعتماد على ردود الفعل بدل المبادرة، والانتظار، واللعب على الزمن بدل العمل المتراكم والمستمر لحل المشاكل. وهي محصلة سلبية لم تأتِ بنتيجة تُذكَر، وزادت من عزلة المغرب خاصة على المستوى القاري بعد اعتماده سياسة الكرسي الفارغ طوال ثلاثة عقود وترك المجال مفتوحًا أمام البوليساريو لاستغلال هذه الوضعية والحصول على كرسي دائم في المنظمة الإفريقية.
المعادلة الجيوسياسية الجديدة لما بعد الربيع العربي: انهيار نظام القذافي وتراجع الجزائر
يبدو التحول الجاري في السياسة الخارجية المغربية، وخاصة الإقليمية والقارية، مرتبطًا أساسًا بالتحولات التي عرفتها المنطقة المغاربية عقب اندلاع ثورات الربيع العربي، والتطورات اللاحقة للأحداث في المنطقة العربية عمومًا والمغاربية خصوصًا؛ فقد سمح التراجع الكبير في المحور المسانِد لجبهة البوليساريو (الجزائر وليبيا القذافي) إقليميًّا وقاريًّا، للمغرب بلعب أدوار أكبر إقليميًّا وقاريًّا، ومحاولة إعادة صياغة المعادلات على الأرض لصالحه.
كانت من أولى نتائج اندلاع ثورات الربيع العربي سقوط نظامين في المنطقة المغاربية، هما: النظام التونسي والليبي واندلاع احتجاجات كبيرة في المغرب. نجح النظام المغربي في احتواء الاحتجاج الشعبي عبر تقديم تنازلات كبيرة والقبول بإصلاحات دستورية مهمة، ومجيء الإسلاميين إلى الحكومة، ضمن ما عُرف بصفقة “الإصلاح في ظل الاستقرار” والتي مكَّنت المغرب من تجنب رياح الربيع العربي، والخروج منها أقوى مما كان سابقًا، ومحاولة استثمار الوضع الجديد لصالحه.
كان لسقوط نظام القذافي في ليبيا آثارٌ مهمة على السياسة الخارجية المغربية وخاصة في ملفي الصحراء والحضور في القارة الإفريقية؛ فقد كان نظام القذافي من أهم داعمي جبهة البوليساريو الانفصالية ماليًّا وعسكريًّا ولوجيستيًّا، وهو ما تسبَّب في سوء العلاقات الثنائية المغربية-الليبية لعقود طويلة وفشل مسلسل الوحدة المغاربية في اتحاد المغرب العربي. ومع اندلاع الثورة الليبية تورطت جبهة البوليساريو في الحرب الليبية بمساندتها لكتائب القذافي، حسب روايات عديدة لوكالات أنباء دولية ومسؤولين ليبيين(3). ومع سقوط نظام القذافي نهائيًّا فقدت الجبهة آخر داعميها خارج الجزائر، والذي كانت تعتمد عليه ماليًّا كما تعتمد عليه في العلاقات الخارجية خصوصًا في إفريقيا.
الأهمية الثانية لسقوط نظام القذافي تجلَّت قاريًّا في إفريقيا، مع تراجع النفوذ الليبي في دول القارة السمراء وبخاصة دول جنوب الصحراء، وتراجع الاستثمارات الليبية في إفريقيا عقب الأزمات السياسية المتتالية التي عرفتها ليبيا في الفترة الانتقالية، ونشوب ما يشبه الحرب الأهلية المفتوحة بين أطراف عديدة، وبالتالي خروج ليبيا نهائيًّا من المعادلة الإفريقية والتي كانت سابقًا أحد أهم الفاعلين الكبار فيها.
هذه الوضعية الجديدة في ليبيا قوَّت من موقع المغرب في صراع الصحراء الطويل بإضعاف الجبهة الداعمة للبوليساريو من جهة، وايجاد فراغ قاري نتيجة خروج ليبيا، يمكن للمغرب ملؤه واستغلال هذه الوضعية الجديدة في كسب حلفاء جدد في القارة الإفريقية وتغيير المعادلة الجيوسياسية لصالحه.
المتغير الثاني في المعادلة الجيوسياسية كان في الجزائر؛ حيث دخلت البلاد في أزمة سياسية عميقة خلال السنوات القليلة الماضية بسبب مرض الرئيس بوتفليقة، وغياب توافق بين أجنحة النظام حول خليفة له، وتدهور أسعار النفط في الأسواق العالمية ما أضعف النظام الجزائري داخليًّا وخارجيًّا. وتبدو الأمور ضبابية في الجزائر بعد إقدام الرئيس بوتفليقة على تفكيك مراكز القوى في المؤسسة العسكرية بعد إقالة عدد مهم من كبار الضباط في المؤسسة العسكرية والمخابرات وعلى رأسهم الجنرال توفيق الذي كان أحد أهم أعمدة النظام العسكري في الجزائر(4). وتُوِّج هذا المسار بإصدار إصلاحات دستورية جديدة منذ سنة، تحاول تقوية مؤسسة الرئاسة على حساب المؤسسة العسكرية المتغولة في النظام الجزائري. وزاد من حدة هذه الأزمة الصامتة غياب توافق واضح بين قوى النظام والقوى الدولية المؤثِّرة (خاصة فرنسا) حول ملامح مرحلة ما بعد بوتفليقة. وساءت الأمور أكثر مع تهاوي أسعار النفط في الأسواق العالمية ابتداء من منتصف سنة 2014، وهو ما جعل الخزينة العامة الجزائرية تعاني من وطأة أزمة اقتصادية حادة وتفاقم عجز الموازنة العامة للبلاد والتي تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط لشراء السلم الاجتماعي عبر برامج التوظيف في القطاع العام والدعم المباشر للمواد الاستهلاكية. وهو ما يهدِّد باندلاع احتجاجات اجتماعية قد تتطور إلى أحداث أكبر في ظل أزمة النظام السياسية وازدياد الاحتقان الاجتماعي.
يضاف إلى ذلك، تداعيات المرحلة الانتقالية التي تمر بها جبهة البوليساريو، بعد وفاة زعيمها، محمد عبد العزيز، العام الماضي، وملامح الصراع القبلي حول الزعامة (بين قبيلة الرقيبات المهيمنة على القيادة وباقي العناصر القبلية الأخرى المهمشة)، إضافة إلى الحديث عن حدوث انشقاق داخلي مهم في الجبهة قبل سنوات مع بروز حركة “خط الشهيد” بقيادة المحجوب السالك والمتمركزة في موريتانيا، والتي تتنازع الشرعية التمثيلية مع القيادة في تيندوف.
كل ذلك أدى إلى تراجع واضح في النفوذ الجزائري في القارة الإفريقية بسبب الانشغال الكبير بالوضع الداخلي، وهو ما يحاول المغرب الاستفادة منه عبر استمالة مزيد من الدول في الاتحاد الإفريقي إلى صفه بدل دعم الأطروحة الجزائرية، في إطار الصراع الإقليمي التقليدي بين المغرب والجزائر.
أدوات السياسة الخارجية المغربية في إفريقيا
تعتمد السياسة المغربية الجديدة في إفريقيا على عدة أدوات تهدف إلى استثمار الوضعية الجديدة لصالح المقاربة المغربية للقضايا التي تهمه وعلى رأسها قضية وحدته الترابية. ويمكن تقسيم أدوات السياسة الخارجية المغربية الجديدة في إفريقيا، والرامية إلى إعادة صياغة التوازنات الإقليمية والقارية لصالحه وإعادة تمركزه في القارة السمراء، حسب نوعها إلى ثلاثة أدوات رئيسية:
الأدوات الاقتصادية
من خلال تحليل الأرقام الاقتصادية، يمكن أن نلاحظ انتقالًا مهمًّا في حجم المبادلات التجارية بين المغرب وإفريقيا، من مليار دولار سنة 2004 إلى حوالي 7.4 مليارات دولار سنة 2014، ووصل حجم الصادرات المغربية نحو إفريقيا جنوب الصحراء حوالي 1.7 مليار دولار سنة 2013 مقابل 220 مليون دولار سنة 2003(5). وهو ما يعني أن المغرب قد ضاعف حجم مبادلاته التجارية مع إفريقيا ست مرات خلال السنوات العشر الماضية، الأمر الذي يعكس اهتمامًا متزايدًا من المغرب نحو التعاون الاقتصادي جنوب-جنوب خاصة مع البلدان الإفريقية.
وتشمل هذه الاستثمارات قطاعات متنوعة ذات قيمة مضافة كبيرة مثل القطاع البنكي، وقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والبناء والأشغال العمومية، إضافة إلى قطاعات أخرى رئيسية مثل الزراعة والصناعة والمعادن…إلخ(6).
وقام المغرب بتوقيع حوالي 500 اتفاقية منذ سنة 2000، مع عدد من البلدان الإفريقية تتضمن اتفاقيات مع القطاع الخاص والحكومات الإفريقية المختلفة، تشمل التجارة والاستثمار والتعاون(7). وهو ما سمح بتطوير حجم العلاقات الاقتصادية المغربية-الإفريقية، لتصل حجم الاستثمارات المغربية المباشرة في إفريقيا حوالي 51% من حجم الاستثمارات المغربية في الخارج خلال الفترة ما بين 2003 و2013(8).
ومع ذلك، تبقى العلاقات الاقتصادية بين المغرب وإفريقيا ضعيفة جدًّا ولا تتعدى 1% إذا ما قورنت بحجم العلاقات الاقتصادية مع الشركاء التقليديين في بقية العالم وعلى رأسهم دول الاتحاد الأوربي. ومن المرجح أن يزداد حجم تلك العلاقات الاقتصادية مع تنامي الدور المغربي في إفريقيا واعتماده على الأدوات الاقتصادية لتحقيق أهدافه الاستراتيجية دون إغفال المكاسب الاقتصادية والمالية المغرية في القارة السمراء ذات الإمكانات الطبيعية الهائلة والقدرات المالية والتكنولوجية الضعيفة؛ ما يجعل الاستثمار فيها ذا مردودية عالية، رغم مخاطره المرتفعة.
الأدوات الأمنية والدينية والثقافية والهجرة
يحاول المغرب في هذا المجال الاعتماد على استقراره السياسي والأمني مقارنة بجواره العربي والإفريقي، لتسويق نفسه كشريك أساسي للقوى الدولية والإقليمية في القضايا الأمنية والسياسية الشائكة في المنطقة.
وفي هذا المجال، يحاول المغرب الاعتماد على موقعه الاستراتيجي كبوابة أساسية للعبور من إفريقيا إلى أوربا، وقربه الشديد من أوربا، إضافة إلى امتلاكه واجهتين بحريتين: أولى متوسطية شمالية والثانية أطلسية غربية، وإشرافه على مضيق جبل طارق الحيوي للتجارة العالمية والمواصلات، وذلك لتعزيز دوره كدركي للأمن في جنوب المتوسط وشمال إفريقيا، سواء في قضايا الهجرة أو الإرهاب أو المخدرات والجريمة المنظمة.
ويعد ملف الهجرة من أهم أدوات السياسة الخارجية المغربية في علاقاته الأوربية والإفريقية على السواء؛ حيث ظل المغرب لسنوات طويلة ممر العبور المفضَّل للهجرة الإفريقية نحو أوربا، وهو ما جعله محورًا رئيسيًّا للسياسات الأوربية تجاه إفريقيا في موضوع الهجرة، عبر اتفاقيات عديدة بينه وبين الاتحاد الأوربي للحدِّ من الهجرة غير الشرعية.
ومؤخرًا، بدأ المغرب برنامجًا خاصًّا لدمج المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين في البلاد، عبر تسوية وضعيتهم القانونية، والسماح لهم بالعيش والعمل على أرضه، في إطار انفتاحه المتزايد على القارة الإفريقية، ونقله موضوع الهجرة من المقاربة الأمنية إلى المقاربة الاجتماعية والإنسانية. وفي سنة 2014، قامت السلطات المغربية بتسوية أوضاع 25 ألف مهاجر غير شرعي من دول إفريقيا جنوب الصحراء، قبل أن يبدأ مرحلة ثانية من البرنامج نهاية سنة 2016، وذلك كجزء من سياسة الهجرة التي ينتهجها المغرب، باعتبارها أحد مكونات الحملة الدبلوماسية التي يقوم بها في القارة الإفريقية استعدادًا للعودة إلى الاتحاد الإفريقي(9).
كما أن المغرب يحاول تسويق نموذجه في مكافحة الإرهاب ونجاعة أجهزته الأمنية والاستخباراتية في مكافحة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود. وذلك من خلال اتباعه سياسة استباقية تهدف إلى منع حدوث أعمال إرهابية في البلاد، وتوقعها قبل حصولها وتجفيف موارد التنظيمات الإرهابية ومحاصرتها.
هذا بموازاة سياسته في المجال الديني والمرتكزة على تحصينه من التطرف. وفي هذا الصدد، ربط المغربَ عددٌ من الاتفاقيات الثنائية مع الدول الإفريقية والهادفة إلى تأهيل المغرب لأئمة هذه الدول بطلب منها، ومن بينها: تونس وليبيا ومالي والسنغال وغينيا وساحل العاج والغابون.. كما طلبت أيضًا دول أوربية، من بينها فرنسا، من المغرب تأهيل أئمة مساجدها(10).
ويحاول المغرب الاعتماد على الروابط الثقافية التي تربطه بدول إفريقية عديدة خاصة في منطقة غرب إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، ذات الأغلبية المسلمة، وذلك عبر توظيف امتداداته الدينية والثقافية في الطرق الصوفية المنتشرة في المنطقة والتي تعود جذورها إلى المغرب، بالإضافة إلى تعزيز التبادل الثقافي وبينه وبين تلك البلدان، واستقبال البعثات الطلابية الإفريقية وتمويل مشاريع مشتركة في هذا المجال عبر الوكالة المغربية للتعاون الدولي.
الأدوات الدبلوماسية
شكَّلت قضية مالي سنة 2013، بداية عودة المغرب إلى لعب دور فاعل على الساحة الدبلوماسية الإفريقية والقطيعة مع المرحلة السابقة؛ حيث نجح المغرب في تجاوز جارته التقليدية، الجزائر، التي كانت حتى وقت قريب صاحبة النفوذ الأكبر في القضايا الإقليمية. وكانت البداية مع انضمام المغرب إلى التدخل الذي قادته فرنسا في مالي، وهو الأمر الذي تمخَّض عنه تعاظم الدور المغربي في الشأن المالي، وصولًا إلى الاجتماع الذي عُقد في المغرب في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، والذي وافق فيه وزراء خارجية 19 دولة، من بينها فرنسا وليبيا ومالي، على اتفاق على إنشاء معسكر تدريب مشترك لتأمين الحدود، والذي من المرجح إقامته في العاصمة المغربية، وهو الاتفاق المعروف باسم “إعلان الرباط”(11). في الوقت الذي اكتفت فيه الجزائر بمحاولة تأمين حدودها الجنوبية مع مالي، وعدم التدخل في الأزمة، ما سمح للمغرب بلعب دور أكبر فيها.
وفي سنة 2015، لعبت الدبلوماسية المغربية دورًا طلائعيًّا آخر في القضية الليبية الشائكة من خلال احتضان المغرب لاتفاق الأطراف الليبية المختلفة بغطاء من الأمم المتحدة، لتشكيل حكومة وحدة وطنية فيما عُرف بـ”اتفاق الصخيرات”. ويأتي ذلك في ظل الجهود الدبلوماسية المغربية لوقف تدهور الأوضاع في ليبيا والذي ستكون له تأثيرات كبيرة على الأمن الإقليمي للمنطقة بأسرها.
وخلال السنتين الماضيتين عزَّز المغرب جهوده الدبلوماسية في القارة الإفريقية، من خلال الزيارات العديدة لدول القارة والتي قام بها العاهل المغربي، في إطار جهوده لاستعادة الكرسي المغربي في الاتحاد الإفريقي، ومحاولة توسيع رقعة العلاقات الثنائية مع دول القارة الأنجلوساكسونية وعدم الاعتماد فقط على مجموعة الدول الفرانكوفونية التي تربط المغرب بها علاقات تاريخية طويلة.
نتائج التصويت على عودة المغرب: الانقسام العربي ولغز كتلة جنوب إفريقيا
كُلِّلت المساعي المغربية للعودة إلى الاتحاد الإفريقي بالنجاح من خلال التصويت الذي جرى في القمة الإفريقية بأديس أبابا بداية هذه السنة، حيث صوَّتت 39 دولة لصالح عودة المغرب، فيما رفضت 9 دول هذه العودة (من بينها: الجزائر ودول جنوب إفريقيا)، في حين امتنعت 10 دول عن التصويت (من بينها: موريتانيا وتونس ومصر)، وغياب أربع دول أخرى (من بينها ليبيا).
وحسب نتائج التصويت فقد أيدت مجموعتا غرب ووسط وشرق إفريقيا طلب المغرب بالالتحاق إلى الاتحاد الإفريقي، بينما استمرت بعض دول جنوب القارة في التحفظ عليه على خلفية الوضع الحدودي، في إشارة إلى النزاع مع جبهة البوليساريو.
وكان لافتًا الانقسام العربي حول موضوع عودة المغرب، ما بين موقف الحياد الذي تبنته بلدان شمال إفريقيا؛ حيث امتنعت كل من مصر وتونس وموريتانيا عن التصويت، في محاولة للوقوف على مسافة واحدة بين المغرب والجزائر اللتين تربطها بهما مصالح عديدة، في حين اختارت دول القرن الإفريقي، مثل: السودان وجيبوتي وإريتريا الوقوف إلى جانب المغرب والتصويت لصالح عودته. وكان لافتًا غياب ليبيا عن أشغال المؤتمر بسبب الصراع الداخلي المحتدم، رغم إعلان حكومة الوفاق في طرابلس دعمها للمغرب. وفي المحصلة، يبدو المغرب الأكثر تفوقًا عربيًّا على الجزائر؛ حيث لم تنجح هذه الأخيرة في إقناع أية دولة عربية بتبني موقفها الرافض لعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي والتصويت ضده.
ويبقى موقف كتلة دول جنوب القارة وعلى رأسها جنوب إفريقيا لغزًا، بسبب بُعدها الجغرافي عن التنافس الإقليمي بين المغرب والجزائر؛ حيث صوَّتت هذه الدول مجتمعة ضد عودة المغرب، وهي: جنوب إفريقيا وزيمبابوي وموزمبيق وليسوتو وناميبيا وأنغولا وبوتسوانا وأوغندا. ومن الواضح أن هذه الدول تخضع لتأثير جنوب إفريقيا باعتبارها البلد الأكبر في المنطقة والمهيمن على سياساته الإقليمية.
ويمكن تفسير موقف جنوب إفريقيا بعاملين أساسيين: أولهما مرتبط بتركة الماضي للحزب الحاكم في جنوب إفريقيا، وما عبَّر عنه بيان الحزب الذي ربط بين رفض عودة المغرب والتحرر من الاستعمار باعتبار المغرب دولة محتلة لأراضي دولة عضو في الاتحاد (في إشارة إلى جبهة البوليساريو)(12). والثاني مرتبط برغبة جنوب إفريقيا في التحول من قوة إقليمية إلى قوة قارية تقود إفريقيا كلها، وهو ما يصطدم بطموحات بلدان القارة الشمالية، وهو ما يجعلها ترفض انضمام أي بلد وازن من المغرب إلى المنظمة الإفريقية يمكن أن ينافسها في هذا الدور، خاصة إذا علمنا أن المغرب هو ثاني أكبر مستثمر في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا، وأن جنوب إفريقيا تخشى أن تمتد هذه المنافسة الاقتصادية إلى الحقل السياسي والدبلوماسي، ولذلك ترغب في منع تمدد المغرب في القارة السمراء.
تداعيات عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي: بداية معركة عزل البوليساريو إفريقيًّا
رغم أن المغرب تحاشى الخوض في موضوع الصحراء وربطه بعودته إلى الاتحاد الإفريقي، وهو ما بدا جليًّا في الخطاب الذي ألقاه الملك المغربي، محمد السادس، في قمة أديس أبابا، وقال فيه: إن المغرب لا يريد التفرقة بين بلدان المنظمة ويسعى للوحدة، إلا أن السجال حول هذا الموضوع بدأ فعليًّا منذ أن أعلن المغرب رسميًّا رغبته في العودة إلى الاتحاد قبل أكثر من سنة.
وفي القمة السابعة والعشرين للمنظمة الإفريقية سنة 2016، دعت مجموعة الدول المساندة للمغرب وعددها 28 دولة (من بينها دول عربية، مثل: السودان وليبيا وجيبوتي وإريتريا والصومال) الاتحاد الإفريقي إلى تعليق عضوية “الجمهورية الصحراوية” في الاتحاد، وذلك من أجل تعزيز مكانة الاتحاد الإفريقي داخل التكتلات الإقليمية في العالم، والمساهمة الفعالة في جهود الأمم المتحدة لحل النزاع حول الصحراء. وتكلَّف رئيس الغابون، علي بونغو، بتقديم طلب تجميد عضوية البوليساريو داخل المنظمة الإفريقية نيابة عن هذه البلدان.
وسيكون على المغرب في البداية استمالة الدول المترددة في قرارها، ومن بينها دول شرق القارة الإفريقية، وهو ما بدأ فعليًّا مع زيارة العاهل المغربي إلى دولة جنوب السودان مباشرة بعد انتهاء أشغال القمة الإفريقية بأديس أبابا(13)؛ وذلك قبل البدء فعليًّا في محاولة استمالة دول جنوب القارة وعلى رأسها جنوب إفريقيا. وتأتي أهمية المسألة من كون الاتحاد الإفريقي هو التكتل الدولي الوحيد المعترِف بالجمهورية الصحراوية، والتي لا تحظى باعتراف الأمم المتحدة. وسيحاول المغرب إقناع الدول الإفريقية بفداحة الأضرار التي يتسبب فيها هذا الاعتراف بدولة لا تملك أرضًا ولا سيادة ولا شعبًا، من انقسام إقليمي وقارِّي يمنع مسلسل الوحدة الإفريقية والاندماج الاقتصادي بين بلدان القارة وصياغة سياسة موحَّدة تجاه القضايا المشتركة. إضافة إلى الفرص العديدة الضائعة جرَّاء هذا الانقسام ومن بينها مثلًا ضياع الاستثمارات العربية (والخليجية أساسًا) على القارة السمراء، كما جرى في القمة العربية-الإفريقية الأخيرة بغينيا الاستوائية سنة 2016 والتي قاطعتها تسع دول عربية منها دول الخليج العربي (باستثناء الكويت) احتجاجًا على حضور ممثل البوليساريو وتضامنًا مع المغرب الذي أعلن انسحابه منها(14).
وسيحاول المغرب إقناع الدول الإفريقية بأن تكلفة بقاء البوليساريو في المنظمة أعلى بكثير من تكلفة إخراجها منها، خاصة مع التراجع الكبير في قدرة الجزائر على التأثير على الدول الإفريقية وانهيار نظام القذافي المؤثِّر.
ومن خلال استراتيجية عزل البوليساريو إفريقيًّا، سيسعى المغرب بالتوازي مع ذلك، إلى إقناع دول القارة السمراء بتأييد طرحه حول “الحكم الذاتي” كحل وحيد ممكن لصراع الصحراء، الذي دام أكثر من أربعة عقود، وجعل هذا الطرح يحظى بدعم قاري ودولي واسع، خاصة مع تزايد عدد الدول التي سحبت اعترافها بالجمهورية الصحراوية والذي وصل إلى حوالي 46 دولة، وبقاء زهاء 34 دولة تعترف بها، جُلُّها في إفريقيا وأميركا اللاتينية.
________________________
محمد الكوخي – باحث وكاتب مغربي
مراجع
1 – “المغرب يقلِّص البعثة الأممية للصحراء الغربية بعد جدل الاحتلال”، بي بي سي، 16 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول: في 6 فبراير/شباط 201):
http://www.bbc.com/arabic/middleeast/2016/03/160315_morocco_un_mission_withdrawal
2 – “المغرب يعلِّق اتصالاته مع الاتحاد الأوربي”، الجزيرة نت، 26 فبراير/شباط 2016، (تاريخ الدخول: في 6 فبراير/شباط 2017):
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2016/2/25/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%8A%D8%B9%D9%84%D9%82-%D8%A7%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%87-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A
3 – Con Coughlin. 2011. Libya: Col Gaddafi ‘has spent £2.1m on mercenaries’. The Daily Telegraph 20 April 2011, (Visited 7 February 2017):
http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/africaandindianocean/libya/8464254/Libya-Col-Gaddafi-has-spent-2.1m-on-mercenaries.html
4 – هشام موفق، “الجنرال توفيق.. نهاية أسطورة جزائرية”، الجزيرة نت، 14 سبتمبر/أيلول 2015، (تاريخ الدخول: في 4 فبراير/شباط 2015): إضغط هنا.
5 – Ministry of Economy & Finance Report. 2014. Moroccan-African relations. (visited 6 February 2017):
https://www.finances.gov.ma/Docs/2014/DEPF/Relations%20Maroc-Afrique_vdd.pdf
6 –”المبادلات التجارية والاستثمارات المباشرة المغربية في إفريقيا”، مجلة المالية لوزارة الاقتصاد والمالية المغربية، العدد 28، أغسطس/آب 2015، ص 14-17.
7 – inistry of Economy & Finance Report. Op. cit.
8 – Op. Cit.
9 – “المغرب يطلق المرحلة الثانية لتسوية أوضاع المهاجرين”، الجزيرة نت، 13 ديسمبر/كانون الأول 2016، (تاريخ الدخول: في 4 فبراير/شباط 2017):
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2016/12/13/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%8A%D8%B7%D9%84%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%AA%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%88%D8%B6%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%87%D8%A7%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%86
10 – “المغرب: المقاربة الاستباقية والدينية في محاربة الإرهاب”، فرانس 24، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، (تاريخ الدخول: في 6 فبراير/شباط 2017):
http://www.france24.com/ar/20151127-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%B7-%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AC%D9%87%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%81%D8%AD%D8%A9-%D9%85%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA
11 – Vish Sakthivel. 2014. Morocco’s Move in Mali: What Rabat Gained in the Battle Against Islamic Extremism. The Washington Institute for Near East Policy, Foreign Affairs Papers, January 14, 2014, (Visited 4 January 2017):
http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/moroccos-move-in-mali
12 – “الحزب الحاكم بجنوب إفريقيا يأسف لعودة المغرب للاتحاد الإفريقي”، الجزيرة نت، 1 فبراير/شباط 2017، (تاريخ الدخول: في 4 فبراير/شباط 2017):
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2017/2/1/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D9%83%D9%85-%D8%A8%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D9%8A%D8%A3%D8%B3%D9%81-%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A
13 – مثيانق شريلو، “ما مغزى زيارة ملك المغرب لجنوب السودان?”، الجزيرة نت، 4 فبراير/شباط 2017، (تاريخ الدخول: في 4 فبراير/شباط 2017):
http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2017/2/4/%D9%85%D8%A7-%D9%85%D8%BA%D8%B2%D9%89-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D9%84%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86
14- “تسع دول عربية تنسحب من القمة العربية الإفريقية”، الجزيرة نت، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: في 5 فبراير 2017):
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2016/11/23/%D8%AA%D8%B3%D8%B9-%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%86%D8%B3%D8%AD%D8%A8-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9
المصدر/ الجزيرة للدراسات