خاص: إعداد- سماح عادل
“إيفان بتروفيتش بافلوف” هو عالم وظائف أعضاء روسي، حصل على جائزة نوبل في الطب في عام 1904 لأبحاثه المتعلقة بالجهاز الهضمي، ومن أشهر أعماله نظرية الاستجابة الشرطية التي تفسر بها التعلم.
حياته..
ولد “بافلوف” في ريازان في 26 سبتمبر 1849، وكان الأكبر بين أحد عشر ابنًا لوالده “بيتر، الذي كان قساً لإحدى القرى. تعلم القراءة في السابعة من عمره، إلا أنه لم يلتحق بالمدرسة بشكل رسمي إلا في سن الحادية عشرة بسبب تعرضه لإصابات جسيمة من جراء سقوطه من سور مرتفع على رصيف حجري. أنهى “بافلوف” الابن تعليمه الأولي في مدرسة الكنيسة في ريازان، ثم التحق بمعهد اللاهوت بها، إلا أنه ترك المعهد سنة 1870 ليلتحق بجامعة سانت بطرسبورغ.
أبدى “بافلوف” منذ طفولته تفوقًا عقليًا وطاقة غير عادية أطلق عليها هو “غريزة البحث”، وهجر دراسته الدينية متأثرًا بالأفكار التقدمية التي كان ينشرها كل من “دميتري بيساريف” أبرز نقاد الأدب الروس في ستينيات القرن التاسع عشر، و”إيفان سيتشينوف” أبي الفسيولوجيا الروسية، ليكرس حياته للعلم، فالتحق سنة 1870 بقسم الفيزياء والرياضيات بجامعة سان بطرسبرغ الحكومية تمهيدًا لدراسة العلوم الطبيعية.
في عامه الجامعي الرابع فاز بحثه الأول عن الفسيولوجيا العصبية للبنكرياس بجائزة جامعية رفيعة. وفي سنة 1875 أنهى “بافلوف” دراسته بتفوق كبير في مجال العلوم الطبيعية، لكنه كان مدفوعاً بشغف كبير بعلم وظائف الأعضاء، فالتحق بالأكاديمية الطبية الجراحية، حيث حصل على درجة الدكتوراه سنة 1878، ثم حصل على ميدالية ذهبية سنة 1879 تقديراً لتفوقه. وبعد امتحان تنافسي نجح “بافلوف” في الفوز بزمالة في الأكاديمية، وهو ما مكنه بالإضافة إلى منصبه كمدير لمختبر علم وظائف الأعضاء بعيادة الطبيب الروسي الشهير “سيرغي بوتكين” من مواصلة أعماله البحثية. وفي سنة 1883 قدم “بافلوف” أطروحته للدكتوراه، وكانت عن أعصاب القلب.
كان أستاذاً ورئيس قسم الفيزيولوجيا بالأكاديمية الطبية العسكرية حتّى عام 1924 وعضواً في أكاديميّة العلوم ابتداء من سنة 1907، وهو مؤسّس الدّراسات التجريبيّة الموضوعيّة للنشاط العصبي الأعلى (أي السلوك) عند الحيوانات والإنسان، مستخدماً منهج المنعكسات الشرطيّة واللاّشرطيّة.
طوّر تعاليم “سيتشينوف” (مؤسّس علم النفس المادّي في روسيا)عن الطبيعة الانعكاسيّة للنشاط العقلي وقد تمكّن “بافلوف” بمنهج الانعكاسات الشرطيّة من اكتشاف القوانين والآليات الأساسيّة لنشاط الدّماغ. وأدّت دراسة “بافلوف” لفيزيولوجيا عمليّة الهضم إلى فكرته القائلة بأنّ منهج الانعكاسات الشرطيّة يمكن أن يستخدم لبحث السلوك والنشاط العقلي للحيوانات. وقد أفادت ظاهرة «إفراز اللّعاب نفسيّاً»، والعديد من الأبحاث التجريبيّة كأساس للنتيجة التي توصّل إليها عن الوظيفة الإشاريّة للنشاط النفسي ولتوضيح تعاليمه عن النظامين الإشاريين. ويوفّر مذهب “بافلوف” ككلّ الأساس العلمي الطبيعي لعلم النفس المادّي.
نظرية الارتباط الشرطي..
نظرية “بافلوف” في التعلم أو ما يطلق عليها في علم النفس بنظرية الارتباط الشرطي، إن أول رجل درس التعلم في ظروف تجريبية حسن ضبطها كان “إيفان بافلوف” حيث قام حوالي 1900 بدراسة عملية الهضم عند الكلب في المختبر وقام بقياس مقدار أو كمية اللعاب الذي يفرزه الكلب عند إطعامه، وفي أحد الأيام بينما كان يقترب من كلبه وبيده طبق الطعام لاحظ أن لعاب الكلب بدأ يسيل فأدرك أن مجرد رؤية الطعام تؤدي إلى إحداث الاستجابة التي تثار حين يلامس مسحوق اللحم (الطعام) لسان الكلب. وهكذا كرس “بافلوف” جهوده العلمية اللاحقة لدراسة هذه الظاهرة وإظهار حقيقتها.
في تجربته الأكثر شهره، قام بإصدار صوت جرس بشكل مباشر قبل تقديم الطعام للكلاب، حيث يقوم بتكيفهم على بدأ إفراز اللعاب كلما أصدر هذه النغمة.
ونظرية “بافلوف” تقوم أساساً على عملية الارتباط الشرطي التي مؤداها أنه يمكن لأي مثير بيئي محايد أن يكتسب القدرة على التأثير في وظائف الجسم الطبيعية والنفسية إذا ما صوحب بمثير آخر من شأنه أن يثير فعلاً استجابة منعكسة طبيعية أو إشراطية أخرى. وقد تكون هذه المصاحبة عن عمد أو قد تقع من قبيل المصادفة. قوانين الاشتراط عند “بافلوف” اكتشف “بافلوف” في سياق أبحاثه التي أجراها على التعلم الشرطي عدداً من القوانين التي تفسر العلاقة بين المثيرات الشرطية وغير الشرطية وفيما يلي موجز عن كل منها:
1- قانون الاستثارة:
ويتضمن هذا القانون التعبير عن حدوث الاشتراط في حال تمت المزاوجة بين المثير الشرطي وغير الشرطي مما يؤدي إلى أن يكتسب المثير الشرطي خواص المثير اللاشرطي ويقوم مقامه.
2- قانون الكف الداخلي:
إذا تكرر ظهور المثير الشرطي لفترة من الزمن دون تعزيز بالمثير الطبيعي فإن الفعل المنعكس الشرطي يضعف ويضمحل تدريجياً وفي النهاية ينطفئ أي لا تظهر الاستجابة الشرطية فإذا تكرر قرع الجرس دون تقديم الطعام فإن كمية اللعاب تأخذ بالنقصان شيئاً فشيئاً حتى تتوقف تماماً.
3- قانون التعزيز:
إن التعزيز شرط لابد منه لتكوين الفعل المنعكس الشرطي ويقصد بذلك تتابع الموقف على نحو يكون فيه التعزيز هو الخيط الذي يوحد عناصر الموقف ويجعل منها كتلة سلوكية ترابطية.
4- قانون التعميم:
ويعني هذا القانون أنه حينما يتم اشتراط الاستجابة لمثير معين فإن المثيرات الأخرى المشابهة للمثير الأصلي تصبح قادرة على استدعاء نفس الاستجابة. بعد أن يتعلم الكلب الاستجابة لقرع الجرس بإفراز اللعاب فإنه يستجيب بعد ذلك بإفراز اللعاب عند سماعه لأصوات مشابهة لصوت الجرس. وهذه الظاهرة ظاهرة التعميم تلاحظ كثيراً في سلوك الحيوان والإنسان. فالطفل الذي يخاف نوعاً من الحيوانات يستجيب بالخوف لحيوانات مشابهة لهذا النوع.
5- قانون التمييز:
وهو قانون مكمل لقانون التعميم فإذا كان التعميم استجابة للتشابه بين المثيرات فإن التمييز استجابة للاختلاف بينها بمعنى أن الكائن الحي يستطيع في هذه العملية أن يميز بين المثيرات الموجودة في الموقف بشكل لا يصدر الاستجابة إلا للمثير المفرز وبالتالي لا تبقى إلا الاستجابة المفرزة بينما تنطفئ الاستجابات الأخرى غير المفرزة.
وتعد عملية التمييز متأخرة أو تالية لعملية التعميم حيث لا يستطيع الطفل على سبيل المثال القيام بعملية التمييز بدقة بين المثيرات إلا في مرحلة متقدمة من النمو. فبعد أن كان الطفل يخاف من جميع الحيوانات المشابهة للحيوان الذي كون لديه استجابة الخوف يبدأ في إصدار استجابات الخوف على نفس الحيوان فقط.
العلاقات الاستجابية الشرطية..
حاول “بافلوف” ومن حذا حذوه أن يبرهن على أن منظومة سلوك الإنسان وأفعاله ومشاعره هي نتاج موضوعي للعلاقات الاستجابية الشرطية التي تضرب جذورها في عمق الجملة العصبية الدماغية عند الإنسان، وهو بذلك يسعى إلى تأكيد مقولة الوحدة الجدلية بين الوجود المادي والوجود النفسي عند الإنسان وأن الحياة النفسية هي انعكاسات أو ارتكاسات عصبية للعلاقة الموضوعية بين الدماغ والمثيرات الخارجية.
وتُعزز الاستجابة الشرطية وتُقوى عن طريق اقتران المثير الشرطي بالمثير الطبيعي فيكتسب المثير الشرطي قوة جر الاستجابة، ولكن هذه القوة قد تضعف فيحصل الانطفاء أو المحو وبالتالي تتلاشى الاستجابة الشرطية المكتسبة. ويعني ذلك أن المثير الشرطي يجب أن يعزز دائماً على نحو متقطع ليحافظ على فعاليته في إحداث الاستجابة الشرطية. وتحدث حالة الانطفاء الداخلي من عدم تقديم الطعام، أما الانطفاء الخارجي فيعود إلى شروط خارجية مثل سماع أصوات غريبة ومفاجئة في أثناء التجربة، ولكن الانطفاء لايكون نهائياً إذ يمكن معاودة الاكتساب بسهولة كبيرة.
ينظر “بافلوف” إلى الظاهرة النفسية وما يترتب عليها من أنماط سلوكية على أنها أفعال منعكسة وأفعال منعكسة شرطية محددة بزمان ومكان معينين.
ويعتقد “بافلوف” أن الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهر الطبيعة، ويرى أن النظام الإنساني هو الوحيد بين الأنظمة الطبيعية الذي يتميز بقدرته الهائلة على التنظيم الذاتي، والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية. والإنسان بأنظمته المعقدة خلاصة تطور الطبيعة في أكثر صورها رقياً وتقدماً. والسلوك الإنساني صناعة تتم وفقاً لمبدأ الاستجابات الشرطية، وهي صناعة ممكنة أي إنه يمكن التحكم في سلوك الإنسان وإشراطه وتصنيعه مخبرياً أو اجتماعياً حين يتم التحكم في شروط الحياة الاجتماعية.
بيّن “بافلوف” أنه يمكن توظيف الإشراط الاستجابي لتكون سبباً في الأمراض النفسية وكذلك في تحرير الناس من آلامهم وعقدهم وأمراضهم النفسية. فالإنسان ينطلق، في عملية تكيفه، وفق منظومة دلالية من الرموز، والمثيرات اللغوية التي تجعله في حركة استجابات شرطية تتصف بالاستمرار والديمومة. فالكلام يشكل للإنسان نظاماً ثانياً من الدلالات التي يتمايز بها الإنسان من الحيوان، إذ إن الكلام هو بالتأكيد الاختراع الذي جعل منا بشراً متفاهمين. فالمثيرات الأولى هي المثيرات الصادرة عن العالم الخارجي مثل الأصوات والروائح ومثيرات اللمس والضوء، والأحداث الخارجية هي مثيرات مشتركة بين الإنسان والحيوان، ولكن الإنسان يتفرد فيما يطلق عليه “بافلوف” المثيرات الدلالية من المستوى الثاني التي تتعلق بالرموز واللغة والكلمات والمعاني وهي الرموز أو الدلالات التي يتفرد بها عالم الإنسان عن عالم الحيوان.
نشر “بافلوف” نتائجه في عام 1903، وقدم عرضاً عن علم النفس التجريبي والطب النفسي للحيوانات في المؤتمر الطبي الدولي الرابع عشر في مدريد، إسبانيا، في وقت لاحق من ذلك العام ولقاء عمله الرائد، كان “بافلوف” هو الفائز بجائز نوبل لعام 1904 في الفيزيولوجيا أو الطب.
وتبعها المزيد من الألقاب على مر السنين. انتخب ليكون عضو أكاديمي من الأكاديمية الروسية للعلوم في عام 1907، وفي عام 1912 حصل على شهادة الدكتوراه الفخرية في جامعة كامبريدج. بعد توصية من الأكاديمية الطبية في باريس، حصل على وسام فرسان الشرف في عام 1915.
لاحقاً ، قام “بافلوف” بتطبيق قوانينه من أجل دراسة “الاضطرابات العقلية”، معتبراً أنَّ بعض الناس انسحبت من التفاعلات اليومية مع الآخرين وذلك بسبب ارتباط “المحفزات الخارجية” بحدث ضار ما حصل مهم. على الرغم من أنه رفض بشكل ملحوظ أن علم النفس هو علم زائف، ساعدت أبحاثه بوضع الأساس لعدة مفاهيم هامة في “الانضباط الناشئ” في ذلك الوقت.
حالة التمزق..
انتقد “بافلوف” صراحة حالة التمزق الحربي التي مرَّت بها بلاده بعد ثورة عام 1917 الروسية. كان يمس موضوع خطير مع الانتقاد الذي يوجه للشيوعية بعد قيامه بزيارات للولايات المتحدة في فترة ما بين 1920-1929، مع ذلك نجا من المحاكمة بسبب مكانته كواحد من العلماء البارزين في روسيا. خفف “بافلوف” انتقاداته في السنوات الأخيرة من حياته، وربما يرجع ذلك إلى زيادة الدعم الحكومي للبحث العلمي. ظَّل مكرساً نفسه للعمل المخبري حتى وفاته.
إن الوقوف عند نظرية “بافلوف” يمثل وقفة في محطة مهمة من محطات التاريخ العلمية التي كان لها أثر كبير في دفع العجلات التاريخية للمعرفة العلمية في مجالات علم النفس وعلم نفس الأعضاء وفيزيولوجية الدماغ. وستبقى نظرية “بافلوف” مركز إشعاع علمي تاريخي يرسم للمفكرين مسارات مضيئة في مجال علم النفس الفيزيولوجي.
وفاته..
توفى “إيفان بافلوف” بالالتهاب الرئوي المزدوج، في لينينغراد في 27 فبراير عام 1936.