خاص: بقلم- عبدالوهاب داوود:
يضع منظروا فن الرواية دائمًا القصة أو الحكاية في مرتبة متأخرة بين مكونات العمل الجمالية، ومنهم من ينظرون إليها باعتبارها مجرد عنصر هامشي أو ثانوي، أو ليس بنفس أهمية اللغة والأسلوب، أو المدارس والتيارات الفكرية والنقدية التي ينطلق الكاتب في عمله وفقًا لمعطياتها أو حتى يسترشد بها، بينما أظن، شخصيًا، أن الحكاية في شكلها البسّيط هي التربة التي لا نبات بدونها، ولا مكان لجماليات لغوية أو أسلوبية في غيابها، سواء كانت تلك القصة مجرد حكاية خرافية أو واقعية، حقيقية أم متخيلة، تدور أحداثها في عقل الكاتب أم خارجه، واقعة تقبل الحدوث، أم مجرد فرضية لا تتفق مع قوانين الفيزياء البسيطة، ولا تخضع لها، والقصة أو الحكاية، في تصوري، ليست كما قد يظن البعض من أنها لابد أن تحتوي على ما يطلق النقاد عليه الحبكة الدرامية، أو الحبكة دون تحديد.. فقد تكون لدينا حكاية عن مشاعر تشتعل فتنمو وتزدهر ثم تخبو وتخفت، أو تتغير دون مبررات معلومة وواضحة، ودون دراما العقدة والحل، وقد تكون لدينا قصة عن رغبة قديمة ومكتومة، أو واقعة متخيلة، وافتراضية، أو غيرها مما أفاضت في شرحه نظريات النقد الأدبي الحديث، وصولًا إلى الحديث عن قدرة فن الرواية على احتواء أشكال الإبداع الفني والأدبي كافة، والانفتاح على كل الاحتمالات الجمالية الممكنة.. وربما كان البرتغالي الأشهر “جوزيه ساراماغو”؛ في مقدمة من كتبوا رواياتهم منطلقين من أفكار وتصورات جمالية نظرية، أو حتى أفكار إيديولوجية، ثم تأتي الحكاية أو القصة كعنصر مساعد، أو مجرد إطار لتقديم هذه الأفكار والتصورات وشرحها، لكنها دائمًا ما تحتل مكانة محورية في عمله، لا يسّتقيم بدونها، وإن كانت تلك القصة مجرد سّرد لحادثة تتضمن طفو جزيرة وسّيرها في المحيط على غير هدىً، نتيجة لمقدمات تبدو غير منطقية بمنطق الفيزياء، لكنها تصنع منطقها الروائي والفني الخاص، كما في رائعته (الطوف الحجري)، أو رواية (العمى)، أو (انقطاعات الموت)، وإن كانت تلك القصة تقوم على حشد من الأكاذيب، والخيالات التي تخص كاتبها كما في حالة الكاتبة التشيّلية الأشهر “إيزابيل الليندي”؛ التي تكشف بنفسها عن قصة دخولها إلى عالم الرواية من باب “الكذب”، أو اختلاق القصص، وهي التي يتعامل العالم كله، مع رواياتها، بما فيه أسرتها، باعتبارها ظلال لسّيرتها الذاتية، أو لرحلة عائلتها مع الدنيا، أو باعتبارها مجرد سّرد فني لما حدث بالفعل، بينما لا تتوقف هي عن التصريح بأنها لم تستطع أبدًا أن تلتزم بالوقائع، أو حتى محاولة أن تكون موضوعية.
***** *****
- صدمة “نيرودا” ونصيحته الذهبية
في بداية حياتها العملية اشتغلت الروائية التشّيلية “إيزابيل الليندي” كمترجمة للروايات الرومانسية من اللغة الإنكليزية إلى اللغة الإسبانية، لكنها لم تتمكن من المواصلة، وتم طردها من العمل بسبب تدخلاتها في النصوص، وتغيّيرها لحوارات الشخصيات النسائية حتى يبُّدين أكثر ذكاءً، حتى أنها قامت بتأليف نهاية مغايرة لنهاية قصة (سندريلا) مدعية أنها فعلت ذلك لكي تسمح لبطلتها بالعثور على مزيد من الاستقلالية وفعل الخير في العالم، وربما كان ذلك هو سر مواجهتها بالحقيقة الصادمة من مواطنها الشاعر التشّيلي الأكبر “بابلو نيرودا”، عندما ذهبت إليه لإجراء حوار صحافي معه بعد فوزه بجائزة “نوبل للأداب” عام 1971، وكان صديقًا لابن عم والدها الرئيس “سلفادور الليندي”، وهي الواقعة التي حكتّها بنفسها أكثر من مرة، فقالت في حوار تليفزيوني أن “نيرودا” عندما اشتّد عليه المرض، قرر العودة إلى “تشّيلي” لكي يموت ويُدفن فيها، فذهبت إليه في منزله في “ايسلا نيغرا” لإجراء حوار صحافي معه، ولأنه كان صديقًا لابن عم والدها، ويعرفها جيدًا، فقد رحب بها، وتحدث معها طويلًا في الكثير من الأمور حتى تأخر الوقت، وتقول: “تناولنا الغداء، وكان عبارة عن سمك ونبيذ أبيض، ثم قلت له: هل يمكننا أن نبدأ المقابلة لأن الوقت تأخر، ويجب أن أعود إلى سانتياغو ؟ فتساءل: أية مقابلة ؟، فقلت: جئت لأجري مقابلة صحافية معك، فأجابني: لا.. لن أجري معك أية مقابلة، أبدًا، فأنت الصحافية الأسوأ في هذا البلد، إنك تكذبين دائمًا.. ولا يُمكنك قول الحقيقة أبدًا، فأنت تحشّرين أنفك في كل شيء، وتضعين نفسك وسط كل حدث، ولهذا فلا يمكنك أبدًا أن تكوني موضوعية.. أنا واثق بأنه إذا لم يكن لديّ ما أقوله فستختلقين قصة ما، حتى لو لم يكن هناك أي شيء.. لم لا تتجهين لكتابة الأدب، حيث تُصبح كل هذه العيوب مميزات وفضائل ؟!”.. الطريف أن تلك المقابلة التي قُدم لها فيها نصّيحة ذهبية بكتابة الرواية، أدت إلى نشر أول كتابٍ لها، حيث أسّر لها وهو يودعها بإعجابه بمقالاتها الساخرة، وطلب منها أن تجمعها في كتاب، ففعلت ذلك، وأصبح هو أول كتاب منشورٍ لها.
وقتها كانت هي على أبواب عامها الثلاثين، وكانت تعمل بالصحافة التي بدأت رحلتها معها بالعمل في مجلة (باولا) النسائية في عام 1967، بعد عودتها من مسّيرة التنقل الطويلة مع عائلتها حول العالم، وقرارها الاستقرار في “تشّيلي”، وهي المجلة التي انتقلت منها إلى أخرى متخصّصة في الكتابة للأطفال، هي مجلة (مامباتو).. وبنفس الأريحية التي تروي بها تفاصيل الحياة الخاصة لبطلات رواياتها، تحكي عن مشوارها الصحافي قائلة: “أنا مثل كثير من كتاب أميركا اللاتينية الذين بدأوا كصحافيين، وحتى عندما أصبحوا روائيين استمروا في العمل بالصحافة.. أعتقد أن الصحافة مهمة للكاتب، لأنها تجعله يحتك بالواقع، وهذا الاحتكاك هو ما يمنحه الكثير من الأفكار التي يحتاجها في عمله، وبالنسبة ليّ بدأت كصحافية لكني كنت صحافية سيئة، ولم أستطع أبدًا أن ألتزم بالوقائع والحقائق، أو أن أكون موضوعية فيما أكتبه”.
*****. *****
- على خطى “يوسا” و”ماركيز”
بعد عشر سنوات من لقائها بـ”نيرودا”، بدأت “إيزابيل الليندي” كتابة روايتها الأولى (بيت الأرواح)؛ التي نُشرت عام 1982، وهي الرواية التي وضعت اسمها بقوة ضمن تيار “الواقعية السحرية”؛ الذي انتشر في “أميركا اللاتينية” في النصف الثاني من القرن العشرين، والذي بدأه “ماريو فارغاس يوسا”، واستحوذ عليه “غابرييل غارسيا ماركيز”، منتقلًا به إلى العالمية، وهو الكاتب الذي تصّفه “الليندي” بأنه: “أستاذ الأساتذة”، وتعترف بأن روايته (مئة عام من العزلة) هي التي جعلتها ترغب في كتابة الرواية قائلة: “كانت شخصياته أكثر شبّهًا بأفراد عائلتي، وصوته بدا سهلاً بالنسبة ليّ”.
والحكاية أنه خلال وجودها في المنفى بمدينة “كراكاس” الفنزويلية؛ تلقت مكالمة هاتفية تُبلغها بأن جدها البالغ من العمر (99 عامًا) على وشك الموت، فجلست لتكتب إليه رسالة: “على أمل إبقائه على قيّد الحياة، على الأقل روحيًا”، فتطورت الرسالة، وتدفقت الكلمات بما يزيد على 500 صفحة، وصولًا إلى رواية (بيت الأرواح)، التي قالت أن الهدف منها كان هو طرد أشباح دكتاتورية “بينوشيه”، والطريف أنه تم رفض الرواية من قبل عدد كبير من الناشرين في “أميركا اللاتينية”، حتى أرسلتها في النهاية إلى ناشرة في العاصمة الأرجنتينية “بوينس آيرس”، فأحدثت ضجة هائلة، وسرعان ما توالت طبعاتها لأكثر من عشرين طبعة باللغة الإسبانية، كما تمت ترجمتها إلى عشرات اللغات، ومقارنة “الليندي” بـ”ماركيز” و”يوسا”، فقالت: “لا أعتقد أنني كنت سأصبح كاتبة جادة لو بقيت في تشّيلي، سأكون محاصرة في الأعمال المنزلية، في الأسرة، في الشخص الذي يتوقعه الناس ليّ”.
على أن التحدى الأكبر كان في روايتها الثانية، وتحديدًا عندما قالت لها وكيلتها الأدبية “كارمن بالسيلز”؛ إن: “الجميع بإمكانه تأليف كتاب أول جيد، لأنهم يضعون فيه كل ما في حوزتهم، ماضيهم وذكرياتهم وتوقعاتهم.. الكاتب الحقيقي يُثبت نفسه في الكتاب الثاني”، ولتثُبت لها أن نجاح العمل لم يكن ضربةَ حظ، بدأت في كتابة روايتها الثانية في 08 كانون ثان/يناير 1982، وهو يوم مقدس بالنسبة لها، تتفاءل به، وتبدأ كتابة جميع رواياتها فيه، إلى جانب حفاظها على روتين صارم للغاية، فهي تكتب على جهاز كمبيوتر، وتعمل من الساعة التاسعة صباحًا إلى السابعة مساء، من الإثنين إلى السبت، وتقول: “أبدأ دائمًا في 08 كانون ثان/يناير، وهو تقليد بدأته عام 1981، برسالة كتبتها إلى جدي”.. وتقول موسوعة (ويكيبيديا) غير الدقيقة أحيانًا، أن روايات “إيزابيل الليندي” تُرجمت إلى أكثر من 42 لغة، وبيّعت منها أكثر من 77 مليون نسخة.
أما عن اتخاذها الكذب سردًا كطريق إلى قول الحقيقة فتقول: “لقد حدثنا ماركيز عن ماهيتنا، عمن نكون، في صفحات رواياته رأينا أنفسنا كما لو كنا ننظر في المرآة.. عندما تقبل ككاتب أن السّرد المتخيل هو مجرد كذب، تُصبح حرًا.. عندها يمكنك أن تفعل أي شيء، فتبدأ بالمشي في دوائر، وكلما كبرت الدائرة، صارت الحقيقة أكبر وأقرب، بعدها يمكنك الحصول على الحقيقة كاملة.. كلما اتسع الأفق كلما مشيت أكثر.. وكلما تباطأت أكثر عند كل شيء، وكانت لديك فرصة أفضل لرؤية الأجزاء المتناهية الصغر من الحقيقة”.
* نُشر هذا المقال لأول مرة بجريدة “الدستور” المصرية في عدد (حرف).