خاص : بقلم – طارق يوسف :
يتناول “المقريزي” في هذا الكتاب؛ تاريخ المجاعات التي نزلت بـ”مصر” منذ أقدم العصور إلى سنة 1405م (808 هـ)، وكان الباعث على تأليف هذا الكتاب فقدان “المقريزي” لابنته الوحيدة، بموتها بالطاعون الذي اجتاح “مصر” أثناء المجاعة؛ التي وقعت سنة 1393م (796 هـ)، في عهد السلطان “برقوق”، واستمرت حتى سنة 1405م (808 هـ).
وقد تركت وفاة ابنته أثرًا عميقًا في نفسه، فعكف على الكتابة في تتبع المجاعات التي حلت بـ”مصر” على مدار التاريخ، واهتم بتعليلها وتحليلها حتى فرغ من تدوين مادتها العلمية والتاريخية في أقل من عام، وبعد ذلك قام بتنقيح ومراجعة الكتاب وتهذيبه في ليلة واحدة من ليالي المحرم سنة (808 هـ)، حيث جاء في الصفحة الأخيرة من المخطوط: “… تيّسر لي ترتيب هذه المقالة وتهذيبها في ليلة واحدة من ليالي المحرم سنة ثمان وثمانمائة”.
ونُلاحظ أن “المقريزي”؛ عندما اختار هذا العنوان لكتابه، فهو يقصد: بـ”الغمة” تلك المجاعات التي ضربت البلاد، وقد كان الفصل الأول من كتابه تحت عنوان: “في إيراد ما حل بمصر من الغلوات وحكايات يسيرة من أنباء تلك السنوات”.. وفيه يستعرض هذه الغلوات أو الأزمات، بداية من زمن طوفان “نوح”، مرورًا بزمن “فرعون”، وما وقع في زمن “الحاكم بأمرالله”، ثم الغلاء في زمن الخليفة “المستنصر”، وصولاً إلى المجاعة التي وقعت في زمن السلطان “برقوق”؛ حيث ماتت ابنته سنة (806 هـ).
فـ”المقريزي”؛ يرى أن تلك المجاعات، وإن كانت ترتبط بقصور “النيل” وشُح المياه بسبب ضعف الفيضان، لكنه يرى أن السبب الرئيس في حدوث تلك المجاعات: “سوء تدبير الزعماء والحكام لشؤون البلاد، وغفلتهم عن النظر في مصالح البلاد والعباد”.
الشدة المستنصرية..
تحتل “الشدة المستنصرية”، التي ضربت “مصر”؛ في عهد الخليفة “المستنصربالله” الفاطمي، جزءًا كبيرًا من الفصل الأول، ذلك أنها تُعد أكثر المجاعات فتكًا وأبشعها أثرًا، فلم يعرف المصريون ما هو أبشع منها، ولذا فقد أطلق عليها بعض المؤرخين والباحثين اسم: “الشدة العظمى”…
يصف “المقريزي” ما حاق بالبلاد جراء هذه الأزمة على النحو التالي: “… ثم وقع في أيام المستنصر الغلاء الذي فحش أمره وشنع ذكره، وكان أمده سبع سنين، وسببه ضعف السلطنة واختلال أحوال المملكة، واستيلاء الأمراء على الدولة، واتصال الفتن بين العُربان، وقصور النيل، وكان ابتداء ذلك في سنة سبع وخمسين وأربعمائة (1064 م)، فنزع السعر، وتزايد الغلاء، وأعقبه الوباء حتى تعطلت الأراضي من الزراعة وشمل الخوف وتعذر السير إلى الأماكن إلا بالخفارة الكثيرة…”.
هنا نلحظ أن “المقريزي” – الذي عاش في حلقة من حلقات العصور الوسطى – أثبت في هذا المقتطف أنه تجاوز بفكره دائرة العصور الوسطى، إذ استطاع أن يُقدم من الآراء والأحكام ما يُردده اليوم رجال الفكر في عصورنا الحديثة، ففي هذا الكتاب الصغير؛ (إغاثة الأمة بكشف الغمة)، وضع “المقريزي” آراء اقتصادية واجتماعية قيمة، وهي آراء سبق بها “المقريزي” عصره بكثير. وبعبارة أخرى فـ”المقريزي” في هذا الكتاب؛ لم يكن مجرد مؤرخ فحسب بل أيضًا ناقدًا اجتماعيًا، ومحللاً اقتصاديًا مبرزًا.
“المقريزي” تلميذ “ابن خلدون”..
ويرى البعض أن “المقريزي”؛ في عنايته بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية، إنما تأثر بأستاذه؛ “عبدالرحمن بن خلدون”، الذي التقى به وتتلمذ على يديه، فترة وجود “ابن خلدون”؛ بـ”مصر”. والواقع أن المتفحص لكتاب “المقريزي”، سيضع اليد على وفرة وغزارة من المعلومات التاريخية ذات الطابع الاجتماعي جعلت من “المقريزي” مؤرخًا حصيفًا، لا يقف عند حدود الظاهرة التاريخية، بل يتجاوزها إلى الجوهر والقانون الذي يحكمها..
يستمر “المقريزي” في وصف ما يحدث في المجاعات، ليستنبط من الأحداث والأزمات، أسباب حدوثها، فهو يرى أن هذه الأزمات لها أسباب محددة بعيدة عن القدر الذي لا يمكن الفكاك منه، فالأزمات لها أسبابها…
عندما أكل الناس بغلة الوزير !
ثم يستمر في وصف ما حدث في “الشدة المستنصرية”؛ في محاولة لاستخلاص الأسباب الكامنة وراء ما يحدث من أزمات: “… واستولى الجوع لعدم القوت حتى بيع رغيف الخبز بخمسة عشر دينارًا، وأكل الناس الكلاب والقطط حتى قلت الكلاب، فبيع كلب يؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضًا، وقيل إن الكلب كان يدخل الدار، فيأكل الطفل وهو في المهد، وأمه وأبوه ينظران إليه فلا يستطيعان أن ينهضا لدفع الكلب عن ولدهما لشدة الجوع… وقيل إن الوزير ركب يومًا على بغلته، وتوجه إلى دار الخلافة، فلما نزل عن البغلة أخذها الناس من غلمانه وأكلوها في الحال، فامسكوا الذين فعلوا ذلك وشنقوهم، وعلقوهم على الخشب فلما باتوا أصبحوا، فلم يجدوا أحدًا من المشانيق، وقد أكلوا من على الخشب”.
الفساد وغلاء الأطيان..
يستطرد “المقريزي”: “… وعلى هذا فبعد استقراء التاريخ واستخلاص العبر، توكلت على الله وكتبت فصلاً في بيان الأسباب التي نشأت عنها هذه المحن التي نحن فيها”. وحدد “المقريزي” ثلاثة أسباب:
السبب الأول؛ وهو أصل هذا الفساد: “ولاية الخطط السلطانية، والمناصب الدينية بالرشوة، كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل، فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومُفسدٍ وظالمٍ وباغٍ إلى ما لم يكن يؤمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة”.
السبب الثاني؛ كما حدده “المقريزي” فهو: “غلاء الأطيان، حيث بلغ الفدان لهذا العهد نحوًا من عشرة أمثاله قبل هذه الحوادث… ومع أن الغلال معظمها لأهل الدولة أولي الجاه وأرباب السيوف، استمر السعر مرتفعًا لا يُرجى انحطاطه… وتعطلت أكثر الأراضي من الزراعة، فقلت الغلال وغيرها مما تُخرجه الأرض لموت أكثر الفلاحين وتشردهم في البلاد من شدة السنين وهلاك الدواب ولعجز الكثير من أرباب الأراضي عن زراعتها لغلو البذر وقلة المزارعين”.
العُملة الجيدة تطرد العُملة الرديئة من السوق..
أما السبب الثالث الذي أورده “المقريزي”؛ في أسباب تلك الغلوات والأزمات، فهو: “رواج الفلوس”…
لقد تناول “المقريزي” موضوع النقود في مؤلفه: (إغاثة الأمة بكشف الغُّمة)، بشيء من التفصيل، حتى أنه احتاج لما يقرب من نصف عدد صفحات هذا المؤلف، لشرح وبيان أهمية موضوع النقود…
فقد توصل “المقريزي” ـ من خلال تتبع الأسباب الاقتصادية للأزمات التي مرت بها البلاد ـ إلى أحد قوانين العُملة التي وضعها “جريشام”؛ بعد وفاة “المقريزي” بأكثر من قرن من الزمان، والذي ينص على أنه إذا وُجدت في السوق عُملتان إحداهما جيدة والأخرى رديئة، فان العُملة الرديئة تطرد العُملة الجيدة من السوق.. توصل “المقريزي” إلى هذا القانون عندما حاول تفسير الأزمات الاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد، وألقى باللوم على الحكام لتلاعبهم بالعُملة وإكثارهم من ضرب النقود الرديئة والمزيفة مما ترتب عليه ارتفاع الأسعار، واختفاء العُملة السليمة الجيدة من السوق.
إنه لأمر يُثير الدهشة ويبعث على الإعجاب بهذا المؤرخ الفريد، فقد سبق “المقريزي”؛ علماء الاقتصاد والمتخصصين، بأكثر من مئة عام، بالحديث عن النقود، بل والتضخم في ذلك الزمن البعيد.