25 فبراير، 2025 5:09 م

إعادة قراءة لما واجهه فيلم “خيال مآتة” كنموذج مبكر لمحاولة تمكين الهيمنة الخليجية على السينما المصرية !

إعادة قراءة لما واجهه فيلم “خيال مآتة” كنموذج مبكر لمحاولة تمكين الهيمنة الخليجية على السينما المصرية !

خاص : دراسة بقلم – د. مالك خوري :

حين نشرت على صفحتي الخاصة؛ من سنتين، بوست تضمن لائحة الأفلام التي أعتبرتها نماذج مميزة للسينما المصرية منذ بداية الألفية، والتي من الضروري مشاهدتها من قبل أي مهتم بالدراسة الجدية للسينما المصرية، أثار البوست ردود فعل كبيرة نسبيًا، منها الإيجابي ومنها السلبي. وبالطبع، العديد من ردود الفعل استفزها وجود أو عدم وجود فيلم أو أفلام معينة ضمن اللائحة المذكورة. واحد من الأفلام التي “استفز” وجودها كثيرين من: “حُراس الهيكل” كان فيلم: (خيال مآتة).

في هذه الدراسة أتناول ما وجدت فيه معلمًا من أهم معالم السينما المصرية المعاصرة. وكنت قد كتبت حول الموضوع لدى طرح الفيلم في صالات العرض، لكنني أجد اليوم ضرورة في النشر الرسمي لملاحظاتي المطولة حول الفيلم لسببين هامين :

  • للمساعدة في توضيح المنهجية العامة التي أتبعها عادة في قراءاتي لأفلام محددة كأساس لتقييم أهميتها كممارسة ثقافية (cultural practice).
  • نظرًا لأن الفيلم نفسه مثل ظاهرة شديدة الأهمية عبرت، خصوصًا من خلال ديناميات تلقيها (reception)، عن مظاهر من واقع مرحلة هيمنة مفصلية معينة تعيش ضمنها السينما العربية اليوم.

فالفيلم واجه نوعية مختلفة من “السلبية” لا أظن أننا رأينا مثلها في العقدين السابقين. وكما تُبيّن الدراسة في القسم الأول منها، واجه (خيال مآتة) هجمة شبه منظمة وغير مسبوقة في تنوعها وحجمها، مما أرسى بتقديري لتمركز نقلة نوعية في شكل تناول أي فيلم لا يصب، بشكل أو بآخر، في خانة ما يرضى عليه رأس المال الخليجي والذي أضحى شبه مهيمنًا على كل أطر إنتاج وتسويق وتوزيع وحتى “نقد” و”تقييم” السينما في عالمنا العربي اليوم. في القسم الثاني من الدراسة أقوم بقراءة للفيلم نفسه، مشيرًا شارحًا إلى ما قد تكون عوامل ساهمت في طبع هكذا حملة ضد الفيلم. فالواضح أننا نعيش في مرحلة يجري فيها التصويب ضد أي محاولة للتعبير بطريقة مغايرة لما هو سائد أو مسموح به، سواءً أسلوبًا أو فكرًا، وبالطبع إنتاجًا. بهذا يكون (خيال مآتة) قد أرخ عمليًا لمرحلة بدأت فيها، وبشكل أكثر فجاجة، محاولات إعادة قولبة السينما المصرية وترهيبها كي لا تجرؤ على التمرد على الإطار العام الذي أصبح يُهيمن اليوم على الإنتاج والتوزيع والدعاية والمهرجانات و”النقد” والسوشال ميديا في معظم الدول العربية: رأس المال والمصالح الخليجية وما تُمثله من قوى إقليمية واستعمارية جديدة في المنطقة.

الحدث السينمائي الأكثر إثارة للجدل؛ خلال فترة عيد الأضحى عام 2019، تمثل في الضجة التي رافقت فيلم المخرج؛ “خالد مرعي”، (خيال مآتة)؛ والذي قدم الممثل؛ “أحمد حلمي”، في أول ظهور له على الشاشة في حينه منذ ثلاث سنوات. فتزاحم أفلام الأعياد على تسجيل النسبة الأعلى لإيرادات شباك التذاكر خلال الأعياد أصبحت في السنوات الأخيرة؛ لعبة معهودة حتى في تحولها أحيانًا إلى رياضة منافسة: “دموية”. بيد أن حجم ونوعية ردود الفعل والتعليقات والتسريبات حول (خيال مآتة)؛ في حينه، اتسمت بعض الشيء بدرجة غير معهودة من المغالاة في التهجم وعبثية الطروحات، خاصة في إطار مشاركة بعض النقاد والمهتمين الجديين بالسينما بها، وكذلك مشاركة بعض “السنيفيل” المحليين المعروفين بمشاركاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الحملة.

أبحث في هذه الدراسة؛ وجهين في قراءة الفيلم: الواقع الوضعي لما حدث مع الفيلم وتجاهه، بما في ذلك موضوع الضجة التي رافقت طرحه في السوق، من ناحية، وقراءة في الفيلم نفسه، والذي أرى فيه تعبير فني مغاير ومعاكس لما كان، وما زال، سائدًا حاليًا في السينما التجارية المصرية والعربية.

  • في التلقي “النقدي” لطرح الفيلم في السوق..

قبل قراءة الفيلم نفسه إذاً سأبدأ بتقصي ومناقشة الأجواء التي رافقت طرحه في صالات السينما؛ محاولاً قدر الإمكان تلمس بعضًا من مظاهر الضجة الغير معهودة التي أشرت إليها، واضعًا إياها في إطار الواقع المُربك الذي تُعاني منه ثقافتنا السينمائية والفنية المصرية والعربية بشكل عام. وقد يكون هذا الواقع مرتبطًا إلى حدٍ ما بالهبوط العام في مستوى أداء بعض العاملين ضمن بعض المؤسسات المعنية بالسينما؛ سواء على الصعيد الإداري أو الفني أو النقدي والتراجع في المستوى النظري والفكري لبعض هؤلاء. أو قد يكون هذا الواقع مرتبطًا بصعود نزعات (Trends) وأجندات ومراكز نفوذ سياسية أو تنظيمية معينة؛ قد تكون أضحت مُهيمنة على مفاتيح هامة في ثقافتنا السينمائية.

ففيما يتعلق بنزول الفيلم؛ نلحظ التالي: فجأة، وحتى قبل أن يكتمل توزيع الفيلم على دور العرض المحلية في “مصر”، اكتظت وسائل التواصل الاجتماعي بأنباء توحي بوجود مشاكل أساسية قد تحول دون توزيع الفيلم خلال في فترة عيد الأضحى. فقالت صحيفة (اليوم السابع) أن السبب وراء عدم طرح الفيلم في اليوم الأول لأيام العيد، يكمن في أن نسخه النهائية ملأى بالعيوب في الصوت؛ وذلك ضمن عدد من الفصول. وأضافت الصحيفة أن الشركة المنتجة قررت إعادة تحميل النسخ من جديد بهدف طرحها للعرض الجماهيرى بداية من حفل الثانية بعد منتصف الليل يوم الأحد الموافق 11 آب/أغسطس.

بعد يوم من نزول الفيلم في صالات العرض انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، ثم نشرت بعض الصحف أنباء عن سحب الفيلم من بعض سينمات وسط “القاهرة” ومولات “6 أكتوبر” و”التجمع الخامس”، وذلك بدعوى: “ضعف الإقبال الجماهيري” وأن المنتج؛ “وليد صبري”: “يُحاول الآن إنقاذ الفيلم”. وأذكر بهذه المناسبة أنني شخصيًا كنت أحاول يوم الإثنين دخول الفيلم في إحدى مولات “التجمع الخامس”، لكنني لم أستطع الحجز في أية حفلة بسبب عدم توفر أماكن داخل القاعة. في نفس السياق، ظهر خبر مفاده أن الفيلم جرى سحبه من كافة صالات العرض في “السودان”؛ وذلك بسبب ضعف الإقبال. بعد هذه الضجة حول سحب الفيلم اضطر المنتج الفني للفيلم؛ “محمد عبدالغني”، بالنهاية إلى: “نفي هذه الأخبار”؛ معلنًا أن الفيلم ما زال يُعرض في كافة دور السينما وفي كافة المناطق.

وما إن هدأت ضجة “سحب الفيلم”؛ حتى بدأت ضجة من نوع آخر عنوانها أن الفيلم تعرض لعملية قرصنة أدت إلى تسريب الفيلم “على العديد من المواقع الإكترونية”. وحرصت تلك الأنباء على التأكيد على “الجودة العالية” للنسخ المقرصنة؛ وذلك على الرغم من كونها “مسروقة من قاعات السينما، وهو الأمر الذي أثار حيرة الكثيرين” (!) وبعد تقصي الموضوع تبين وجود بعض اللينكات للفيلم على الإنترنيت بالفعل، لكنها في معظمها كانت تُقدم نسخًا غير متكاملة للفيلم وأن بعضها كان في حالة رديئة جدًا. وبغض النظر عن نوعية النسخ الموجودة على الإنترنيت فإن تأثير نشر هذا الموضوع على أداء الفيلم في شباك التذاكر كان بالتأكيد هامًا ولا يمكن الاستهانة بها.

بعض مضي ثلاثة أيام على نزول الفيلم، ظهر على الـ (فيس بوك) بوست تحت عنوان: “أسباب سقوط خيال مآتة”؛ تقول فيه المؤلفة؛ “نهال سماحة”، أنها هي صاحبة الفكرة الأساسية للفيلم وأن “حلمي”، من خلال زوجته الفنانة؛ “منى زكي”، قد سرقا الفكرة منها وقدماها الى الكاتب؛ “عبدالرحيم كمال”، الذي لم يعرف بالنهاية كيف يتعامل معها. وقالت أن هذا كان سببًا أساسيًا في “فشل” الفيلم.

وما أن جرى نشر البوست، حتى تلقفت العديد من المواقع الخاصة والعامة؛ وبينها بعض النقاد المعروفين الموضوع، معلنين تضامنهم مع صاحبة البوست ورفضهم: “لتصرف” حلمي وزوجته. الغريب أن تضامن بعض من هؤلاء اتخذ عنوان: “نصدق الإدعاء حتى يثبت حلمي خطأ الإدعاء” (!) وكأن المدعى عليه أصبح مسؤولاً عن إثبات براءته من دون أن يكون للمدعي مسؤولية قانونية لإثبات إدعاءاته أو حتى الإدعاء رسميًا في القضية ! وتواصلت لساعات التعليقات حول موضوع: “السرقة” متحدثة عن “سرقة” السيناريو كدليل على “السقوط” الأخلاقي والمهني لـ”حلمي” ولزوجته. وبقيت الضجة حول الموضوع قائمة لأسابيع بعد سحب الفيلم من التداول.

على مستوى ردود الفعل النقدية، سأقرأ هنا بعض العناوين الرئيسة لبعض التعليقات التي تناولت الفيلم. والهدف هنا وضع القاريء في إطار الجو العام الذي جرى تلقي الفيلم ضمنه؛ خاصة خلال الفترة الأولى (والأهم) لعرضه في صالات السينما، لما لها من تأثير على الانطباع الجماهيري العام عن الفيلم وبالنهاية على حجم الإقبال عليه.

ويمكن القول أن التعليقات في المقالات الصحافية وضمن التدوينات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي؛ اتسمت بشكل عام بالسلبية. ويجب التأكيد هنا أنه لا ضير من هذا النوع من ردود الفعل، بل أنها هامة وتُمثل جزءًا عاديًا من واقع الثقافة السينمائية وفي كل أنحاء العالم. إذ من الطبيعي أن يُعبر الناقد، كما الإنسان العادي، عن وجهات نظر سلبية تجاه فيلم أو أفلام معينة وتجاه كل أنواع هذه الأفلام، التجارية منها وغير التجارية.

فمن ناحيته؛ رأى “طارق الشناوي” أن الفيلم، وعلى الرغم من محاولة كاتبه؛ “عبدالرحيم كمال”، في بداية الفيلم الخروج عن الصندوق واقتناص لمحة مميزة في الذاكرة الجمعية المصرية، أي بروش “أم كلثوم”، فإنه (أي الشناوي)، لم يتمكن: “بعد ضربة البداية الناجحة أن يعيش نحو نصف قرن من الزمان، ويتشبع بظلال إبداعية، تتجاوز سرقة (البروش)”. وأضاف “الشناوي” أن انتظاره بعد ساعتين من المشاهدة لم يتمخض عنه العثور على أي شيء. ولفت إلى أن الفيلم لم يكن قادرًا على الإضحاك ولم يستعمل القدرات الكوميدية لأبطاله. وختم بأن التراجع عن سبر غمار “مقدمة” الفيلم جعل محتواه بالنهاية: “أقرب إلى (فنكوش)”.

أما “ماجدة خيرالله”؛ فكتبت في مدونتها أنها لم تستغ اسم الفيلم، كما أنها استغربت أن يعود الفيلم نصف قرن إلى الوراء: و”يُصّعب الحكاية على نفسه، وبالتالي يُفسد حركة أحمد حلمي ويخليه يظهر معظم أحداث الفيلم كرجل في الثمانين وطبعًا كان مضطر يرفع سن كل من حوله فيفقد جزء كبير من ألق وحيوية أحمد حلمي ورفاقه…”، وقال “أحمد رمضان”؛ أن الفيلم: “ضعيف في تركيبته السينمائية”، وأنه حاول أن: “يرصد مشكلة لا تهم جمهور يعيش في عام 2019؛ وأصبح على دراية كبيرة بما يحدث حوله بسبب الثورة التكنولوجية الكبيرة التي نعيشها حاليًا…”.

بالمقابل قال؛ “سيد محمود سلام”، أن: “الرمزية التي حاول الفيلم أن يعتمد عليها لم تكن واضحة للمشاهد”، معطيًا مثل: “بروش الست”، وعدم قدرة الجيل الجديد على استيعابه كثيمة رئيسة أضفت جوًا باهتًا على مركب أساس في قصة الفيلم. ويُصر “سلام” على أن توقعات المشاهد يجب أن تُحترم لأنه وإن قال البعض: “أنه ليس مطلوبًا من المؤلف أو بطل الفيلم أن يشرح في فيلمه كل عناصره أو حتى فكرته التي يُريدها أن تصل، لكن في عمل كوميدي ذهب الجمهور إلى دور العرض كي يضحك، [ف] أنت مطالب بأن تحقق له الهدف”.

ورأى “أندرو محسن”؛ أن مشكلة الفيلم تكمن أكثر من أي شيء آخر في بنائه الدرامي نفسه. ويشرح “محسن” أن: “السيناريو يفضل يبني في حاجات ويقدم تفاصيل وبعدين يجيبلنا نهاية في الآخر بتهدم كل الشغل اللي عمال يبنيه من الأول أو بتتعارض معاه بشكل واضح، وكأن المؤلف مشافش بداية الفيلم…”. آخرون شددوا على أن الحبكة السينمائية لم تتمكن من توفير خلفية كافية عن شخصيات الفيلم الرئيسة والثانوية على السواء مما أضعف من التعاطف مع أحداث الفيلم ككل؛ وبالتالي أثر سلبًا على اندماج المشاهد بالفيلم وتمتعه به. بالمقابل اعتبر “محمود عبدالشكور”؛ أن (خيال مآتة) هو: “أحلى أفلام أحمد حلمي، لأنه يجمع ما بين الفكرة والضحك”، وأنه يتضمن حبكات: “أقرب إلى اللعب”. ويتابع “عبدالشكور” أن ما خلق التباسًا لدى الجمهور هو أنه كان يتوقع أن يضحك أكثر. ولفت معظم من تناولوا الفيلم، نقادًا و”سينيفيل” وغيرهم، على أن الفيلم لم يستفيد من المواهب الكوميدية المتوفرة مما جعل الكوميديا: “شحيحة جدًا” وعلى عكس ما كان متوقع، وبالتالي فقد أهدر الفيلم فرصًا هامة لاستغلالها كما كان يجب.

ومن ناحية ثانية؛ يمكن ملاحظة أن الكثير من تعليقات “السينيفل” على وسائل التواصل الاجتماعي اتسمت بنوع من: “السلبية المتحاملة”، بمعنى تميزها بمستوى غير معتاد من القسوة في التعبير والرافض الشامل، لكن من غير تبريرات قوية أو جدية. وألحظ هنا بسرعة بعض من هذه التعليقات مثل: “أتاح لي الفيلم المجال للنوم ساعتين، وهذا إنجاز”. أو “الفيلم لم يستطع أن يكون فيلمًا تجاريًا جميلاً يُرضي الجمهور، ولا فيلمًا عميقًا ذو معنى ويُرضي السنيفيل”. تعليق آخر يختصر الموضوع أكثر: “الفيلم كان سيء جدًا جدًا” وهو لا يستحق أكثر من هكذا توصيف (!) تعليق آخر يُبرر عدم حضور الفيلم بأن معظم من يعرفهم نصحوه بعدم مشاهدته لأنه: “وحش جدًا ومش بيضحك خالص”. تعليق آخر طالب بمقاطعة الفيلم نظرًا: “لسوء مستواه”. بالمقابل ظهرت ردود فعل تعزو ما يحدث تجاه الفيلم إلى وجود “مؤامرة” أو “حملة ممنهجة” ضد “حلمي”: “لإسقاط فيلمه لصالح الأفلام الأخرى المعروضة في نفس الوقت”. بينما كتب المنتج؛ “جمال العدل”، داعيًا لدعم “أحمد حلمي”: “حتى لو كان فيلمه لم يعجب الجمهور”.

بيد أنه بالرغم من الجو السلبي العام الذي أحاط به؛ سواء من ناحية ردود الفعل النقدية أو حتى من الناحية اللوجستية في تأخر نزوله حتى اليوم الثاني من أيام العيد ثم قرصنته على الإنترنيت، وعلى الرغم من أن الكثيرين أصروا على أن الفيلم فشل في شباك التذاكر، فإن الفيلم بقي في الواقع داخل قائمة الأفلام التي تصدرت فترة الأعياد وحتى بعدها. بل أن الفيلم حقق في أول يومين ما يزيد عن الـ 12 مليون جنيه، أي بمعدل: 6 ملايين جنيه لكل يوم. ومع بعض التراجع في الإيرادات في الأيام التالية؛ فإن آخر الأرقام، وحتى كتابة هذا المقال؛ كانت تُشير إلى بقائه في المركز الثاني أو الثالث على لائحة الأفلام المتنافسة، أي مباشرة بعد فيلمي: (ولاد رزق 2) و(الفيل الأزرق 2)، وذلك بحسب قاعدة البيانات الصادرة عن “موقع السينما العربية والمصرية”. بينما قال موقع (مصراوي) أنه على الرغم من تراجع الإيرادات، فإن الفيلم بقي: “في المركز الثاني” على لائحة التنافس، أي بعد: (ولاد رزق 2).

وبغض النظر عما حصل على صعيد لائحة الإيرادات، يبدو من الواضح أن الفيلم لم يفشل في شباك التذاكر؛ كما أشيع منذ اليوم الأول لنزوله، وعلى الأقل ليس بالطريقة التي صورتها بعض التعليقات المغالية في سلبيتها.

بل أن الفيلم بقي في حينه ضمن لائحة الأفلام التي تشمل العناوين الأربعة الأول التي كانت داخل دائرة التنافس في المردود خلال عامي: 2018 و2019. طبعًا هذا لا يعني أن هذه الأفلام كانت بالضرورة “أفضل” ما أنتج محليًا خلال هذين العامين. واللائحة تشمل خليط من الأفلام الكوميدية و”الآكشن” والإثارة وتتضمن: (الأبلة طم طم)، (ليلة هنا وسرور)، (قلب أمه)، و(هروب اضطراري) و(الخلية) و(حرب كرموز)، و(كارما)، و(البدلة)، و(الديزل)، و(تراب الماس)، و(كازابلانكا)، و(الممر) و(سبع البرمبة)، و(حملة فرعون)، و(محمد حسين)، بالإضافة لأفلام الأضحى 2019: (الفيل الأزرق2) و(ولاد رزق 2).

ومن الواضح، أنه وباستثناء فيلم: (البدلة)، فإن فيلم (خيال مآته) يُمثل استثناءًا نوعيًا ضمن لائحة الأفلام المتنافسة، سواء في المحتوى، البناء والشكل، أو في القدرة الافتراضية على جذب جمهور واسع على الرغم من عدم رضوخه لمعايير ما هو مُهيمن تجاريًا في حينه. وتزداد أهمية صموده داخل اللائحة أخذًا بالاعتبار الظروف والأجواء غير الإيجابية التي واجهته قبل وبعد طرحه في صالات العرض.

هنا لا بد من الإشارة أيضًا إلى أن “لعبة” الأفلام التي تطمح إلى النجاح في السوق تختلف عادة عن تلك التي يُمارسها منتجو الأفلام التي لا تهدف بالضرورة إلى النجاح في شباك التذاكر بقدر اهتمامها بالوصول إلى جمهور سينمائي واسع. وما يُميز الأفلام التي يُشارك فيها “أحمد حلمي” بالبطولة الرئيسة؛ هو كونها تدخل عادة ضمن سياق نوعين من الأفلام: أي “الفيلم الشعبي” الموجه للنجاح في شباك التذاكر، وكذلك “الفيلم المصقول” فنيًا؛ والذي يستسيغه بعض المهتمين بـ”سينما الفن”. هذا أخذًا بالاعتبار أن الكثير من النقاد يُميلون في الغالب إلى تصنيف أفلام “حلمي” في خانة الأفلام التي يتوقع أن يكون لها جاذبية جماهيرية ذات طابع واسع، وبالتالي فإن التوقع أيضًا أن تُحافظ هذه الأفلام على: “نكهتها”، الخاصة كي تُحافظ على مكانتها ضمن أفلام السوق التجارية.

فهل كان خرق (خيال مآتة) لمعادلة التوازن المتوقعة هذه، خصوصًا في شطريها: “الشعبي” و”الأحمد حلمي” (نسبة إلى أحمد حلمي)، سببًا في الضجة السلبية: “الغير عادية” التي رافقت الفيلم ؟

لدى النظر إلى ردود فعل “محبي أحمد حلمي”؛ وحتى النقاد و”السينيفل”، من الأرجح أن نستنتج أن الفيلم لم يستجب لتوقعات “شعبوية” معينة. بل أن هذا “التقصير” (طبعًا برأي هؤلاء)؛ قد أدى في الواقع إلى حالة إحباط وملل لدى البعض الهام من جمهور “حلمي”. وأهم مصادر “خيبة الأمل” هذه كما أشارت بعض التعليقات تمحور حول أن الفيلم لم يتضمن الفيلم القدر “المتوقع” و”الكافي” من الأفيهات الكوميدية (هذا طبعًا بغض النظر عن المعني “بالمتوقع” أو “الكافي”). وربما ما زاد من “خيبة الأمل” هذه، أن “حلمي” جمع في الفيلم باقة من الممثلين المميزين بمواهبهم الكوميدية مثل: “حسن حسني ولطفي لبيب وبيومي فؤاد وإنعام سالوسة” وغيرهم. إذ لا شك أن هكذا جمع من المواهب بنى لدى الجمهور توقعات كبيرة لجهة إمكانية التمتع بكوميديا مُثيرة للضحك “المجلجل”. وإذ بهذا الجمهور “يُحبط” جراء إقتصار الفيلم على “إفيهات سريعة” موزعة على مدار ساعتين من “الملل الذي يستدعي النوم”؛ كما علق بمرارة أحد “السينيفيل” المحبين لـ”حلمي”.

من ناحية أخرى، لا بد من الإشارة إلى أنه خلال السنوات العشر الأخيرة؛ نمت نزعة قديمة/متجددة لدى بعض النقاد المحليين، ومنهم الشباب كما المخضرمين، والتي تضع مقاييس انطباعية ضيقة وجاهزة لما يعتبرونه دراما أو “حبكة” سينمائية ناجحة أو أخرى فاشلة. وينطبق نفس هذا الشكل من المعايير على السينما “التجارية” أو سينما شباك التذاكر، أو سينما “الفن” و”المهرجانات”؛ كما يُصنفها البعض. والمحتوى الأساس لمثل هذا التوجه النقدي يدور حول “وجوب” إتباع “الفيلم المميز” لتطبيق معادلات تقليدية كوجود رابطة “سردية” تجمع كل تفصيلات ومكونات القصة السينمائية وحتى المضمون الشكلي لتقديمها. وبالتالي فإن عدم الإلتزام بهذا “القانون” يُمثل تعبيرًا عن فشل وضعف في السيناريو وفي الإخراج. وتُصبح هكذا معادلة أكثر “حسمًا” و”مصيرية” في أهميتها لدى بعض هؤلاء النقاد حين يُقاس على معيارها أي فيلم من المفترض أن يكون محسوبًا على خانة أفلام شباك التذاكر.

محاولة تطبيق مثل هذه المعادلات المصطنعة وغيرها دوغماتيًا كماقييس لتقييم الأفلام، لا يحد فقط من فهمنا واستيعابنا للتنوع الهائل الذي يطبع فن السينما تاريخيًا كفن دائم التحول والتغير. بل أن مثل هكذا معادلات نقدية انطباعية تتناغم شكلاً ومضمونًا مع بعض النزعات الإقصائية، النخبوية منها والشعبوية، والتي طالما روجت لفكرة أو أخرى عما: “يُفترض أن تكون عليه السينما” أو تُمثله.

باختصار؛ فإن اختزال النقد والتقييم في مثل هكذا معادلات انطباعية جاهزة يُنم عن نزوع فاشي المحتوى والشكل ويتناقض مع القواعد الأساسية العامة لاحترام التنوع في العمل الفني وحريته. ونحن لا نستغرب رواج، بل هيمنة، مثل هذا النوع من الاتجاهات: “النقدية” في عالمنا العربي أخذًا بالاعتبار مدى تلكؤ العديد من المروجين لهكذا معادلات عن التصدي الجدي لمن دأبوا منذ عقود إلى التسويق لأفكار: “الوهابية الجديدة” المتمثلة أكثر من أي شيء بمفهوم: “السينما النظيفة” وما شابهها. وبكل الحالات، فإن هذا المفهوم للنقد لا يتسم بحرفية تحليل علمية أو جدية، كما أنه يُعبر عن ضعف في الإطلاع النظري على تنوع الثقافات السينمائية في العالم وتطورها على مدار القرن المنصرم والعقدين الآخيرين.

والسؤال يبقى: هل أن خرق “أحمد حلمي”: “للمعادلة” المتوقعة منه يُمثل بالفعل انتكاسة للمستوى الفني لأفلام “حلمي” ؟

أنا لا أرى هذا. بل أنني ألحظ في الفيلم خطوة ساهمت في حينه، ولو بشكل بسيط، في تحدي وكسر احتكار نوعية سائدة من الأفلام التي تتنافس عادة في صالات العرض التجارية المصرية والعربية، وبالتالي قدمت تجربة مغايرة وسعت من نطاق دائرة سينما “شباك التذاكر”؛ وما يمكن لها أن تشمله وتُقدمه إلى روادها. وهذا بحد ذاته يُجافي ويُناقض منطق: “الجمهور عاوز كده”، والذي يُبرر البعض من خلاله عدم السماح بإنتاج أفلام من خارج الصندوق التقليدي.

  • الفيلم في إطار مغايرته لما هو متوقع وسائد..

المخرج “خالد مرعي”؛ عمل من قبل مع “حلمي” في: (عسل أسود) و(آسف ع الإزعاج) و(بلبل حيران)، وذلك ضمن المعادلة التقليدية التي هيمنت وبنجاح على أعمال “حلمي” حتى اليوم؛ والتي تتلخص بالكوميديا المبنية على سيناريو واضح في معالم تسلسله القصصي، وأسلوب الكوميديا الذكية والحاذقة التي يتصدرها “أحمد حلمي” نفسه. بيد أن ما يحدث في (خيال مآتة) مختلف في عدة جوانب. ففي الوقت الذي ننغمس اليوم بالبحث عن بدائل وحلول لما نجابهه من تخبط فكري وسياسي وعلى كافة المستويات، يواجهنا فيلم (خيال مآتة) بواقع كوننا أصبحنا أيضًا محكومين بضبابية في الرؤية وضياع في تمييز المعنى.

على السطح، ينتمي (خيال مآتة) لجنر “أفلام السطو” أو “Heist Movies”، والتي تتمحور بشكل عام حول قصة تخطيط وتنفيذ شخص أو مجموعة لعملية للاستيلاء على أو استعادة شيء ثمين أو ذو أهمية خاصة لهذا الفرد أو المجموعة. بالمقابل هناك عادة من يُحاول إحباط الخطة وإيقافها سواء من الشرطة أو من عصابة مقابلة وما شابه. والبطل الأساس للفيلم هو في العادة من يقوم برسم الخطة ويختار المجموعة التي ستنفذها، ثم يقوم بالتنفيذ مدفوعًا في العديد من الأحيان أيضًا برغبة الانتقام أو أركاع المؤسسة أو المصرف الذي يقوم بالعملية ضده.

بيد أن ما يفعله الكاتب “عبدالرحيم كمال”، والمخرج “خالد مرعي”، في هذا الفيلم هو وضعنا أمام مجموعة من المرايا التي تقارب التناقضات التي تحيط بنا، بما فيها تلك التي تُعيق تمييز “الأصيل” عن المزيف، والأصلي عن الصورة: “طبق الأصل”. فالفيلم مبني سردًا وثيمًا وشكلاً حول فكرة المواجهة فيما بين الأصلي والصورة. فبالإضافة لكون المحرك الأساس للفيلم في بدايته يتمحور حول سرقة “يكن”؛ لـ”بروش أم كلثوم”، الشهير لإهدائه لحبيبته؛ “باكينام”، ثم تزويره له بعد خضوعه لإغراءات منظمة “الكيان” التي تسرق وتجمع مقتنيات أثرية عالية القيمة، يتجه البناء الروائي للفيلم بنا في عدة اتجاهات ومواجهات أخرى. فبعد أن يبدأ الزمن الأول للفيلم في 1968؛ حيث يُنفذ “يكن” عملية سرقة البروش بعد أن يقوم صديقه؛ “خليل”، بصنع بروش زائف يُشبه ما كانت ترتديه “أم كلثوم”، يُثير الصديق هرجًا كبيرًا فى المسرح الذي من المفترض أن تُغني فيه “الست” بحجة اندلاع حريق في المبنى. يُفسح هذا في المجال أمام “حلمي” لسرقة البروش الأصلي واستبداله بالزائف.

يُتبع ذلك عدة مواجهات ثيمية متصلة ومتتابعة تقودنا في اتجاهات سردية مختلفة عن تلك التي بنت لها مقدمة الفيلم. في صلب هذه التفرعات السردية تكمن أيضًا تناقضات ومواجهات ثيمية هامة: بين ماضي “يكن” العبثي في الستينيات وحاضره الأكثر تأملاً اليوم. بين “يكن” الجد وحفيده؛ “زيزو”. بين “زيزو” الطيب الرافض لإغراءات وشكل حياة جده، و”آسيا”؛ الموظفة لدى جده والتي تعمل على إقناع “زيزو” بالرضوخ لخطة “يكن” في سرقة البروش من جديد. بين صورة “يكن” ومعه باقي أعضاء منظمة “الكيان” في العلن كمجموعة من “الدراويش”، وصورتهم “السرية” والحقيقية كمجموعة من الأثرياء الذين يقودون منظمة. ويلعب أدوار أعضاء العصابة كل من: “عبدالرحمن أبوزهرة” و”رشوان توفيق” و”إنعام سالوسة”. والمجموعة هم في الواقع عصابة قامت بسرقة العديد من القطع الأثرية المصرية باسم المحافظة على التراث. وهناك أيضًا التناقض بين شخصية “آسيا”؛ التي تقدمها “منة شلبي”، والتي فصلتها لأمها بشكل مضيفة طيران، وشخصيتها الحقيقية كمساعدة لـ”يكن”.

أضف لهذه التفرعات السردية المبنية على المواجهات والتناقضات الثيمية، المواجهة بين شخصية “خليل” القديمة وشخصيته الحالية؛ التي يقوم بأدائها؛ “حسن حسني”، والتي توقفت في ذاكرتها عند لحظة بدء عملية الاستيلاء على “بروش الست”. وتستمر الحالات المتفاقمة عن المواجهة التي ينطلق الفيلم منها تتراكم حتى نهاية الفيلم حين يجري توليفها عبر تطويب العلاقة بين “زيزو” و”آسيا” ضمن تكريس التناغم في علاقتهما العاطفية، ومباشرتهما لمهمة إعادة المقتنيات الأصيلة لمنظمة “الكيان” إلى حيث يجب أن تكون، أي ضمن مكانها في المتاحف كجزء من التاريخ والتراث القومي للبلاد. لحظة التوليف المفصلية الأخرى تتم في إطار المشهد الذي يجمع الجد مع حفيده حين نشاهد الأول مسترخيًا في لحظة خاصة على وقع سماعه لتسجيل أغنية “أم كلثوم”: (فكروني)، فيتكلم الإثنان لأول مرة بقلب مفتوح عن أوجاع كل منهما في الماضي والحاضر وبالعلاقة مع تاريخهما معًا.

كل هذا يجري في إطار تركيب بصري (ديكورات، ملابس وأكسسوارات) يُعبر بحرفية عن لعبة المرايا والتناقضات في فرز قيم النظرة إلى الماضي والحاضر والمستقبل. فيستحضر الفيلم “المواجهات” في ما بين صورتي “مصر” ستينيات القرن الماضي و”مصر” اليوم؛ بين صورة مصر الماضي: “الأصلية” ومصر الماضي: “المفبرك”؛ والتي يستعملها “يكن” لدفع “خليل” لايصال “يكن” و”زيزو” لإيجاد البروش الأصلي؛ بين صورة شقة “باكينام” الأصلية وصورة شقتها لدى زيارة “يكن” إليها في الحاضر بعدما اكتشف أن كلاهما كانا في وقت واحد مسؤولان وضحايا في انتهاء العلاقة بينهما؛ بين صورة “آسيا” بخلفية المطارات المزورة، وصورتها الحقيقية في غرفة داخل قصر “يكن”؛ بين صورة البروش الأصلي لـ”أم كلثوم” وصورة البروش الذي يطلب “زيزو”، من “خليل”؛ أن يقوم بتزويره؛ بين صورة شقة “خليل” الحقيقية، وصورة شقته بعد إعادة تركيبها لدفعه ليقودهم إلى مكان تخبئته للبروش الأصلي؛ بين صورة أم كلثوم “الأصلية” التي نشاهدها في بداية الفيلم وصورة “أم كلثوم” بصندل الكروكس وهي تحمل “كلثوم” على كتفها؛ بين صورة التلفون الأسود “أبو قرص” وتقنيات التنصت “البدائية” وصور الغرف المجهزة بتقنيات الاتصال الحديثة القادرة على تحويل حياتنا إلى نسخة “افتراضية” عن واقعنا الحقيقي.

من ناحية أخرى وفي النصف الثاني من الفيلم تحديدًا؛ يتجه الفيلم نحو اللعب بموضوعة تكوين أفلام داخل الإطار الأصلي للفيلم نفسه. فضمن البناء الأوسع لتركيب القصة يتحول في الفيلم في نصفه الثاني إلى تركيب “أفلام” فرعية أخرى: يتصدر ذلك “فيلم” إعادة سرقة البروش الذي يجري بناء تفاصيله داخل “الاستديو” في قصر “يكن”؛ و”الفيلم” الخاص بدفع “خليل” لإعادة تزوير البروش؛ “الفيلم” المخصص لإقناع أعضاء المنظمة “بأصالة” نسخة البروش الذي “وافق” يكن على بيعه للمتمول الخليجي؛ و”الفيلم” المخصص لإقناع شخصية “خالد الصاوي”: “بأصالة” البروش الذي دفع ثمنه عشر ملايين دولار لإهدائه لزوجته؛ “صوفي”؛ وأخيرًا “الفيلم” الخاص بإقناع المتمول الخليجي “بأصالة” البروش الذي تبيعه له المنظمة.

التفصيلات والتركيبات البصرية المرافقة لعمليات تركيب وتجهيز “الأفلام” الفرعية داخل الفيلم “الأصلي” نفسه؛ تتناغم مع التعقيد الجدلي الذي تخلقه فكرة المواجهة بين “الأصل” و”الصورة” والتي تُمثل أهم المكونات الثيمية للفيلم. فيضيف الفيلم استعمال عنصر المرايا كعنصر متكرر “Motif” في عدة مواقع في الفيلم بما فيها ضمن “المواجهات” بين “زيزو” وجده وهو يُهيء نفسه للذهاب لمقابلة “خالد الصاوي”، وحين ينظر “زيزو” إلى نفسه في المرآة لدى ترتيب ماكياج وجهه “ليرتدي” ملامح وجه جده. ويستطرد الفيلم في تركيبه لمرجعيات ذاتية؛ خصوصًا من خلال تظهير “أحمد حلمي”؛ (الفنان هذه المرة)، كعامل محرك داخل الفيلم. فيظهر حلمي/يكن عدة مرات “كمخرج” “للأفلام” التي يجري تركيبها في إطار الحدوتات الرئيسة والفرعية داخل الفيلم “الأصلي”.

في نفس السياق يتفادى الفيلم الأسلوب التقليدي في تطوير الشخصيات وشرح خلفيات ودوافع ما يقومون به، والذي يستفاد منه عادة في بناء علاقات تعاطف أو كراهية بين هذه الشخصيات وبين المشاهد. فالفيلم يبدو أكثر تناغمًا في تعامله الدرامي العام مع الاتجاهات الحداثية “البريشتية”؛ (بالرجوع إلى المسرحي الألماني برتولت بريشت)، والذي آثر “تغريب” المشاهد عبر إبقائه منهمكًا بمتابعة ما يحصل أمامه على المسرح بأعلى قدر من الموضوعية وأقل قدر من التأثر العاطفي بعلاقته مع الشخصيات المسرحية.

قد لا تكون قصة الفيلم مشوقة للبعض. بمعنى أن أحداثها لا تتصاعد في نسبة تشويقها نحو أي ذروة في سياق الفيلم، أو وصولاً إلى نهاية تحقق الرضى الكامل للمشاهد. لكن القصة موجودة وحاضرة في كافة معالمها، والسيناريو الذي يرفدها يُمثل بالتأكيد تجربة إبداعية مختلفة، على الأقل في إطار سينما شباك التذاكر العربية. ويظهر هذا بوضوح خاصة لجهة التركيب السينمائي للفيلم، والذي يرتكز على وضع المشاهد أمام مرآة قصور وتشتت رؤيته في هذه المرحلة من تاريخ العالم العربي. في تقديم هذا، يتقن فريق العمل ترتيب الفيلم بصريًا بما يتلاءم مع الثيمة الأساسية، أي موضوعة “الأصل” و”الصورة”. فيبدو العمل حريصًا على تقديم شكل بصري صارخ في ألوانه و”مبالغ فيه” في إعادة ترتيبه مثلاً لحقبة الستينيات وتجلياتها المستتبعة ضمن قصص الفيلم الفرعية، وكذلك عبر استعمال الديكورات والإكسسوارات والتصوير والإضاءة التي تُعيد تمثيل الأطر التاريخية المختلفة للأحداث. كل هذا يبدو متناغمًا مع الاتجاه “التغريبي” العام للفيلم. بيد أن بطأ المونتاج في النصف الأول من الفيلم بالمقارنة مع الإيقاع الأسرع في القسم الثاني وبدءًا من عملية إعادة تمثيل عملية سرقة البروش وما بعدها يُقلل من انتباه المشاهد خلال حيز كبير من الفيلم مما يضعف الفيلم في شكله العام.

الفيلم إذاً يتعامل براحة مع القصص الفرعية ويحتفي بالجزئيات الثيمية والبصرية التي تتفاقم من ضمن الفكرة المحركة الرئيسة. وهو بالتالي لا يتبع أسلوب تركيز كل جزئياته لخدمة الفكرة التي ينطلق منها. بل أنه يتحول سريعًا إلى قوس قزح من الخطوط الدرامية التي تعمل مع بعضها وبالاستقلال عن بعضها في آن واحد. فإبتداء من قصة سرقة البروش الأصلية وما يتبعها من قصص أخرى لا يبدو الفيلم منهمكًا بفكرة إتباع منهج “قفل” القصة الأصلية، بقدر “فتح” باب التأمل لدى المشاهد حول فكرة علاقتنا بما نطلق عليه عادة توصيف “الأصلي” و”الصورة”.

والفيلم يميل إلى التعاطف مع اختيار مواجهة من هم ضمن الحلقة التي “تُهيمن” اليوم على هويتنا. وفي الفيلم هذه الحلقة تشمل: “الكيان”، أي المنظمة التي تستولي على وبالنهاية تبيع تراث البلاد لمن يدفع أكثر؛ “رجل الأعمال” المافياوي المهووس بزوجته “الخواجية” الشقراء والذي يعمل على إرضاءها بكافة الوسائل بما في ذلك عبر وضع “بروش أم كلثوم” على صدرها؛ وأخيرًا المتمول الخليجي الذي لا يهمه من إقتناء البروش أكثر من مراكمة “ألعابه” وولعه الصبياني في إقتناء كل ما يحلو له إقتناءه، وهو الذي وفرت له أموال النفط فرصة الاستيلاء على ما لا يمتكله من تراث وحضارات عريقة وما تُمثله من قيم تاريخية خاصة. فمن يمكنه هذه الأيام تجاهل هذا: “الثلاثي الغير مقدس” من مافيات رجال الأعمال التابعة لمصالح الشركات الضخمة في الغرب، ورؤوس الأموال الخليجية التي تشتري وتبيع الأخضر واليابس بما فيها الأوطان والتراث و”الفنون”، وأولئك الذين يعيشون على هامش الإثنين معًا ممننين أنفسهم بالخطابات الفارغة عن “حب الوطن” وبالنهاية يبدون استعدادهم لبيع كل شيء في المزادات العلنية وغير العلنية.

بيد أن ما يستدعيه الطرح المركب والانعكاسي للفيلم هو مجموعة من الأسئلة الوجودية التي نعيشها اليوم؛ سواء في “مصر” أو في عالمنا العربي ككل. وهذه الأسئلة تبقى تدور كحجر الرحى حول موضوع الهوية: “الأصل” والهوية: “الصورة”؛ التي نكتسبها ضمن جدلية تناقضات واقعنا وفهمنا لنفسنا ومحيطنا، كما للحظة التاريخية التي نعيش ضمنها.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة