إعادة تدوير التخلف

إعادة تدوير التخلف

 

كتب: حواس محمود

الحالة الاجتماعية والسياسية والفكرية الراهنة في العالم العربي بعد ما سمي بالربيع العربي، حالة متحولة ومحملة بإرث كبير من قيم وعادات وتقاليد وانماط تفكير تعود الى العقلية المتخلفة، لقد كان الاستبداد أشبه ما يكون ب طبقة الاسمنت حاجزاً لما تفجر في ما بعد كل الموروث المتخلف والذي يسير وفقه فكرياً الإنسان عموما في العالم العربي، فرغم التحديثات الشكلية في المدارس والجامعات وتشييد البنى التحتية من قبل أنظمة ما بعد الاستقلال العربية، إلا أن الأذهان لم ترتق بعد إلى مستوى اللحظة التاريخية الراهنة في العصر الحديث عصر العلم والتكنولوجيا والثورة المعرفية الكبرى.

التخلف يفرز بنية نفسية جامدة  مغلقة عصية على التغيير والتطوير، بما تتميز من قيم وتصورات ونظرة الى الكون والعالم، وهناك ثمة علاقة جدلية قوية بين البنية النفسية ونمط التفكير الناتج عنها، كلاهما يؤازر الآخر، في جدلية ممانعة التغيير والتحول المعرفي الإيجابي، لذا فمن الضرورة بمكان الاهتمام بكليهما عند محاولة وضع الخطط التنموية لأحد المجتمعات المتخلفة.

لا ننكر أن الشعوب العربية كانت تحث الخطى نحو إزالة رواسب التخلف من أمامها أو في قاع حياتها، إلا أن ما حدث بفعل الاستبداد والتطرف الديني والمذهبي وبتواطؤ غربي واضح المعالم والتجليات، أدى إلى ما يمكن أن نطلق عليه ب “إعادة تدوير التخلف” كيف حدث ذلك؟، هذا ما سنحاول الإجابة عليه في مقالنا الراهن.

الاستبداد قام بتجميد كل التناقضات الأفقية والعمودية في المجتمعات العربية طيلة أكثر من نصف قرن بعيد استلامها السلطة وفشلها في الاقتصاد والتنمية وفيما بعد في السياسية، التي كانت قائمة على مقولة شعاراتية مميتة وقاتلة لكل شيء اسمه تنمية او تطوير، شعارات من قبيل “كل شيء من أجل المعركة”  “كل الجهود باتجاه تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة”  ووجهت ضربة قاصمة للمواطنة والتعددية ، فكان الحزب القائد والرئيس القائد الملهم المفدى هو الكل بالكل وهو الآمر الناهي وهو الدولة في نهاية المطاف، تمركزت وتمحورت الدولة حول عصابة مافيوية لها علاقات مع المافيا الدولية وفرخت وانشأت تحت سطوة السلطة والمال مجموعات وأفراداً لهم ميزات وصلاحيات استثنائية، وانتشر القمع والفساد، وتم قمع المبادرات الفردية والجماعية، وتم التدخل في كل شؤون المواطن الخاصة والعامة.

هذا أدى إلى إبقاء التناقضات المحلية موجودة لكنها مغلق عليها بغطاء سميك من القمع هو أشبه ما يكون  بالخرسانة المسلحة، إلى أن اشتعل الربيع العربي فانفجرت كل التناقضات وتفجرت كل المتضادات وتشرذم المجتمع مع عملية التسليح وتذرر إلى مجموعات وأثنيات وطوائف ومذاهب شتى، اشتغلت الدول الغربية بالتواطؤ مع الدول المحلية ومساهمة من الدول الإقليمية أقول اشتغلت على هذه الاختلافات والتناقضات والتضادات فانتجت حالة انقسام فكري واضحة المعالم والتجليات، ذهب مفعول القمع والسلطة وجاء مفعول الفوضى القائمة على حرية فائضة غير منضبطة وغير مقوننة بمعايير وأسس وذلك نتيجة عوامل العسكرة والتطرف وتدخل الدول الكبرى.

يشير الكاتب مصطفى حجازي إلى عدة مظاهر للتخلف في العالم العربي منها:

لقد تحول  المواطن الذي كان يئن تحت  نير السلطات الاستبدادية السابقة، وكان يضيق ذرعا بعنصر الأمن والعسكر، وبات هو الآن يمارس الدور نفسه على من هو أضعف منه وهو المواطن البريئ المسالم الذي لا حول ولا قوة، ف “المقاتل الذي يحمل السلاح نجده في بعض تصرفاته لا يقف موقفاً نضالياً، بل هو يتصرف تبعاً لنموذج المتسلط الذي عانى منه سابقاً، بدل أن يعامل الجماهير برقة وروح أخوية، نراه يتعالى عليها معطيا لنفسه مكانة منفصلة ومقدماً ذاته على الآخرين، لقد تحول من خلال حمل السلاح من إنسان مقهور إلى آخر متفوق يلعب دور المتسلط الصغير والكبير، كما أن الكثير من العلاقات المرتبية بينه وبين رؤسائه ومرؤوسيه تأخذ شكل العلاقة بين المتسلط والتابع، تعال من ناحية ورضوخ من ناحية ثانية.

وأما التصرفات الاستعراضية فهي في هذا المجال أكثر من أن تعد، نجد الواحد من هؤلاء يتباهى مختالا باستعراض قوته المستجدة متمسكا بالمظاهر بشكل يتنافى مع الروح النضالية الحقة التي تتصف بالكثير من التواضع تجاه الجماهير”   وبالارتباط بالحالة الانفصامية للمواطن المسلح الذي يمارس نفس دور المتسلط السابق، تحولت وتغيرت المنظومة الفكرية والمفاهيمية لدى المواطن الفرد نتاج سنوات من الحرب الدائرة في أكثر من بلد عربي نتيجة عوامل داخلية وإقليمية ودولية، هي ليست مجال مقالنا الحالي، وأيضا نتاج البيئة الاستبدادية السابقة.

وتناسلا للموروث الثقافي السابق، هذه الجوانب الثلاثة الحرب – الاستبداد السابق – الموروث السابق، شكلت البنية الفكرية الغالبة على معظم إن لم نقل كل المواطنين في الدول العربية أو منهم المهاجرين إلى دول الإقليم والدول الأوروبية وباقي دول العالم، إذ لم يعد المواطن يتصرف بنفس الطريقة التي كان  يتصرف بها قبل نشوء الحرب، وإنما تغير سلباً بسبب العوامل المذكورة أنفاً وبخاصة أن الحرب أثرت كثيرا على المواطن العربي الذي وجد نفسه وعلى غفلة من الزمن أنه مهدد بمصيره ووجوده، وأصابته الحيرة والقلق هل سيبقى في البلد وفي هذه الحالة مصيره الوجودي مهدد، هو وعائلته مهددين بالموت، وإن هاجر أيضا قد يتعرض للغرق في البحار أو يتيه في غابات أوربا الشرقية، أو في أفضل الحالات يتحول إلى لاجئ في ديار الغربة بعيدا عن أهله في الداخل سواء الموتى منهم أو الأحياء.

هذه الحالة المأسوية الكارثية في غياب منظومة دولية عادلة لحل مشكلة المواطن المسالم البريئ، شكلت من جديد نمط تفكيره القائم على الاستفادة مما هو متاح له والتقوقع على النفس، واللجوء إلى النفعية وعدم مساعدة الآخرين، في حالة هروبية سلبية مريضة، لكنها واقعة، للعوامل المذكورة، وهذا ما سبب أمراضا نفسية يعاني منها الكثيرون من المغتربين وأيضا من بقي في الداخل.

إذن هذا ما يمكن أن نطلق عليه تخلف جديد أو إعادة تدوير التخلف، فشعوبنا كانت متخلفة لكنها كانت تتطور بشكل تدريجي رغم ووجود عاملي الاستبداد والموروث الثقافي السلبي، وهذا التخلف الجديد سيزداد وتيرته مع حالة الهجرة والتشتت وغياب التعليم أو ضرره البالغ، وغياب البيئات المساعدة للتعليم والعلم والثقافة والمعرفة وبخاصة في الداخل، أيضا غياب كل مقومات الرعاية المادية والنفسية للأطفال والشباب الذين يشكلون جيل المستقبل.

هامش (1) مصطفى حجازي – التخلف الاجتماعي – سيكولوجية الانسان المقهور – ص 136

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة