9 مارس، 2024 5:47 م
Search
Close this search box.

إسلام السلطة وإسلام الجماعة: محنة أمة

Facebook
Twitter
LinkedIn

عرض/ إيمان المخينيني
مقدمة

لعله ليس من المبالغة القول إن النواة التي تدور حولها كل قضايا مؤلف “إسلام السلطة وإسلام الجماعة: محنة أمة”، على اختلافها، إنما هي البحث عن المعنى، والسعي إلى نحت مقام تأويلي أصلي تجاه قضايا الإسلام السائدة في العالم الإسلامي الراهن.

والحق أنه في سياق دراستنا للخطاب الإسلامي المعاصر لا يُعدُّ حقل التجديد جديدًا؛ إذ هو مطلب طالما راهن عليه المفكرون بدءًا من لحظة صدمة الحداثة إلى اللحظة الحضارية الراهنة. هذه الفترة الفاصلة بين اللحظتين وإن كانت متباعدة زمنيًّا، فإنها فكريًّا وحضاريًّا لا تكاد نتائجها تظهر على مستوى الواقع إلا لمامًا. لأجل ذلك تُثار أسئلة تجديد الخطاب الإسلامي في غير انقطاع؛ لأنها ببساطة أسئلة لم تظفر بعد بإجابات حاسمة، ولم يتمكن العقل الإسلامي إلى اليوم من حل أحجية الموازنة بين تراث ماض-حاضر في الذهنية الجمعية بالقوة، وواقع راهن حديث يفرض معادلاته وإكراهاته على هذا الوعي الجمعي بالفعل.

هذه الإشكالات وغيرها يطرحها المؤلف لطفي حجي في سياق سؤال الذات عن ماضيها وحاضرها وعن آفاقها الوجودية المستقبلية ببعديها الفردي والجمعي تأسيسًا لتجربتها الحضارية الراهنة. هذا الرهان الذي يسعى إليه الكتاب نتبيَّنه من خلال استقرائنا للأبواب الست التي توزعت فيها المباحث بين دراسة العلاقة بالنص فهمًا وتدبرًا، وبالتراث تحليلًا ونقدًا، وبالشأن السياسي والثقافي تأويلًا وتقييمًا. بناء على ذلك، ارتأينا أن نوزع قراءتنا للكتاب على محورين أساسيين؛ نهتم في الأول بقراءة للعنوان وللنسق التأويلي الناظم لمحاور النص؛ أما في المحور الثاني فننشغل ببعض الآفاق التأويلية التي يفتح عليها الكتاب.

1. قراءة في العنوان والنسق التأويلي الناظم للكتاب
قراءة في العنوان

يتكون العنوان من تراكيب ثلاثة: أما التركيبان الأول والثاني “إسلام السلطة وإسلام الجماعة” فيجمع بينهما حرف عطف مزدوج الدلالة، فهو في وجه أول يفيد الفصل بين توظيفين مختلفين للإسلام؛ أحدهما توظيف متصل بالسلطة والآخر بالجماعة. وفي وجه ثان يفيد حرف العطف الجمع بين صنفين من التوظيف الأيديولوجي للإسلام، وهو ما يؤدي إلى التركيب الثالث المكوِّن للعنوان وهو “محنة أمة”؛ إذ الجامع بين الدلالتين على اختلافهما كونهما مؤديين إلى فكر محنة وأزمة شاملة للأمة بما هي فضاء الوعي الإسلامي الجمعي.

انطلاقًا من العنوان، إذن، تتبين للقارئ مسائل ثلاث:

أولًا: أن المبحث الرئيس الذي ستدور حوله قضايا الكتاب هو الإسلام بتشكُّلاته الدلالية المتغايرة والمختلفة باختلاف زاوية النظر؛ إذ بين طرح الجماعة وطرح السلطة فوارق أيديولوجية عدة، تحكمها خلفيات نظرية متباينة ومتضادة في أغلب الأحيان؛ فالإسلام وإن كان واحدًا نصًّا وحيانيًّا فهو متعدد تأويلًا وتمثُّلًا وتوظيفًا.

ثانيًا: أن لفظ “السلطة” الذي يمثل المكوِّن الثاني من التركيب الأول يدفع القارئ إلى التساؤل عن المقصود منه، إن كانت السلطة في السياق الماضي أم الحاضر. وإن كان المقصود بها من داخل الفضاء الإسلامي أو من خارجه، بمعنى نقل موقف الآخر من الدين الإسلامي. وأيًّا كانت الفترة التاريخية المقصودة أو فضاء انتماء هذه السلطة، إن كان من داخل المنظومة الدينية أو من خارجها، فإن ما يُنبئ به استعمال تركيب “إسلام السلطة” هو رصد ضرب من العلاقة بين بُعدين يبدوان ظاهرًا متنافرين، هما البعد الديني العقدي المفارق، والبعد السياسي الدنيوي المحايث. فعلى أي نحو تتشكل علاقة بينهما؟ وأية نتائج تفضي إليها مثل هذه العلاقة؟

أما عبارة “الجماعة” فهي مثار لعدة تساؤلات ليس أقلها السؤال التالي: عن أية جماعة نتحدث؟ فهل المقصود منها المذاهب الفقهية أم الفرق الكلامية أم الانتماءات السياسية التي تتبلور في فضائها رؤية مخصوصة للإسلام؟ وهل ما سنقرؤه من دراسة لإسلام هذه الجماعات سيكون من قبيل العرض والوصف أم التحليل والنقد وفضح بعض الخلفيات الساندة لهذا الفهم أو ذاك؟

ثالثًا: أن الجزء الآخر من العنوان دال على الغائيات الكبرى من تأليف الكتاب وهي الكشف عن مظاهر محنة الأمة ودوافعها ومآلاتها. وفي ذلك إعلان من المؤلف منذ عنوان كتابه عن تركيزه على دلائل أزمة الوضع في المشهد الإسلامي اليوم، عسى أن تنفتح بهذا التشخيص بعض أبواب الانفراج أو تتكشف بعض آفاق الحلول.

قراءة في النسق التأويلي الناظم

يحتوي الكتاب على مدخل ومقدمة وستة أبواب، أفضت بنا قراءتها مع ما تضمنته من فصول ومباحث فرعية إلى رصد محاور اهتمام جوهرية حضرت بوضوح في هذه الأقسام وتخللتها ومثَّلت خيطًا ناظمًا تحتكم إليه جل القضايا المثارة وإن اختلفت جزئيًّا. هذه المحاور في تقديرنا هي: أ- محور الذات في علاقة بذاتها نقدًا وتأسيسًا. ب- محور الذات في علاقتها بالآخر المخالف من داخل المنظومة الإسلامية، ومن خارجها. ج- محور الذات في علاقتها بالنص فهمًا وتصحيحًا.

أ- محور الذات المسلمة في علاقة بذاتها:

هذا المحور الأول نجده يتخلل كل أبواب الكتاب ويحضر فيه بشكل من الأشكال؛ ذلك أن ما نلاحظه في أسلوب المؤلف “لطفي حجي” من خلال مقالاته أنه لا يكتب من خارج دائرة الاهتمام بموضوع دراسته إنما هو متجذر فيما ينقل وحاضر فيما يعلق عليه من أحداث ومعطيات. وإن لم يكن ذلك بشكل صريح ومباشر. ولسنا نقصد من وراء هذه الملاحظة القول بوجود ضرب من الذاتية الانفعالية في النص، إنما نقول بذلك من وجهة نظر هرمينوطيقية فلسفية بحتة ترى أنه ما من عمل بشري إلا ويتضمن مقدمات تأويلية مخصوصة توجه الفهم وتحدد مساراته الكبرى. فما من ذهن يُؤوِّل أو يصوغ فهمًا من فراغ، إنما من داخل السيرورة التاريخية والتجربة الوجودية ينبثق المعنى ويتشكل.

إن هذا الحضور يفيض كذلك على القارئ على اعتبار أن الذات التي تنشغل بواقع المشهد الحضاري الإسلامي اليوم ليست فقط ذات المؤلف، إنما هي الذات القارئة كذلك. فنحن منتمون أنثروبولوجيًّا وسوسيولوجيًّا وسيكولوجيًّا إلى موضوع الكتاب بالقوة وبالفعل. وطبيعي والحال تلك أن ننشغل بمضمون الخطاب بما هو حديث عن كينونتنا وماهيتنا الوجودية في كليتها. نحن إذن لسنا بمعزل عمَّا نقرؤه في النص، إنما نحن نقرأ ذواتنا فيه. هذه الذات التي تحضر في جل أقسام الكتاب، إنما تضطلع بمهمتين أساسيتين: إحداهما نقدية-دحضية، والأخرى تأسيسية باحثة عن إمكانات الحلول.

1. الدور النقدي:

يبدو عدم رضا الذات في النص عن الواقع المحيط بها صريحًا وواضحًا؛ لذلك يطغى الأسلوب النقدي الذي يكشف النقائص والهنات والمطبات على أسلوب العرض والنقل لمجرد الوقائع. هذا النقد طال البعدين الفكري والعملي بمجالاتهما المختلفة، وأبرزها المجالان الديني والسياسي كما يتضح ذلك من العنوان. واللافت أننا حين نتحدث عن الدور النقدي الذي اضطلع به الكاتب في نصه إنما نحن على وعي بأهمية مثل هذا الدور في كل عمل باحث عن التغيير من خلال الثورة على الرداءة المتفشية في مجتمعات تنتمي إلى الإسلام لغة وتنفصل عنه ممارسة وفعلًا. إن وعي الذات بحقيقة ما تعيشه في غير تزييف ولا تزويق يعد خطوة أساسية نحو الإصلاح في حال انتشار الوعي بجدوى المرحلتين. نعني مرحلة النقد الدافعة إلى مرحلة الاستئناف والتأسيس بوصفها دالة على مسؤولية الذات تجاه وعيها الذاتي وتجاه وعيها الجمعي في آن معًا.

2. الدور التأسيسي:

يتضح لنا هذا الدور جليًّا من خلال حرص الكاتب على الاستدلال بأمثلة من المشاريع الفكرية التي راجت في أوساط النخبة العربية-الإسلامية طيلة عقود مضت. من ذلك مثال محمد الطالبي في مشروع القراءة السهمية للقرآن، أو محمد عابد الجابري في مشروع تفكيك ميكانيزمات العقل العربي التراثي وكشف أيديولوجيته وإحداث القطيعة الإبستيمولوجية معه، أو كذلك حسن حنفي من خلال مشروع اليسار الإسلامي الذي نظر له ودعا إلى قراءة الآخر غير الإسلامي من زاوية النظر الإسلامية مقابلًا التقليد بالتجديد والاستشراق بالاستغراب والقطع مع التراث باتخاذه مدخلًا جديًّا من مداخل التغيير. اللافت عندنا من خلال اعتماد هذه الأمثلة الواردة في الكتاب أمران رئيسان:

– أن الأمل في تغيير حال الأمة غير مقطوع إلا أنه محتاج إلى مشاريع فكرية صلبة تتدرج من الإقناع الذهني النظري إلى الإجراء العملي-التطبيقي. وليس لذلك أن يتحقق من غير إرادة صادقة وسعي حثيث إلى الإصلاح الإجرائي.

– إن الإقرار بقيمة المشاريع الفكرية الكبرى وقدرتها على تغيير الوعي والرقي به نحو واقع منشود لم يمنع الكاتب من التنبيه إلى بعض الإشكالات التي تحكم هذه المشاريع وتمثِّل نقاط ضعف فيها حالت دون إمكان تفعيلها والعمل بها.

فكما أن تعطيل هذه البرامج الفكرية كان من قبل أعدائها وخصومها الفكريين والسياسيين، فإن فشل تطبيقها أيضًا كان نتيجة بعض الإخلالات المنهجية الكامنة فيها، فضلًا عن كونها تعتبر في السياق الحالي الدقيق متجاوَزة بجملة من المعطيات الراهنة التي تحول دون اعتبارها مواكبة للمستجدات الإسلامية الطارئة إضافة إلى تجاوز هذه الأطروحات نظريًّا ومنهجيًّا وفلسفيًّا. من ذلك تجاوز القول بالقطيعة الإبستيمولوجية مع التراث، أو تجاوز فكرة التأسيس ليسار إسلامي في ظل الراهن الثقافي اليوم.

إن عرض المشاريع الفكرية بوصفها حلولًا مخرجة من واقع مأزوم يقتضي وجوبًا وضعها في سياق تحليلي-نقدي في الآن ذاته.

ب- محور الذات في علاقتها بالآخر

نقصد بـ”الآخر” ذاك المخالف الذي يقف على طرف نقيض من المعنى. ونقف على طبيعة العلاقة به من خلال جملة المباحث التي طرحها المؤلف في كتابه من قبيل الحديث عن مفهوم الفرقة الناجية وعن حركات السلفية ومواقف التكفيريين وعن ممارسات الشعوذة وتحنيط العقل وعن توظيف الديني لصالح السياسي وعن سقوط طبقة النخبة الحداثية في خدعة الإسلاموفوبيا وعن جملة ممارسات السياسات الغربية تجاه الإسلام ومعتنقيه لإخراجه في صورة التوحش والدموية والرجعية.

انطلاقًا من ذلك، يسعنا أن نصنِّف ذاك المخالف، كما ورد في كامل الكتاب، إلى نوعين: مخالف من داخل المنظومة الإسلامية، ومخالف من خارج المنظومة الإسلامية.

1. المخالف من داخل المنظومة الإسلامية

ويضم الطرف الفكري، والطرف السياسي:

• الطرف الفكري:

ينقسم بدوره إلى طرف ناقل للمرجعية الإسلامية فقهًا أو إفتاء أو تأصيلًا وآخر ناقد للمرجعية الإسلامية اعتمادًا على المعارف الغربية الحديثة ومكتسباتها الجديدة. وكلا الطرحين يمثل فهمه إشكالًا في تقدير الكاتب.

أما الطرف الناقل للمرجعية الإسلامية فنلخص إشكاليات خطابه، كما عُرضت في الكتاب، في نقاط ثلاثة:

– تحجر الرؤية للإسلام والاستحواذ على خطابه في ضرب من القراءة الارتدادية الجامدة للتاريخ.

– تكلس العلاقة بالواقع الراهن والتفويت في الإقناع بجدارة التجربة الدينية في أن تكون إمكانًا من إمكانات المعنى الإنساني في الكون.

– ضعف التأسيس التأويلي لمقام الإنسان المسلم في العالم وتقوقع الخطاب الإسلامي على نفسه وانغماسه في شكليات الأداء التعبدي بدلًا عن جوهره وعمقه القيمي الروحاني. وهو ما أفضى إلى عجز هذا الخطاب التقليدي عن خوض مغامرة فهم جديدة لفلسفة التدين والتعبد. وذلك بالاكتفاء فقط بنقل علوم الأوائل وحفظها وتلقينها وترتيلها والانحباس في رؤيتها. ذلك ما جعل بعض الدارسين يعدهم مجرد نَقَلة لأقوال السلف، ولا يرتقون إلى درجة العلماء المجتهدين.

إن لغة هذا الخطاب لا تزال محمَّلة برواسب حقل تداولي فَقَد فعاليته السالفة وأخفق في الاضطلاع الجوهري بنحت مقامه الهووي على نحو متأصل في خصوصية لحظته الراهنة.

وأما الطرف الناقد للمرجعية الإسلامية؛ فنجمل ما ورد في الكتاب من حديث عن مغالطاته في هذه النقاط:

– هو خطاب داع إلى قطيعة تامة مع المكتسب الإسلامي بحجة الحرص على اللحاق بالغرب بآلياته وأدواته الوافدة، ما يتطلب استقدام ثقافة الآخر ومناهجه ونماذجه العليا بلا شروط. إن هذا المطلب الذي ما انفك يسعى إليه المثقف الحداثي في العالم العربي الإسلامي يجعله دومًا “في مقام من يواصل صنفًا جديدًا من التبشير هو “التبشير الحداثوي” في حين أن عليه “أن يفهم أن الحداثة مقايسة فاسدة إذا هي لم تصدر عن توسط (…) جد محير مع أنفسنا، وعلى أرضية التراث الذي يخصنا”(1).

– لا يضطلع المثقف العربي بمهمة نقد الوافد الحداثي كما ينشغل بمهمة نقده للمكتسب التراثي. وكل ما يستقدمه من نظريات ومناهج غربية إنما هو ثابت في قرار وعيه المكين، وإن تم تجاوزه ودحضه في محضنه الغربي الأصلي. فكل ما جاء من نقد لبراديغمات الوعي والتضخم الميتافيزيقي للذات الغربية، وغيرها من المراجعات ما بعد الحداثية ليست محل مواكبة من قبله، ولا مدار اهتمام لديه. وكأن ما حظي بمعرفته من فلسفة الأنوار الأولى أغناه عن الاطلاع على نقيضها من فلسفات وفرضيات لاحقة مقوضة. إن مثل هذا الاصطفاف البراغماتي وراء مقولات الحداثة التي تجاوزها الغرب نفسه هو ما دفع بالمؤلف لطفي حجي إلى وصف هذا الصنف من المثقفين بكونهم حداثيين بلا حداثة(2).

– من مظاهر الاستهانة بفعل البناء الحضاري اكتفاء المثقفين المتعصبين للنموذج التنويري للحداثة الكلاسيكية بمجرد النقد والتقويض دون تقديم البدائل؛ ذلك أن كل الجهود تنصب على نقد التراث وإفراغه من كل محتوى معرفي-إنساني مفيد، للحكم عليه في كليته بوقوعه في زيف الأيديولوجيا والمنفعة الضيقة.

إن غياب البدائل إذن مُعلِن عن خواء فكري كبير أفرزه تعصب فئة كبرى من المثقفين لأداة النقد فحسب مع إهمالهم العمل على ما بعد النقد وما وراءه. من هنا، سهل ترسخ الخوف المرضي من الإسلام الذي روج له الطرف السياسي ووظفه أيما توظيف.

• الطرف السياسي:

حين ندرس علاقة السياسي بالديني في الأوساط العربية-الإسلامية لا يمكن إلا أن نتحدث عن علاقة مأزومة لا تخرج عن أحد ضربين. فهي إما علاقة موالاة وتبادل مصالح، أو علاقة تصادم وصراع حول البقاء. وفي الحالة الأولى، يسود منطق التحالفات والتبادلات النفعية. أما في الحالة الثانية فيسود منطق العنف والتطرف والتشدد والإرهاب المزدوج، نعني إرهاب الجماعة وإرهاب الدولة.

وغير خفي ما لوجهي العلاقة من خطورة على التجربتين العقدية والديمقراطية؛ وهو ما نبَّه إليه المؤلف في أكثر من موضع من كتابه مشيرًا إلى ما يتطلبه المشهد الإسلامي الراهن من تغيير في الخطاب المنظِّر للحركات الإسلامية وفي طرائق التعامل مع المستجدات السياسية. ويضرب مثال حركة النهضة التي قامت بجملة من المراجعات زمن المحنة وبعد الثورة وخاضت في اختبار الحريات من وجهة نظر تفاعلية بالأساس. وهو ما لا يقر به خصومها ممن يرون في كل تغيير طرأ على أدبياتها ازدواجًا في الطرح ومراوغة خطابية لا أكثر.

2. المخالف من خارج المنظومة الإسلامية

قصد المؤلف من وراء الإشارة إلى هذا المخالف تلك القوى السياسية الخارجية التي يتأسس تعاملها مع الشأن الإسلامي على مسلَّمات متكلسة تضع الإسلام في خانة الإرهاب والعنف وتُسيِّج كل ضروب التعامل معه بشروط صارمة، وتسعى إلى توظيف الأحداث لإرساء قراءة تاريخية مفخخة.

لقد وظفت السياسات الغربية الخارجية وسائل الإعلام توظيفًا ممنهجًا ومدروسًا لإرساء فكرة الارتباط الوثيق بين الإسلام والإرهاب بوصفها مسلَّمة لا شك فيها. ولم يقتنع بذلك من هم من خارج الدين الإسلامي فحسب، إنما ترسخ الاقتناع بذلك لدى المسلمين أنفسهم.

إننا في خطة الغرب لسنا شريكًا وجوديًّا في الكون ولسنا جزءًا من برامج الإنسانية الحداثية؛ فأمام تضخم الذات الغربية نعيش إقصاء ممنهجًا للذات الإسلامية بجعلها على هامش تاريخ البشرية الحديثة.

حينئذ، فلسنا نعيش تبعية اقتصادية وسياسية فحسب إنما نعيش تبعية أنطولوجية بالمعنى العميق للكلمة إلى درجة لا نتمكن معها من صوغ مفاهيمنا حول ذواتنا وحول هويتنا. إن العقل الهووي المهيمن في الفكر الغربي هو الذي يضبط لنا حدود تمثلنا لوعينا الهووي المخصوص وهو الذي يشكِّل لنا نظام معتقداتنا في شكل برمجة عصبية شاملة؛ وذاك هو عمق الإشكال ومكمن التعقيد.

ج. محور الذات في علاقتها بالنص فهمًا وتصحيحًا

إن مطلب القرب من النص يكتسب وجاهته من جهة كونه ضامنًا لاستعادة الصلة البكر بتجربة المسلم التدينية اليوم؛ ذلك أن الحواجز الحائلة دون ارتباط المسلم بنصه الوحياني هي بالضبط ما يوقعه في مفارقات انتمائه العقائدي النظري وسلوكه التعبدي الفعلي في فضاء المجتمع.

ومكمن الإشكال أن ما تم تدوينه من اجتهادات بشرية وتفاسير وتأصيلات عقدية على امتداد تاريخ التراث الإسلامي قد اتخذ لبوس المقدس إلى درجة حجب النص القرآني وراء أكوام من التفاسير والتأويلات البشرية بدعوى أنه لا يمكن للمسلم الأخير أن يتجرأ على من عُدُّوا علماء الإسلام وسدنة الوحي المقدس.

ونحن نجد في مؤلف “إسلام السلطة وإسلام الجماعة” وعيًا عميقًا من قبل مؤلفه بأن محنة الأمة إنما مأتاها وضع اغتراب المسلم اليوم عن نواة المعنى القرآني وعن سر غائية وجوده في هذا العالم.

2. ما يفتح عليه الكتاب من آفاق تأويلية
– إن وعي الأزمة مرحلة ضرورية لتشخيص وعي الذات بذاتها ولكنها تبقى خطوة أولى في سلم الوعي الحضاري حتى لا نقع في خطأ حداثيين بلا حداثة لم يفهموا قانون البناء الحداثي وفلسفته العميقة واكتفوا بمجرد نقل بعض التطبيقات المسقطة. فتشخيص الداء ليس غاية في ذاته إنما هو مرحلة ينبغي لها أن تفضي إلى العلاج، بل إلى التشافي أصلًا.

– أشار المؤلف في أكثر من موضع من كتابه إلى قضية القيم وعلاقة المسلم بالمنظومة الأخلاقية. ومثل هذا المبحث جدير بالطرح والتدبر؛ لأنه يمثل عمق كل تجربة تعبدية. والغريب أنه على أهميته يعتبر مبحثًا مهمَلًا في الخطاب الإسلامي في أغلب الأحيان وإن حضر فإنه يُصاغ بسطحية مخلة.

إن سؤال الأخلاق اليوم بات موضوع الفلسفة الشاغل إزاء تضخم جشع إنسان الحداثة الغربي. واللافت أن الغرب الحداثي لا يخجل من نقد ذاته بل هو يجلد نفسه في اليوم ألف مرة أمامنا ونحن ما ننفك نبشر بحداثته التنويرية ولا نزال غارقين في فتنته التقنية. إن الغرب، كما أكد ذلك عدد من الفلاسفة ومن بينهم إدغار موران، لم يعد يعيش ذاك الوعي السعيد بذاته إنما بات متورطًا في أزمة أخلاق ومحنة قيم إلى حد اعتباره “مقبرة للأخلاق”.

في إطار هذه المراجعات في علاقتنا بالشرط الأخلاقي بوصفه مكوِّنًا لعمق نسيج الرسالة الدينية، نقرأ في كتاب “عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين” لفريديريك شلايرماخر، قوله: “الدين ليس فكرة خسرت رهانها في الحاضر ولم يبق لها غير الاستحواذ على الماضي القديم بدعوى أنه منزلها الحقيقي، وإنما هي فكرة قادرة على الانعطاف بنفسها نحو الجديد”.

وفي سياق الاعتراف بالأصالة الأنطولوجية للبعد الديني في هويتنا، يقول فتحي المسكيني في كتابه “الهوية والزمان”: “إن هذا العنصر الإسلامي الذي نتحرك فيه بوصفه سياقًا روحيًّا، أي بوصفه نمطًا بدائيًّا من الفهم السابق لأنفسنا، ليس تراثًا علينا أن نقرأه بشكل جديد، بل هو واقعة حديثة يشاركنا العالم الحالي (…) في رسم دلالاتها. إن العنصر الإسلامي (…) يضطرنا لمعاودته على نحو ليس له من مخرج سوى بعض القرارات الأصيلة حول معنى أنفسنا”.

لأجل ذلك، يُعتبر الانفصال النقدي عن البعد القيمي-الأخلاقي في تجربة التدين ضربًا من “المراهقة الفكرية” كما يقول جون غرايش في كتابه “الشجيرة الملتهبة وأنوار العقل”. ولا نبالغ إن قلنا: إننا في أوساطنا الفكرية لا نزال نعيش هذه المراهقة في أعسر مراحلها حيث يطالب جزء كبير من نخبنا بضرورة الفصل بين البعد الأخلاقي القيمي في الدين والبعد المعيشي المادي في تجربة المسلم اليوم. إلا أننا لا نعدم محاولات فكرية جادة ومتعمقة من قبل مفكرين وفلاسفة معاصرين انشغلوا بسؤال الأخلاق في السياق الإسلامي وبلغوا في تعميق طرحه شأوًا كبيرًا، من أمثال طه عبد الرحمن الذي يدعو إلى تأسيس نموذج أخلاقي ائتماني يراهن على إخراج الإنسان المسلم من مشقة التخلق إلى متعة التخلق سعيًا إلى نقل القيم الأخلاقية إلى قيم جمالية.

إن كتاب “إسلام السلطة وإسلام الجماعة” في تنبيهه إلى محورية المسألة الأخلاقية في علاقتها بالتجربة التدينية قد فتح الآفاق أمامنا لمثل هذه القراءات المساندة لطرحه على نحو فلسفي ولا يزال يفتح على آفاق أرحب لا يتسع هذا المقام للإحاطة بها كلها.

– رغم تركيز الكتاب على واقع محنة الأمة، فإننا لا نعدم بعض الإلماعات إلى أن الحلول ليست بالمحالة، وأن الارتكاز على مشاريع فكرية متعمقة وجادة من شأنه أن يُحدث طفرة نوعية نحو الأفضل في المشهد الإسلامي اليوم. إلا أن سؤالًا مربكًا يطرح نفسه بإلحاح عن إمكانية ذلك واقعيًّا لاسيما ونحن محكومون بمخططات جيوسياسية واقتصادية عملاقة تسود عالم الأرض في كليته، ونحن رازحون تحت أكذوبة نظام عولمة غاشم لا نمثل في مشهده سوى صورة الفريسة التي تتنافس الوحوش على نهشها وسلب خيراتها.

إلا أن هذا الصوت المؤرِّق يجيبه صوت آخر مرددًا آية: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ?(3).

حينئذ تنقلب المعادلة من توهمنا إمكان تغيير العالم الكبير إلى حقيقة إمكان تغيير ما بأنفسنا العميقة أولًا، مستحضرين الحكمة الشرقية القديمة: “ابدأ بنفسك ثم ادع غيرك”. إن خطاب الهزيمة والأزمة لا يمكن أن يبني سوى ذوات منكسرة لا طاقة لها اليوم بتغيير العالم ومعادلاته. لأجل ذلك حقيق بنا أن نأمل في تغيير ذواتنا لتكون لها طاقة بتغيير ما بداخلها، لتفيض من ثم على محيطها بدوائره المتتابعة المتمددة.

عندها فقط يكون ممكنًا لنا أن نستأنف قراءة عنوان كتاب “إسلام السلطة وإسلام الجماعة: محنة أمة” في إطار تأويلية آفاقية تفاعلية، أو هي محاولة لفهم الفهم وامتداد له، لنكتب على هامشه عنوانًا مشاكسًا له ولكنه متماه مع متن النص ورهاناته معنويًّا إلى حد بعيد، هذا العنوان عبارته: “إسلام القيمة وإسلام الذات: نحو انفراج محنة أمة”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معلومات عن الكتاب

العنوان: إسلام السلطة وإسلام الجماعة: محنة أمة

المؤلف: لطفي حجي

دار النشر: الدار المتوسطية للنشر

سنة النشر: 2018

عدد الصفحات: 404
المصدر/ الجزيرة للدراسات

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب