إعداد/ د.محمد فايز فرحات
لم ترتبط الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية الأمريكية بقدر من التكهنات وعدم اليقين بشأن السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام، وتجاه القوى الآسيوية بشكل خاص، بقدر ما ارتبط بذلك حملة دونالد ترامب، فقد استحوذت القوى الآسيوية بنصيب معبر من التصريحات و”التويتات”، ما أطلق حملة من التكهنات والتوقعات حول مستقبل هذه السياسة وحجم التغير المحتمل، ما أطلق بدوره تساؤلات مهمة حول حجم تأثير مؤسسات صنع قرار السياسية الأمريكية بعد وصول ترامب إلى السلطة، خاصة في ظل الخلفية المهنية لترامب كرجل أعمال ناجح. وقد ثار في هذا الإطار فرضيتان أساسيتان. الأولى، رأت أن هذه التصريحات – رغم ما عبرت عنه من استعداد وميل ترامب إلى إجراء تغييرات هيكلية على تلك السياسة – سرعان ما سيتم مراجعتها بمجرد دخول ترامب البيت الأبيض، بفعل تأثير المؤسسية الأمريكية. بينما ذهبت الفرضية الثانية إلى أن هذه التصريحات ستدشن بالفعل لمراجعات حقيقية على ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القوى الآسيوية، استنادًا إلى شخصية ترامب نفسه.
وقد شملت مؤشرات التحول موضوع الجدل كل من الصين وحلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في المنطقة؛ اليابان وكوريا الجنوبية. ففيما يتعلق بالصين، كانت أبرز ما ذهب إليه ترامب هو التهديد بمراجعة مبدأ “صين واحدة”، وهو المبدأ الذي حكم السياسة الأمريكية تجاه قضية تايوان منذ تطبيع العلاقات الأمريكية- الصينية في عام ١٩٧٨، حيث تم الاتفاق على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإنهاء الولايات المتحدة لعلاقاتها مع تايوان وإنهاء اتفاقية الدفاع المتبادل معها وسحب قواتها من الجزيرة. وقد تعمقت هذه التكهنات مع إقدام ترامب على تنفيذ بعض الوعود التي قطعها على نفسه بمجرد دخوله البيت الأبيض، منها، على سبيل المثال، توقيعه مرسومًا تنفيذيًّا في ٢٠ يناير (أي في اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض) بتخفيف الأعباء المالية لمشروع الرعاية الصحية المعروف بـ”أوباما كير”، والذي مثل أحد المشروعات الرئيسية لأوباما، ثم قراره في ٢٣ يناير (أي بعد ثلاثة أيام من دخوله البيت الأبيض) بالانسحاب الأمريكي من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، وغيرها من القرارات المهمة، ما أشار إلى وجود إرادة قوية لدى ترامب لتنفيذ وعوده الانتخابية رغم المعارضات الداخلية لأي منهما.
صورة لإحدى تويتات ترامب يخصوص تايوان
وكانت من المؤشرات المهمة ذات الصلة باستعداد ترامب لمراجعة العلاقة مع الصين أيضًا، قراره بتعيين أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا بيتر نافارو، والمعروف بعدائه للصين، لقيادة “المجلس الوطني للتجارة” الذي تم تأسيسه حديثًا بالبيت الأبيض، ليكون مسئولًا عن وضع السياسات التجارية الأمريكية المقترحة للقضاء على العجز التجاري الخارجي. وكان نافارو قد قام بتأليف كتاب بعنوان “كيف فقدت أمريكا قاعدتها الصناعية؟”، انتقد فيه السياسات الاقتصادية والتجارية الصينية [1].
العلاقة مع الصين… “كوابح” سيناريو الصدام
كما سبق القول، لعبت التصريحات المتتالية الصادرة عن ترامب خلال فترة الحملة الانتخابية، وخلال الفترة الفاصلة بين إعلان نتيجة الانتخابات ودخول ترامب البيت الأبيض، دورًا كبيرًا في ترجيح العديد من المحللين لسيناريو الصدام الأمريكي- الصيني. كان أبرزها التصريح الصادر عن ترامب في ديسمبر ٢٠١٦ بشأن تايوان، والذي قال فيه إنه لا يتعين على الولايات المتحدة بالضرورة الالتزام بموقفها بأن تايوان هي جزء من “الصين الواحدة”، والذي صدر عقب مكالمة تليفونية بينه وبين رئيسة تايوان، شكلت سابقة مهمة في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وتايوان منذ تطبيع العلاقات الأمريكية- الصينية في أواخر الثمانينيات. أضف إلى ذلك الانتقادات الشديدة التي وجهها ترامب للسياسات الاقتصادية والتجارية الصينية، خاصة فيما يتعلق بمسألة تقييم العملة الصينية.
وذهبت بعض التحليلات إلى أن هذا التغير المتوقع في السياسة الأمريكية تجاه الصين سوف يقود إلى تطور سيناريو الصدام بين الجانبين، خاصة على خلفية التصريحات والإجراءات المقابلة من جانب الصين، وكان أبرزها وأهمها ما أشارت إليه بعض التقارير الصحفية الصينية حول قيام الصين بنصب صواريخ بعيدة المدى من طراز Dongfeng-41 (DF-41)بمقاطعة “هيلونغجيانغ” Heilongjiangفي أقصى شمال شرق الصين، كجزء من الاستعدادات الصينية المبكرة لسيناريو التصعيد الأمريكي[2]. وبالنظر إلى كون المقاطعة المشار إليها هي منطقة حدودية مع روسيا، فقد كان ملفتًا للنظر سرعة صدور التصريحات الروسية للتأكيد على أن هذه الصواريخ لا تستهدف روسيا بحال من الأحوال. من ذلك تصريح دميتري بيسكوف، الناطق الصحفي باسم الرئيس الروسي، الذي أكد أنه “حتى إذا كانت هذه التقارير صحيحة، لا نعتبر تطوير القوات المسلحة الصينية والبناء العسكري في الصين، تهديدا لبلادنا”. وشدد على أن موسكو تُقدر حاليًا علاقتها مع بكين، باعتبارها “حليفًا استراتيجيًّا وشريكًا في المجالين السياسي، والتجاري الاقتصادي”. وفي الاتجاه ذاته أشار قسطنطين كوساتشيوف، رئيس لجنة الشئون الدولية في مجلس الشيوخ الروسي، أنه لا داعي للقلق من الأنباء عن نشر الصواريخ الباليستية الصينية بعد أن وصل التعاون بين موسكو وبكين إلى مستوى غير مسبوق[3].وما يؤكد كون هذه التجهيزات جزءًا من الاستعدادات الصينية لسيناريو الصدام أن مقاطعة “هيلونغجيانغ” تعد أقرب منطقة صينية للسواحل الأمريكية.
ولا تجد فرضية الصدام جذورها في تصريحات ترامب فقط، لكنها تمثل في الواقع امتدادًا لتيار سياسي داخل الولايات المتحدة يرى ضرورة التعامل مع الصين باعتبارها مصدر تهديد للأمن القومي الأمريكي وللمصالح الأمريكية في العالم. وبمعنى آخر، فإن ما صدر عن ترامب لا يعبر عن توجهات جديدة داخل المجتمع الأمريكي بقدر ما يمثل امتدادًا إلى حد كبير لتيار موجود بالفعل داخل عدد من مراكز الفكر الأمريكي، والتي تروج لما عرف بنظرية “التهديد الصيني” Chinese Threat، والتي تجد صداها داخل عدد من الدول الأخرى، خاصة اليابان[4].
ومع أهمية نظرية “التهديد الصيني”، وكافة التصريحات الصادرة عن ترامب، والتي يعبر بعضها عن نقلة في السياسة الأمريكية تجاه الصين إذا ما تم تنفيذها بالفعل، فإنه لازالت هناك العديد من العوامل التي تكبح من تطور سيناريو الصدام. لعل أول تلك العوامل يتعلق بالتناقضات التي انطوت عليها تصريحات ترامب، سواء فيما يتعلق بالصين ذاتها، أو فيما يتعلق بمستقبل العلاقات الأمريكية مع العالم. ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى تناقضين أساسيين. الأول، يتعلق بالتناقض بين الفلسفة العامة أو التوجه العام لإدارة ترامب وهو التركيز على الداخل الأمريكي، وإعادة إحياء الاقتصاد الأمريكي، إلى حد دفع العديد من المحللين للقول بتدشين ترامب لموجة جديدة من سياسة “الانكفاء الأمريكي على الداخل” أو “العزلة الأمريكية”. وفي حالة تحول ترامب بالفعل إلى سياسة “الانكفاء على الداخل” فإن أحد مقتضيات وشروط نجاح هذه السياسة هي بناء علاقات توافق مع النظام الدولي، خاصة القوى الرئيسية والصاعدة، وفي مقدمتها روسيا والصين، الأمر الذي يعني عدم اتجاه إدارة ترامب إلى إثارة الملفات الشائكة في العلاقة بين البلدين، وفي مقدمتها مسألة تايوان، بالإضافة إلى قضية النزاعات الحدودية في بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي.
وما يعضد من هذا التوجه أن هناك سياسة أمريكية ترسخت لعقود طويلة بشأن هاتين القضيتين، وأن ما يحدث من تغيرات بشأنها خلال الفترة الأخيرة يمثل استثناءً من هذه السياسة. وعلى سبيل المثال، فقد شكل التزام الولايات المتحدة بمبدأ “صين واحدة” أحد ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وذلك رغم تعاقب الإدارات الجمهورية والديمقراطية. كذلك، فقد مثل الالتزام الأمريكي بالحياد تجاه مسألة النزاعات حول الجزر في بحري الصين الجنوبي والشرقي، ثباتًا آخر في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة آسيا المحيط الهادئ، حتى جاءت تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في يوليو سنة ٢٠١٠ أثناء مشاركتها في قمة “المنتدى الإقليمي للآسيان”، والتي ذهبت فيها إلى أهمية تسوية النزاعات في بحر الصين الجنوبي بالنسبة للاستقرار الإٍقليمي، وأن ضمان حرية الملاحة في بحر الصين وحرية النفاذ إلى المناطق المائية الآسيوية المشتركة تمثل مصالح أساسية للولايات المتحدة، وطالبت بضرورة إيجاد آلية لحل النزاع.ومن ثم، فإن وجود مثل هذه الثوابت التاريخية في السياسة الأمريكية تجاه القضايا ذات الأهمية الشديدة بالنسبة للصين يؤسس لفرص كبيرة للعودة إلى هذه الثوابت والالتزام بها، بل إنها ترقى إلى مستوى الضرورة في حالة عودة ترامب إلى سياسة “الانكفاء على الداخل”.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك مجموعة من الضوابط أو العوامل التي تعمل كـ”كوابح” ضد سيناريو التصعيد الأمريكي ضد الصين. يأتي في مقدمة تلك الضوابط وجود عدد من الملفات المهمة في العلاقات الأمريكية- الصينية، والتي تعطي الصين أهمية خاصة بالنسبة للولايات المتحدة، تشمل الاستثمارات الصينية داخل الولايات المتحدة، وحالة الركود الاقتصادي الأمريكي والاقتصادات الغربية بشكل عام، والتي زادت من المراهنات الأمريكية والعالمية على زيادة حجم الطلب الداخلي الصيني كعامل محفز لنمو الاقتصادي العالمي، فضلًا عن حجم الاستثمارات الصينية داخل الولايات المتحدة التي بلغت – وفقًا لبعض التقديرات – حوالي ٥٤ بليون دولار أمريكي بنهاية عام ٢٠١٦، مقارنة بنحو ١١.٧ بليون دولار بنهاية عام ٢٠١٥.[5] ويمكن فهم أهمية هذه العوامل كضوابط للسلوك الأمريكي تجاه الصين بالعودة مرة أخرى إلى الأولويات الاقتصادية لترامب، خاصة سعيه إلى تسريع معدل النمو الاقتصادي، وهو ما يصعب تحقيقه في حالة وصول العلاقات الأمريكية- الصينية إلى مستوى من العداء قد يدفع بالصين إلى توظيف هذه الأوراق للإضرار بالمصالح الأمريكية. وتشير التصريحات الصينية، الصادرة ردًا على تصريحات ترامب ذات الصلة، إلى وعي صانع القرار الصيني بهذه المسألة؛ على نحو ما كشف عنه تصريح تشانغ جون، المدير العام لإدارة الاقتصاد الدولي بوزارة الخارجية الصينية في ٢٣ يناير ٢٠١٦، والذي قال فيه: “سمعنا أن ترامب أعلن أن بلاده ستحقق نموًا ٤٪ ونحن سعداء جدًا بذلك”، لكنه أضاف: “ترامب لن يكون قادرًا على تحقيق أهدافه للنمو الاقتصادي إذا دخل في نزاعات تجارية”[6]. وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التمييز بين قرار ترامب بالانسحاب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ من ناحية، والدخول في صدام اقتصادي مع الصين، من ناحية أخرى، فالأول يتضمن الانسحاب من اتفاق يمنح شروطًا تجارية تفضيلية تبادلية مع عدد من الاقتصادات (أستراليا، بروناي، كندا، تشيلي، اليابان، ماليزيا، المكسيك، نيوزيلندا، بيرو، فيتنام، بالإضافة إلى الولايات المتحدة)، بينما لا توجد اتفاقات مماثلة من هذا النوع مع الصين. ومن ثم، تظل الورقة الأساسية في يد الولايات المتحدة هي فرض المزيد من الإجراءات الحمائية والجمركية ضد الصادرات الصينية إلى السوق الأمريكية. وحتى مع جاذبية هذه الورقة، فإنها تنطوي على تعقيدات، منها الإضرار بالشركات الأمريكية الكبيرة العاملة داخل الصين وتضرر صادراتها من السلع المصنعة داخل الصين إلى السوق الأمريكية ذاتها.
بل يمكن القول، إن الصدام الأمريكي- الصيني المحتمل سوف يقتصر على مجال العلاقات الاقتصاديةوالتجارية. واستنادًا إلى هذه الفرضية يمكن التأكيد على استنتاجين أساسيين. الأول، أن أدوات الصراع بين الجانبين سوف تتمثل بالأساس في الأدوات الاقتصادية والتجارية. الثاني، أنه حتى في حالة إثارة القضايا الأخرى، سواء قضية تايوان أو غيرها من القضايا الخلافية ذات الطابع الأمني أو السياسي، فإنها ستظل أدوات للضغط بهدف انتزاع تنازلات اقتصادية وتجارية من الجانب الصيني، وهو ما يتوقع أن يلقي درجة من المرونة من جانب الحكومة الصينية، بهدف محاولة انتزاع مكاسب أو تنازلات أمريكية مقابلة فيما يتعلق بالقضايا الأمنية والسياسية، أو على الأقل إعادة السياسة الأمريكية إلى ثوابتها التقليدية (استمرار التمسك بمبدأ صين واحدة، أو تبني موقف أكثر حيادًا فيما يتعلق بالنزاع حول الجزر والسيادة في بحر الصين الجنوبي). وتجدر الإشارة هنا إلى ملاحظتين مهمتين. الأولى، أن مسألة الخلافات التجارية بين الجانبين ليست جديدة، فهي قائمة منذ سنوات عديدة. ومن ثم، فإننا لسنا إزاء تحول في السياسة الأمريكية بقدر ما هو تصاعد واضح للأهمية النسبية للأهداف الاقتصادية لإدارة ترامب. الملاحظة الثانية، أن توظيف القضايا ذات الطابع الساسي والأمني لن يشمل توظيف قضايا الحريات داخل الصين، إذ ستظل تلك القضية على الأرجح بعيدة عن الأجندة الأمريكية نتيجة التراجع الذي ستشهده مسألة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارج ضمن أولويات إدارة ترامب. وواقع الأمر أن الإهمال الأمريكي المتوقع لمسألة الحريات وحقوق الإنسان قد يلعب دورًا في تعزيز فرص التوافق الأمريكي- الصيني فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والتجارية بالنظر إلى الحساسية الصينية الشديدة لمسألة للتدخل الخارجي في الشئون (السياسية) الداخلية.
المظلة الدفاعية للحلفاء الآسيويين ليست “سلعة خاصة”
ذهبترامب فيما تيعلق بالعلاقة مع الحلفاء، سواء في أوروبا أو الخليج العربي أو في شرقي آسيا، إلى ضرورة مراجعة حجم الالتزامات الأمريكية تجاه هؤلاء الحلفاء في اتجاه تحميلهم المزيد من التكاليف المالية في حالة الرغبة في استمرار التمتع بالمظلة الدفاعية والأمنية الأمريكية. ورغم انسجام هذه التوجهات مع الخلفية الاقتصادية والمالية للرئيس ترامب، كرجل أعمال يولي الاعتبار الأكبر لعوامل التكلفة والعائد، إلا أن الالتزام بهذه السياسة يمكن أن يرتب بعض المشكلات مع الحلفاء. وما يهمنا هنا هو العلاقة مع الحلفاء الآسيويين. فقد تطورت علاقات التحالف الأمريكي مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية في سياق مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة مرحلة الحرب الباردة؛ كجزء من مواجهة التهديد الشيوعي في المنطقة. لكن رغم انتهاء هذا التهديد، فإن منطقة شرق آسيا، وآسيا المحيط الهادئ بشكل عام، تشهد تطور العديد من أنماط التهديد للمصالح الأمريكية وللأمن القومي الأمريكي، بدءًا من تنامي القدرات النووية والصاروخية الكورية الشمالية، خاصة في ظل وجود نظام سياسي ليس على وفاق مع الولايات المتحدة ولازال في حالة حرب معها منذ انتهاء الحرب الكورية- الكورية في يوليو ١٩٥٣، فضلًا عن وجود مصلحة أمريكية أساسية في استمرار حرية الملاحة والتجارة العالمية في المحيط الهادئ وعبر المضايق البحرية. وبهذا المعنى، فإن الحفاظ على علاقات التحالف الأمريكي مع الحلفاء التقليديين في المنطقة سيظل جزءًا من الاستراتيجية الأمريكية لحماية الأمن القومي الأمريكي والمصالح الأمريكية. وبمعنى آخر، فإن علاقات التحالف الأمريكي مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية ليست “سلعة” خاصة أمريكية مباعة لأي منهما بقدر ما تعد – إلى حد كبير- “سلعة عامة” مشتركة لجميع أطراف التحالف. ولا يمكن إنكار تفاوت الأهمية النسبية للعوائد الأمنية المتحققة لجميع الأطراف من التحالف الأمريكي- الياباني، أو المظلة الدفاعية الأمريكية لكوريا الجنوبية، خاصة في مواجهة التهديد الكوري الشمالي، لكن لا يمكن أيضًا إنكار تصاعد الأهمية النسبية للتهديد الكوري بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة في حالة نجاح برنامج الصواريخ بعيدة المدى.
وكان أبلغ مؤشر على سرعة مراجعة الإدارة الأمريكية لتصريحات الرئيس ترامب بخصوص العلاقة مع الحلفاء الآسيويين اختيار وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس كوريا الجنوبية واليابان ليكونا أول وجهة خارجية له خلال الأسبوع الأول من شهر فبراير الجاري (٢٠١٧)، بعد توليه منصبه، بل إنها أول زيارة خارجية لوزير في إدارة ترامب. ولم يقتصر الأمر على هذه الدلالة الرمزية، فقد حرص ماتيس خلال جولته على تأكيد التزام الولايات المتحدة بعلاقاتها الدفاعية مع كل من كوريا الجنوبية واليابان، فضلا عن حرصه على توجيه رسائل تحذيرية لكوريا الشمالية، ومناقشة خطط نشر نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي في كوريا الجنوبية (THAAD). الأمر ذاته فيما يتعلق باليابان، فقد أكد ماتيس التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن اليابان وتعهد بتعزيز التحالف الأمريكي- الياباني.
وفي تطور آخر أكثر أهمية ودلالة على هذا التوجه عُقدت قمة أمريكية- يابانية، بين الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الياباني شنزو آبي، في العاشر من فبراير، أي بعد أيام معدودة من جولة ماتيس، أكد خلالها ترامب على أن التحالف الأمريكي- الياباني يمثل “حجر الزاوية للسلام والاستقرار” في المنطقة، بل إنه قدم الشكر لليابان على استضافة قوات أميركية، معربًا عن تطلعه إلى العمل معها بهدف تعزيز المصالح المشتركة ومحاربة التهديدات الصاروخية والنووية لكوريا الشمالية. وكان ملفتًا للنظر وجود رغبة مشتركة في تجاوز التأثيرات السلبية للتصريحات السابقة لترامب من خلال تبني منهج “إنساني” يهدف إلى تعميق مستوى التفاهم الشخصي بين ترامب وآبي، عبر عنه استضافة ترامب للأخير بمنتجعه الخاص بولاية فلوريدا لممارسة رياضة الجولف.
وهكذا، فقد تحول الأمر بسرعة ملحوظة من التهديد بإعادة النظر في طبيعة التحالف الأمريكي- الياباني، والتكلفة التي تتحملها الولايات المتحدة نظير الوجود العسكري الأمريكي في اليابان، بل وإمكانية سحب القوات الأمريكية من اليابان إذا لم تتحمل الأخيرة التكلفة المالية لهذه القوات، إلى التأكيد على استمرار تمسك الولايات المتحدة بالتزاماتها الدفاعية تجاه الحلفاء الآسيويين، والاستمرار في عمليات تعميق هذه التحالفات وتطوير المظلة الدفاعية الأمريكية لليابان وكوريا الجنوبية، وأضحى من الصعب فهم التصريحات الأولية لترامب على أنها تمثل مقدمة لخروج الولايات المتحدة من المعادلة الأمنية في شرقي وشمال شرقي آسيا. أضف إلى ذلك فإن قرار اليابان وكوريا الجنوبية التضحية بعلاقة التحالف مع الولايات المتحدة هو قرار لا يتسم بالمرونة المطلقة، وذلك بالنظر لتعدد أنماط التهديد، خاصة التهديد الكوري الشمالي، فضلا عن تمتع نظرية “التهديد الصيني” بدرجة مهمة من المصداقية لدى هؤلاء الحلفاء، الأمر الذي يجعل الاحتمال الأكبر هو بقاء المعادلة الأمنية دونما تغيير جوهري، أو تحمل الحلفاء الآسيويين عبئًا ماليًّا إضافيًّا على أقصى تقدير.
خلاصة القول إذن، إنه رغم ما بدت عليه تصريحات و”تويتات” ترامب تجاه القوى الآسيوية من اتجاه إدارته إلى مراجعة ثوابت السياسة الأمريكية تجاه هذه القوى، ما أسس لطرح فرضية قدرة ترامب على إجراء هذه المراجعة وفرضها على مؤسسات صنع قرار السياسة الخارجية، لكن المؤشرات العملية تشير بوضوح إلى عدم دقة هذه الفرضية. ولا يؤسس ذلك بالطبع لانسحاب الفرضية ذاتها على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أقاليم أخرى، وفي مقدمتها الشرق الأوسط على سبيل المثال، إذ إن الأمر يعتمد في التحليل الأخير على عدد من المحددات، تتعلق بطبيعة التهديدات الناشئة من داخل الإٍقليم، وهيكل التوازن الاستراتيجي بين القوى الرئيسية بالإٍقليم والولايات المتحدة الأمريكية، وحجم علاقات الاعتماد المتبادل بين الإٍقليم والولايات المتحدة على المستويين الاقتصادي والأمني. فما ينسحب على العلاقة مع القوى الآسيوية لا ينسحب بالضرورة على باقي الأقاليم.
[1] Trump appoints China critic Peter Navarro to trade post”, BBC, 22 Dec. 2016. Available at: http://www.bbc.com/news/world-us-canada-38399712 (accessed on Feb. 10, 2017).
[2] لمزيد من التفاصيل، انظر:
“China Deploys DF-41 Nuclear Ballistic Missiles Responding to US Missile Defense in Asia”, South Front, 25 Jan. 2017. Available at: https://southfront.org/china-deploys-df-41-nuclear-ballistic-missiles-responding-to-us-missile-defense-in-asia/(accessed on: 10 Feb. 2017).
“China Reportedly Deploys ICBMs near Russia’s Border”, Russia Today, 24 Jan. 2017. Available at: https://www.rt.com/news/374874-china-icbm-russia-border/(accessed on: 10 Feb. 2017).
[3] “الكرملين: صواريخ الصين الباليستية لا تهددنا”، موقع روسيا اليوم، ٢٤ يناير ٢٠١٧. راجع الموقع على جع الرابط التالي:
https://arabic.rt.com
[4] لمزيد من التفصيلات حول نظرية التهديد الصيني، انظر:
Khalid R. Al-Rodhan, “A CRITIQUE OF THE CHINA THREAT THEORY: A SYSTEMATIC ANALYSIS”, ASIAN PERSPECTIVE, Vol. 31, No. 3, 2007, pp. 41-66. Chikako Kawakatsu Ueki, The Rise of China Threat Arguments, SUBMITTED TO THE DEPARTMENT OF POLITICAL SCIENCE IN PARTIAL FULFILLMENT OF THE REQUIREMENTS FOR THE DEGREE OF DOCTOR OF PHILOSOPHY IN POLITICAL SCIENCE AT THE MASSACHUSETTS INSTITUTE OF TECHNOLOGY, 2006.
[5] هناك تفاوت كبير بين التقديرات الأمريكية والصينية لحجم الاستثمارات الصينية داخل الولايات المتحدة الأمريكية. انظر:
Ellen Sheng, “China Investment In The U.S. Hit An All-Time High In 2016, But Don’t Expect The Same In 2017”, Forbes, Dec. 18, 2016. Available at: http://www.forbes.com/sites/ellensheng/2016/12/18/chinese-investments-in-the-u-s-hit-an-all-time-high-in-2016-but-dont-expect-the-same-in-2017/#53b0c5a40db8 (accessed on Feb. 7, 2017).
[6]”دبلوماسي صيني: الصين ستتولى زعامة العالم إذا اقتضى الأمر”، رويترز عربي، ٢٣ يناير ٢٠١٧. متاح على الرابط التالي:
http://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKBN15719O (accessed on 23/1/2017).
المصدر/ مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية