خاص: إعداد- سماح عادل
“إبراهيم الحريري” كاتب صحفي ووقاص وروائي عراقي.
حياته..
ولد في بيروت في 1937، لأب عراقي وأم لبنانية، وهاجر مع عائلته إلى العراق في 1950، أكمل دراسته الابتدائية، لكن ترك الدراسة، بسبب مهنة الصحافة، فعمل في جريدة “اتحاد الشعب” العراقية، في فترة نهاية خمسينات القرن الماضي، وكتب في ذلك الوقت في العديد من الصحف العراقية واللبنانية.
عرف بانتمائه المبكر لليسار العراقي، وتعرض للسجن والمطاردة خلال العهد الملكي، وأيضا في ستينات وسبعينات القرن الفائت، واضطر للتنقل بين عدد من الدول، منها سوريا ولبنان، وآخر المحطات كانت كندا.
الكتابة..
اشتهر “إبراهيم الحريري” بعموده الساخر الذي كان يكتبه تحت أسماء مستعارة كـ«زكور» و«أبو عمشة» و«حمدان». كما كتب القصة القصيرة مبكرا، وأصدر مجموعة من الروايات، التي اتسمت بأجواء «الفنتازية» كـ«الاغتيال» و«الانقلاب».
كانت مقالاته تعبر عن هموم المجتمع العراقي هويته الفكرية والسياسية، ودافع فيها عن الكادحين والمهمشين.
الصحافة..
في حوار معه نشر في موقع “الحوار المتمدن” يقول “إبراهيم الحريري” عن عمله بالصحافة: “يثير لدي هذا السؤال ذكريات فيها ما يوجع، وفيها أيضا ما يستدعي الفرح ويبدو لي أن الحكاية الصحفية ثم القصة القصيرة جدا، والعمود الصحفي، الساخران، متلازمان لدي منذ أن بدأت، لنقل منذ أن حاولت الكتابة، وما أكثر ما اتخذ العمود الصحفي شكل قصة صحفية ساخرة. وأستطيع أن اعتبر أن أول محاولتين ناضجتين لدي، وأنا أتحدث هنا من موقع التجربة وبعد أكثر من خمسين عاماً، كانتا بين عامي 1952-.1953. لا احتفظ بالطبع بأية نسخة فلم يكن في بالي أني سأصبح يوما كاتبا للعمود القصير الساخر وللقصة والرواية، وكلها ويالخجلي “وقصر” باعي! قصيرة. مع أنني كنت وضعت لنفسي ومنذ بداية تفتحي (كان ذلك مبكراً… في كل شيء! والله الساتر!) وضعت هدفا أن أكون كاتباً وثورياً في آن.. فقط! وما زلت أحاول.
ويواصل عن كتابة القصة القصيرة: “ثانية محاولتين لكتابة القصة القصيرة جدا، هما أيضا أقرب للعمود الصحفي، كانتا نهاية عام 1955 أو بداية عام 1956 عندما أصدرت في منفى بدرة، مع الشابين، ذلك الوقت طبعاً، عبد الزهرة العيفاري د. اكاديمي يقيم في موسكو الآن، والجندي المطرود من الجيش، الموهوب علي تايه، كاتب القصة والمسرحية والمسلسلات الإذاعية التي اشتهر بها عام 1958 من الإذاعة العراقية، مع الراحل د. زاهد زهدي والفنانة متعددة المواهب زكية خليفة، أصدرنا، في منفى بدرة، وعلى ضوء اللمبة، نشرة حائطية اسميناها “الأخبار” وكنت وما زلت لا أحب الأسماء الطنانة.
نشرت فيها قصتين قصيرتين جدا واحدة بعنوان “الحمال الصغير” والثانية فنتازية “كان ياما كان” سيلازمني هذا النوع من الكتابة. حتى الآن، أستطيع القول الآن أنهما كانتا أقرب، فنياً، إلى القصة القصيرة جدا. ثم ما لبثت النشرة أن منعت من الصدور بقرار من التنظيم “لشقاوتها” وصودرت أعدادها المحفوظة في واحدة من غارات الشرطة”.
“حكايات حمدان”..
ويكمل: “عدت إلى القصة الصحفية المنشورة، هذه المرة، بداية عام 1959 عندما التحقت بصحيفة “اتحاد الشعب” ملخصا للعرائض ثم محررا في الصفحة العمالية ثم مسؤولها وعضوا في هيئة التحرير وهكذا ظهرت “حكايات حمدان” وكنت أوقعها بـ”صديق حمدان” هذه الشخصية التي ستلازمني لفترة طويلة، وهي شخصية واقعية بطلها الحقيقي “غيدان” عامل نسيج طريف تعرفت عليه في ورشة بيت عطرة للنسيج اليدوي، ممتلئ بالحيوية والطرب وحب الحياة. والسجائر الملغومة! سمعت أنه ما يزال حيا في الكاظمية سأحاول الالتقاء به في أقرب وقت، ظلت هذه الشخصية تلازمني لفترة طويلة. وما تزال.
اتخذت في بيروت شكل سائق تاكسي وقعت عنه باسم “محسوبكم زكور شوفير ع الخط” اشتهر في بيروت كثيرا على صفحات مجلة “الهدف” اللبنانية والنداء اليومية وذكر البعض بالزجال اللبناني الساخر المعروف، الراحل، عمر الزعني كان يعلق على الأحداث اللبنانية الساخنة، أوائل السبعينات، عندما عدت إلى العراق بدايات 1974 والتحقت “بطريق الشعب” احتفظت باسم “زكور” للكتابات الساخرة الموجعة، لعل قراء ذلك الوقت ما زالوا يتذكرونها) فيما عاد “حمدان” حكاية صحفية، لكن باسم “أبو عمشة”، السكن (مساعد سائق) وقعت حكاياته باسم “نفر” ولم تكن حكاياته تخلو من قلة أدب لا تتحملها الصحافة العراقية، الجادة، خصوصا، صحافة الحزب! فاختفى لأنه أصر أن يبقى “سكن” سليطا، قليل الأدب على أن يصبح شيوعيا “مهذبا” كما نصحني الراحل زكي خيري في محاججة شهد طرفاً منها الصديق عبد الرزاق الصافي تلوت فيها “دفاعاً عن أبو عمشة!”.
دفاع من خمسة أوراق احتفظت به فترة طويلة ثم مزقته وأنا أغادر العراق إلى المنفى من جديد أوائل عام 1979، لكني احتفظت “بزكور” كاتبا للعمود الساخر، الموجع، وإن لم يستطع ان يتخلى، تماماً، عن قلة الأدب! حتى اوائل التسعينات عندما بدأت أوقع في صحافة الحزب وصحافة المنفى عموماً باسمي الصريح”.
قصصا ناضجة..
ويضيف عن تطور قصصه القصيرة: “خلال ذلك بدأت منذ أواسط الستينات تنفصل القصة والقصة القصيرة جدا عن الحكاية الصحفية لدي، لعله بسبب ابتعادي في المنفى القسري عن العمل الصحفي السياسي اليومي، فنشرت في الصحافة الكويتية قصصا قصيرة ناضجة، واحدة منها باسم “ايهٍ أيها البحر العظيم” نشرت في أسبوعية “صوت الخليج” التي كان يحررها الصحفي العراقي صالح سلمان، وقعتها باسم إبراهيم إبراهيم، سرعان ما تحولت إلى فيلم (بس يا بحر). لكن باسم مؤلف آخر! بإمكان من ما يزال يحتفظ بمجلدات “صوت الخليج” لتلك الفترة أن يقارن. كما علمت مؤخراً أن محاولة مسرحية شعرية كتبتها بعنوان “قمر وحوت وصغار” تقود فيها الجدة مظاهرة إلى البحر لانتزاع القمر من بين أنياب الحوت ونشرتها في مجلة “الطليعة” الكويتية مطلع عام ،1968، تحولت فيما بعد إلى عمل كامل بعنوان “القيامة”، قد تحولت هي الأخرى الى حكاية تلفزيونية للأطفال ولا ادري تحت أي اسم!.
الولادة..
القصة القصيرة جداً، التي كرستني كاتبا لهذا الضرب من الكتابة القصصية الفنتازية الغرائبية كما يسميها النقاد، هي قصة “الولادة” التي نشرت في مجلة “مواقف” الطليعية، التي أصدرها الشاعر أدونيس عام 1969. لقد عرفت بهذه القصة، لدرجة أنني عندما تعرفت على الروائي صنع الله ابراهيم في القاهرة بعد أكثر من عشرة سنوات من نشر “الولادة” هتف: انت ابراهيم الحريري بتاع الولادة!”.
مازلت، أراوح بين هذه الأنماط الثلاثة من الكتابة، العمود والحكاية الصحفية والقصة القصيرة جدا، وإن كنت أصبحت مقلا فيها جميعا واكثر ميلا لكتابة الرواية القصيرة وأشعر بدافع جارف إلى كتابة المسرحية. هذا إذا سمح لي ما تبقى من عمر، والعمل الصحفي اليومي، الذي كلما حاولت الهرب منه أمسك بتلابيبي”.
التجربة الصحفية..
وعن شعوره بعد سنوات من العمل بالصحافة يقول: “أشعر بالقرف! خصوصاً في هذا العمر. بجد! أخذت من الصحافة الكثير. وأخذت مني الكثير أيهما أكثر؟ لا أدري. لكن ماذا يهم إن كنت أدري أو لا أدري، إن كنت مازلت أمارسها، حبا أحيانا، واضطرارا، في هذا العمر، أغلب الأحيان.
دخلت إلى الصحافة من باب الحزب، عندما توسم في الحزب عام 1959 القدرة على رفد صحافته. لم أكن واثقا من صحة هذا الحكم في بادئ الأمر، فدخلت صحيفة الحزب متوجسا وجلا ثم سرعان ما استهواني الأمر وفجر في طاقات كامنة، ليس في الكتابة فحسب، بل في التغيير أيضا فلطالما لم تفترق الكلمة لدي، منذ مارستها، عن التغيير وتظل كذلك ما دمت مولعا بهما معا: الكتابة والتغيير، بالأحرى التغيير بواسطة الكتابة بما في ذلك تغيير الكتابة ومحاولة تجاوز نفسي في هذا الميدان كتبت نصّا “القيامة” نشرت مؤخراً في “طريق الشعب” مقطعا منه حِرتْ وحار في تصنيفه وتوصيفه الخلق.
الحكاية الصحفية كانت لي تمرينات على كتابة القصة القصيرة جداً، وأفادني تمكني منها من كتابة حكاية صحفية أكثر فنية. الصحافة هي مثل المرأة التي تحب، تحس بالرغبة، بل، أحيانا، بالحاجة الملحة لأن تبتعد عنها، ويا ويلك، وويلها!. إن لم تفعلا ذلك في الوقت المناسب فقد يتطور الأمر الى قطيعة وقرف، الله يستر!.
بعد كل هذه السنوات من ممارسة مهنة الصحافة، فضلا عن ممارسة أشياء أخرى وأرجو ألا يذهب بكم سوء الظن بعيدا! فأنا أعني النجارة وصبغ السبيرتو والحياكة وبيع الأقمشة صانعا لبزاز، وكاتب انتاج في مستودع للنفط في الكويت، ومدير مصنع للحوائط الجاهزة، يمكن للصديق باسم مشتاق، كان مدير المشروع في القاهرة أن يروي لكم حكايات تهلك ضحك عن تلك الفترة، فما يزال يخاف أن يمر من تحت بناية ساهمت في بناء حوائطها، وبائع ملابس أطفال متجول في شوارع القاهرة ثم صانع طباخ في مطبخ كندي، وعامل تعبئة بانزين في كندا الخ.. والمخفي أعظم. أما عن العشق الأبدي الخالد للمغامرة، فهو “عادة سرية” ما زلت أمارسها حتى الآن، بالرغم من التقدم في العمر لعله سيحين يوما أوان الكشف عن تفاصيلها المثيرة. أو بعضها على الأقل!
السجن..
عن السجن يقول: “لم اسجن لفترة طويلة وإذا جمعت سني السجن والتوقيف والإبعاد والاعتقال فأنها لا تتجاوز الست أو السبع سنوات وهي فترة قصيرة إذا ما قورنت بما قضاه غيري، بعضهم مثل المناضلين عزيز سباهي وسامي أحمد قضيا ما يقارب أو يزيد على الخمسة عشر عاما سجنا في فترات تكاد تكون متصلة.
أتاح لي السجن في فترات الانفراج، أي الفترات التي كان يتمتع فيها السجناء الشيوعيون واليساريون والديمقراطيون بقدر نسبي من الحقوق إبان الحكم الملكي، اعتقلت حوالي ستة أشهر بعد انقلاب شباط قضيت أكثرها في قصر النهاية. وهي تكفي! اتاح لي وقتا جيدا للقراءة والتثقيف الذاتي، وأنا مدين لتلك الفترة بتثقيفي النظري الأساسي بكلاسيكيات الماركسية، أعدت قراءة بعضها مؤخراً، كما علمني على الحياة الجماعية وحب الرياضة للدرجة التي تمكنني من المحافظة على جسمي قويا ونشيطا.
ولا اكتم أنني اكتسبت في السجن، بالمقابل، بعض العادات السيئة مثل الميل أحيانا، الى التأمل والاعتزال، والنفور من الضجة والأصوات العالية بسبب أشهر طويلة قضيتها في السجن الانفرادي.
كما شهدت سنوات السجن والابعاد في بعقوبة وبدرة أعوام 1954- 1956 محاولة جادة لي في الكتابة السياسية والأدبية، ولعله سيفجأكم القول إنني اشتهي احياناً العودة إلى السجن! لبعض الوقت لأنجز هذا العمل الأدبي أو ذاك، وفكرت في كندا بالبحث عن مخالفة تسمح بـ”سجني” ستة أشهر، مثلاً فظروف السجن هناك إنسانية للتخلص من العمل الشاق المرهق، ومن منغصات أخرى، فضلا عن التفرغ للكتابة. لكن “الحظ” لم يسعفن في تحقيق هذه الأمنية ولا تتيح لي الظروف الراهنة في العراق التفكير، مجرد التفكير، بتحقيق هذه الأمنية. خصوصاً بعد فضيحة سجن أبو غريب أيام اشراف السجانة الأمريكية “المستورة” الشهيرة، عليه وفضائح السجون “الوطنية” الأخرى، الجادرية مثلا فلم يعد في العمر متسع لهذا النوع من المغامرات رغم ميلي الشديد للمغامرة.
لعله ينبغي التوقف عند جانب آخر من تأثير تجربة السجن على والعنف الذي تعرضت له، وغيري الكثير، لا يحصى. إن على الصعيد الأدبي، الإبداعي، أو على صعيد الموقف من الآخر ومن الحياة بشكل عام.
لم تدفعني هذه التجربة إلى تنمية مشاعر العنف المضاد والرغبة في الانتقام، بل على العكس لقد هذبت هذه المشاعر لدي إلى حد النفي أكاد اقول المطلق التام، ودفعتني إلى محاولة تقصي جذور العنف في المجتمعات والشخصية الإنسانية، وفي المجتمع والشخصية العراقيان بشكل خاص. يبدو لي أن الجلاد، صغيراً كان ام كبيراً، بمحاولته نفي الآخر وتجريده من إنسانيته، إنما ينفي ذاته، فيما يحاول تأكيدها عن طريق العنف، ويتجرد من أثمن ما يملك، إنسانيته”.
وفاته..
توفي “إبراهيم الحريري” في 25 مارس- آذار 2023 في كندا عن عمر ناهز الـ 82 عاما بعد معاناة طويلة مع مرضٍ