6 أبريل، 2024 10:24 م
Search
Close this search box.

إبراهيم إسحق.. رصد عوالم غرب السودان وخصوصيتها في رواياته

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“إبراهيم اسحق إبراهيم” ، كاتب وروائي وقاص سوداني. يعد من الكتاب البارزين في  السودان

حياته..

ولد “إبراهيم اسحق” بقرية “ودَعة” بمحافظة شرق دارفور بغرب السودان في 1946، درس في مدينتي الفاشر وأم درمان، وتخرّج في معهد المعلمين العالي في 1969، وهو كلية التربية حالياً التابعة لجامعة الخرطوم، ومعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية بـجامعة الخرطوم في 1984.

أقام منذ 1982 في مدينة الرياض بالسعودية، وظل لعدة سنوات ثم عادالى السودان، في 2006،  عاش في مدينة أم درمان التي قضى فيها شطراً من حياته أستاذا و معلماً للغة الإنجليزية بمدارسها الثانوية ومعاهدها التعليمية. وكان “إبراهيم إسحق” ينشر في الصحف السودانية المحلية الجديد من قصصه القصيرة، ويشارك في لجان تحكيم عدد من الجوائز الأدبية في السودان مثل “جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي التي ينظمها سنويا مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، وجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي التي تقيمها شركة زين للاتصالات”.

عمل بمنصب رئيس اتحاد الكتاب السودانيين في 2009، وكان عضو في مجلس تطوير وترقية اللغات القومية في السودان.

الكتابة..

تفاعل القراء مع روايته الأولى (حدث في القرية) ما بين القبول والرفض، منهم من أشادوا ببنائها الفني ومنهم من أزعجتهم لغة الحوار بلهجة الأرياف في دارفور. وفي 1970  كتب رواية (أعمال الليل والبلدة) واتصل به الأستاذ البروفيسور “محمد إبراهيم الشوش” فطلبها للنشر وصدرت في 1971، وكانت الندوة الأدبية في منزل “عبد الله حامد الأمين” صالونا لعرض الآراء الموافقة والرافضة للرواية والدفاع لدى المؤلف.. وذلك لأن معدي الصفحات الثقافية القليلة في ذلك الوقت كانوا يحضرون منتدى “عبد الله حامد الأمين” فقد اشتعل الجدل.

ووجد الكتاب الشباب الذين اطلعوا على الآداب العالمية في اللغات الأجنبية مساندة من بعض المتقبلين لهذا الاتجاه، مثل شيخ أدباء ذلك الجيل “قيلي أحمد عمر” وقد كان من موقعه المتقدم في وزارة الإعلام داعم للتجريب، الذي يحرر الثقافة السودانية من شرنقة التبعية للمناهج المصرية والشامية..

هذه الأجواء المتفتحة ساعدت “إبراهيم إسحق” على الاستمرار في الكتابة فكتب رواية (مهرجان المدرسة القديمة) 1972 ولم تنشر إلا في عام 1976، ثم كتب رواية (فضيحة آل نورين) التي لم تنشر إلا في الخارج، وبعدها ضاعت ووجدت عام 2004، وقد دعمه “قيلي أحمد عمر” في هذه الفترة الحرجة، حيث كان هناك تضييق على نشر أعماله، من جانب الأدباء الذين يعتبرون أنفسهم حراس اللغة العربية الصافية، فلم يظهر “إبراهيم إسحق” في ندواتهم ولا على ملاحقهم في الصحف والمجلات، ولم يُذكر اسمه في حديث الوفود السودانية التي تتكلم عن الأدب السوداني، وكان الجو الثقافي حينها محملا ب(صراع مخلص) بين تيارين أدبيين: أحدهما تقليدي يرى أن إنتاج “إبراهيم إسحق” ينافس لكنه يخرب اللغة.. والتيار الآخر كان يجاري الأساليب الفنية العصرية ولا يرى في عمله خطراً.

نشر له “قيلي” حوالي ست قصص قصيرة في مجلة (الخرطوم)، ثم نشر رواية (أخبار البنت مياكايا) كاملة في نفس المجلة في عام 1980، بالإضافة إلى نشر كتابه (الحكاية الشعبية في إفريقيا) على أجزاء في نفس المجلة في عام 1976، وسانده “محمد عبد الحي” و”يوسف عايدابي” فنشرا له في ملحقهما الرائع بجريدة (الصحافة) حوالي ست قصص قصيرة وبعض الكتابات التنظيرية في فهم دور الرواية السودانية في الثقافتين العربية والإفريقية.

في الفترة ما بين 1976 و1982 استمر نشر قصص “إبراهيم إسحق” ومحاوراته في ملحق (الأيام) الثقافي بإشراف “عيسى الحلو”، ودافع عن رؤيته للصناعة السردية في مجلة الثقافة السودانية كما عرض آراؤه الثقافية في هذه المجلة المذكورة وفي مجلة (الخرطوم) وفي مجلة (الدوحة) القطرية ومجلة (سوداناو) الإنجليزية الصادرة في وزارة الإعلام السودانية، وقد تكللت كل هذه المساندة بإيجاد دور بارز في مهرجانات الثقافة على عهد مايو حتى مُنح نوطاً تشجيعياً في عام 1979.

الجوائز..

حاز على  جائزة الآداب والفنون التشجيعية في مهرجان الثقافة والآداب والفنون الخرطوم 1979. ومُنِح شهادة الدكتوراة الفخرية من جامعة الفاشر- السودان- في أبريل 2004.

أخبار البنت مياكايا..

في حوار معه أجراه “حاتم الكناني” يقول “إبراهيم إسحق” عن روايته (أخبار البنت مياكايا): ” سُئِلَ المرحوم النور عثمان أبّكر في أوائل الألفية الثالثة إن كان يعتقد أن عملي ينتمي إلى الغابة والصحراء أو السودانوية فرفض المقولتين معاً، الشيء الذي حاولت عمله في (أخبار البنت مياكايا) هو قراءة المنتج المتعدد النواحي من اللقاء بين الأعراب والأهالي، الذين التقوهم في السودان كله، حتى بحر العرب والسوباط هنا تلاقح سلالي وتمازج ثقافي وتأقلم ايكولوجي أي مع الطبيعة والكون، توسع عند الأعراب وعند الأهالي معاً، ليس بالانتقال المكاني، ولكن بالوعي الجديد الذي يصنعه التمازج والتلاقح. هنا اكتشاف في نظري لحقيقة كانت ضائعة منهما، وهي أن البشرية التي كانت متباعدة ومغلفة، وفي الرؤيات الوهمية بانت للطرفين بأنها جوهرة واحدة تلبست في التباعد الماضي بغلالات الغرابة التي تسوق إلى العدائية الجهلاء”.

ويجيب عن سؤال “يوجد في رواياتك استخدام لقاموس عامي «دارجي» وتدجين له داخل سياق اللغة الفصيحة”: “لقد تعلمنا أنَّ الجميل والعميق صعب المرتقى وعلى المطلّع عليه أن يكرب عزمه من أجل أن يستخلص خباياه.. أجمل رواية في التاريخ هي أصعبها ـ أعني (العوليسة) لجيمس جويس نحن لا نقصد وضع الصعوبات.. لكن المبدع لا يستطيع أن يبسط الأمور بالشروح ولا يستطيع أن يزيف لغة الجماعة التي يكتب عنها.. اللغة الإبداعية في السرد السوداني عندي تطلع من عربية سودانية وليس من عربية معيارية نقرأها في كتب التراث، فليس هنالك بديل لكلمات مثل الكوراك، الجبراكة، الراكوبة، القطية، العنقريب.

أنا أكافح لأضع علامات ترقيم تساعد القارئ كي يستوعب التركيب الدقيق للصورة التي أريد أن أنقلها إليه، لكنني كثيراً ما أتحسَّر عندما أجد أن تكثيف الإيحاءات في نصوصي السردية لا ينتبه إليه إلا القلة، وهنا دور مفقود هو عمل النقاد، إذ على هؤلاء أن ينبهوا القراء إلى التكثيف والإيحاءات، وعليهم أن يوضحوا للقارئ الرموز والتداخل بين النصوص، وعليهم أن يبينوا للمطالع أن هذه الأحداث لم يجمعها السارد لتطويل الحكاية، ولكنه يجمعها لتؤدي مع صور الشخصيات إلى خلق معانٍ توضيحية مركزية لفهم الطبائع البشرية عندما تتعارك مصائرها في بيئة ذات خصوصية”.

وبال في كليمندو..

وفي مقال بعنوان (وبال في كليمندو: ديناميات الحياة في غرب السودان وحوار الايكولوجيا) يكتب “عبد الماجد عبد الرحمن”: “(وبال في كليمندو), هي الرواية الخامسة للروائي السوداني الكبير إبراهيم إسحق بعد (حدث في القرية 1969), و(أعمال الليل والبلدة 1971), و(مهرجان المدرسة القديمة 1976), و(أخبار البنت مياكايا) التي صدرت مع (وبال في كليمندو) في نفس العام (2001), ثم (فضيحة آل نورين 2004), بالإضافة لمجموعات قصصٍ قصيرة, أبرزها (ناس من كافا) و(عرضحالات كباشية), ومجموعة (حكايات من الحلّال), فضلاً عن قصته الشهيرة (فجوة في حوش كلتومة).

أهم ما ماز مشروع إبراهيم اسحق الروائي, هو أنه منذ بدأ الكتابة وحتى نيته (فك ارتباطه مع آل كباشي), كما قال الكاتب, وهو إشارة إلى عزمه التقاعد وترك الكتابة- وآل كباشي هم الذين كتب عنهم جل كتاباته السردية المتدفقة بالغرابة والمتعة- (هذا إن استطاع, ونتمنى ألا يستطيع), كان مكرساً كله لتقديم دينميات الحياة في غرب السودان وزخمها وحرارتها وتجلياتها, بشكل يوازي ما فعله مشروع الطيب صالح بريف شمال السودان. يكفي أن الطيب صالح نفسه قال أنه تعرف على كثيرٍ مما كان يجهله عن الحياة وأسرارها في غرب السودان من خلال لوحات إبراهيم الروائية الخَوَالِب. وإذا كانت روايته (وبال في كليمندو) تجيء, ضمن هذه اللوحة الكبيرة, فإن تجلياً فنياً نوعياً معيناً يكسبها قيمة إضافية جديدة”.

ويواصل: ” إبراهيم إسحق كاتب عميق العوالم ومديد الآفاق وعظيم الرؤى وماتع الأساليب. في رواية (وبال في كليمندو), تتجلى مهارات الكاتب في تقديم عوالم غرب السودان وحياته الزاخرة بالدينميات والحركة والحكم الشعبية. وبشكل أدق, يمكن اعتبار هذه الرواية نموذجاً للرواية العربية الايكولوجية, أي نموذجاً لذلك الشكل من الروايات التي تتجسد فيها تفاعلات وحوارات الإنسان والحيوان والمحيط البيئي- الايكولوجي كله, من كافة النواحي المادية والوجدانية والاجتماعية والدينية والثقافية والفولكلورية. ويأخذ هذا التجسيد الايكولوجي شكل البنية وشكل الإيقاع وشكل الروح وشكل الألفة والصراع”.

وفاته..

توفي “إبراهيم إسحاق”، السبت 23 يناير 2021، عن عمر ناهز 75 عاما، بمدينة هيوستون الأمريكية، حيث كان يتلقى العلاج، بعد صراع مع المرض.

جزء من رواية (وبال في كلمندو)

ل”إبراهيم إسحق”

“ما أعْجَبَ قولُ النَّاسِ: فُلانٌ رَبُّ الدَّارِ، إنَّمَّا هُوَّ كَلْبُ الدَّارِ”

عمارة بن حمزة بن ميمون

كَلْتُوْمَة (1)

جاءَ في لواري الليل، حدَّثني وَدْ أُمْ عَجَبْ.. يقول لي: أقفلتُ الرَّاديو حوالي الثَّانية عشرة والنِّصف بعد موجز الأنباء إذ يحضره الزَّبائن من أعالي الدَّكَّة جنوبها وشمالها ووسطها.. تغطَّيتُ ووضعتُ الكالوت تحتي وتمددتُ.. ثُمَّ طلع ذلك الأزيز من وراء جنوبي رأس الجاموس، أتسمَّعُ للشخير الهادر، أعرفه عند قيزان الدِّويمات حتماً يعاني اللوري فيه الأمرَّين.. قلتُ لنفسي: “أرقد يا ولد”، ربما ناموا على رأس الجاموس. فلم أُحفِّز نفسي لإيقاد الجمرات ولا لوضع الغلَّاية على اللهب كرة ثانية..

لكنَّهم ظلَّوا ممسكين بساق الليل الأجرد يعانون وأنا أتردد، يخبرني وَدْ أُمْ عَجَبْ.. وأظنُّها كانت حوالي الواحدة والرُّبع حينما أعتدل صوت المحرك في أفضل جريانه على نقعة جبل الجودي وبقيت لهم عشرة ليدركوا في القهاوي.. تلفتُّ يُمنة ويُسرة على الرَّواكيب فلم أرَ ناراً تشتعل وعندئذ كان لزاماً عليَّ أن أحافظ على سمعة الدَّكَّة وأن أُثبتَ للخُطَّار متى يأتون بأنَّ (قهوة الخيرات) هي أنجح مقاهي موقف اللواري في كافا..

ثُمَّ نهضتُ ووضعتُ حطبات ولحاءات خرُّوب على الجمر ونفختُ وهبهتُ بالبرطال ثُمَّ تعجَّلتُ فأوقدتُ مصباح الجازولين الكبير وعلَّقتُه على العمود المعارض فوق مدخل المقهى.. أُفاكر نفسي مسترخياً بأنَّني قطعاً جاهز الحين لستين منهم، أتجارى لهم في قلب هذا الليل البهيم، فاخرت ما في جيوبهم بكوبات حليب وشاي يدفِّئ بردهم..

رأيتُهم عند المنحنى الجنوبي متعجَّلين باتجاه المقاهي فلم اطمئن، يحدَّثني وَدْ أُمْ عَجَبْ، أتعجَّب، الذي سوف يستريح ولو قليلاً، دعْ عنك الذي سوف يبيت، لا يأتي بهذا التِّعجال. وسكسكة الفرامل كانت الطَّامة لتوقُّعي، كأنَّه، أقول لنفسي، مساعد أمسك على الدِّركسون أمس الأول فقط.. حينما زحفوا حذائي أفردتُ ساقي عند النَّار وحاولتُ أن أتملَّاهم. لكنَّه أخرج رأسه من قمرة القيادة وقال للمساعد بهدوء:

الرَّاجل النَّازل في الدَّكَّة دا وينو؟

لم يجاوبه أحد.. المساعد الكبير نزل ففتح غطاء المحرك وأشعل مصباحه اليدوي منكباً يقيس الزَّيت والماء، ويمسح السَّوائل السَّائبات.. ثُمَّ رأيت الرَّجل يتدلَّى من الجانب الذي يليني.. ناولوه شنطة الحديد، وعصا الخيزران المعقوفة، وما ظننتها في ذلك الظَّلام بُقْجَة وسيطة الحجم.. تلفَّع بثوبه ورفع أشياءه قصياً عن اللوري.. أدركتُ عندها أنَّ المساعد سيقفل غطاء المحرك ويصعد.. تدحرجوا لأمتار متعدِّين ثُمَّ شدَّ عليه بالجاز والنَّار فزغردتْ مواسيره وشالهم الظَّلام فأعقبوا منعطف طريق المدينة مخلِّفين وهجاً من الغبار المصبوغ باحمرار الأنوار الخلفية كأنَّه دم إعصاري مستفحل..

مشيتُ باتجاهه خطوتين وتوقَّفتُ.. لا أريد أن أُذعره.. فالليل والغربة عليه، ووحشة الوحدة ها هنا، وما لا أعلم من حاله، أن يكون من أهل البلد أم طارئ؟

قلتُ له، يحكي وَدْ أُمْ عَجَبْ:

مِنُو الأخُو؟

من لهجته عرفتُ أنَّه من أهل الصَّعيد:

أنْقَابُو وَلَد طَلْحَة.. من ناس جَامِع أبُو عجُّورة.. وإنتَ مِنُو؟

مَحمدَين وَلَد بُرْمَة.. يسمُّوني وَدْ أُمْ عَجَبْ.. اتفضَّل يا خوي استريح..

حمل أشياءه واحداً فواحداً فأدخلها إلى برحة المقهى بين طاولة كاسات الشَّاي والعناقريب.. كأنَّه ظلَّ حذراً مني، وأنا لم اقترب، جلستُ وراء ناري على دست الخشب منه على سبعة أمتار.. تحت وهج النَّار رأيتُ أنَّه فاتح اللون قمحي البشرة، لا يتعدَّى الخامسة والأربعين، أشنب وله لحية خفيفة، متين البنيان دونما سمنة، أحدب فيه دعج. سألتُه:

 

أعمل ليك شاي؟

هزَّ رأسه وغمغم ففهمتُ أنَّه يتعفف من الاعتراف لأحد بأنه مكدود وهريان مثل الجمل الذي شالوا عنه كوم الأحمال في عقابيل السَّرى لا يطمع بشيء سوى أن يضع جمجته على التُّراب ويهجع. قلتُ له:

أنا راقد جوه.. وُدِي العناقريب.. البلد دا ما فيهو حرامي في القهاوي.. والآذان فاضل ليهو تلات ساعات.. الصُّبح بخير.

ورجعتُ إلى مرقدي.. رأيتُه انطرح وشدَّ عليه عصاه وأدواته.. لم أفكِّر فيه كثيراً، يعترف لي وَدْ أُمْ عَجَبْ، فأنا أيضاً لديَّ شواغلي.. ثُمَّ رحتُ.. حتَّى دخل الآذان إلى وعيي بالهمس البارد فجئتُ إلى نفسي وأنقلبتُ على جنبَيَّ.. نظرتُ حواليَّ وتذكَّرتُ. ظللتُ أفكِّر كيف أُوقظه دون أن اقترب.. لكنَّه جلس مرة واحدة، كأنَّه كان يواكبني رجوعي إلى الدُّنيا.. ناديتُ عليه:

الأباريق وراك في باب القهوة.. مليانة.

صلَّينا على البُروش أنا وهو وصبيان أربعة بائتينَ على مقهى داؤود السِّخيل.. نصبتُ الغلَّاية فعملتُ لنا شاي بحليب البارحة.. شرب بارتياح تام ساعة أضاءت الأنوار الفجرية المطمئنَّة موقفي وموقفه وكستنا مجاورة الليل السَّالف إلفة شفَّافة لا يزحمها كلام زائد..

سألني:

دي دكَّة كافا؟

آاي..

عندكم فَكِي من جَامِع أبُو عجُّورة اسمو البصير ولد نافِع؟

رعش قلبي كالطَّائر المنخلع، يعترف لي وَدْ أُمْ عَجَبْ.. أنظر إليه ولا يسعفني قول، فأسعفني:

 

ما ناوي إلا الخير.. أنا ولد عمُّو.. هُوْ سليماني وأنا مُقدَّي.. لو عايز تتطامن من محلك أطلع عليهو.. قول ليهو بِكوس فيك أنْقَابُو وَلَد طَلْحَة.. وهُوْ يطمنك..

جاءنا وَدْ أُمْ عَجَبْ مع طلوع الشَّمس يطرق باب الصَّفيح.. عاط عليه الفَكِي، من عند مسبحته:

اتفضَّل.. مرحب..

لم يقل شيئاً بعد السَّلام ودخل، لكنَّني عرفته من صوته.. يهزُّني العجب، فيمَ وَدْ أُمْ عَجَبْ يأتي مع طلوع الشَّمس؟ دخل لدى الفَكِي ومكثا يوسوسان سويعات وأنا ممسكة بزمامي وأريد أن اطمئن.. أتاني الفَكِي عند التُّكُل ينحني داخلاً لدى النِّيران.. يضحك بخفوت، يعرف حالي كله.. قال:

وَد عمِّي أنْقَابُو جا باللوري أُمبارِح من أبو عجُّورة.. بات في قهوة مَحمدَين.. بَغْشَى بجيبو البيت..

وتنفستُ، متلهفةً أُبدي سروري له بكلمات لا أدري كنههن.. طلع، وفزعتُ إلى الخمَّارة اطمر عليها الدَّقيق والماء وقرعة الرَّوب أصبُّ عليها الحليب والشَّرموط المدقوق أركمه على بعضه، والويكة، والبصل، والبندورة، والسَّمن.. ثُمَّ جرى بخاطري أن أخبر ناس حاج أحمد من فوق الحوش.. ناديتُ على أُم حَنُونَة وجاءتني فأخبرتُها.. وعدتُ إلى التُّكُل أجري كل وجهة لعلِّي أُدرك الذي عليَّ أن ألحقه.. نعم، ويجب أن نرسل أحد أولاد الأمين الزَّين إلى سعيد في السُّوق ليرسل لنا السُّكر وحب الشَّاي والبن والهبهان والقرفة، بالأرطال.. لا تدرينَ يا كَلْتُوْمَة كم سيمكث أنْقَابُو هذا.. سبحان الله، أراجع ذاكراتي، هذه أول مرة منذ ثُمَّانية عشر عاماً قضاها معانا الفَكِي البصير يزوره أحد من أقاربه.. جعلها الله في الخير وإلى الخير.. أوهامي تتوالى: أمات أبوه؟ أماتت أُمُّه؟ هل كانت له زوجة وأولاد، الخائن الغدَّار ينكر كل تلك الأعوام الثُمَّانية عشر عاماً، فأرسلوا له ولد عمِّه هذا ليعيده إليهم؟ أم تراه كتب خطابات خفية إلى أولاد أعمامه بجَامِع أبُو عجُّورة، يمتدح لهم حاله هاهنا وسط أولاد كبَّاشي، وجيهاً ومحتفى به في الدَّكَّة، فأغرى أنْقَابُو هذا أتياً لحظوظه؟ أيظن الفَكِي أنَّ في بيت كبَّاشي أرملة أخرى جاهزة لولد عمِّه يخطف هذا الأنْقَابُو قلبها كما فعل هو مع كَلْتُوْمَة؟

أسمعهما عند الباب.. صوته أجشٌّ كأنَّ في حلقه بصلة.. نحن لا ننظر إلى الرِّجال لكنَّنا نعرفهم من أصواتهم.. دخلا إلى الدِّيوان فأخفت عني كلامهما جدران المبنى.. ما كنَّا قبل هذه الجدران تُبنى في الدَّكَّة يحجزنا عن كلام الرِّجال حاجز.. وقد نظَّمتُ حالي لإفطار كبير دلفتْ عليَّ بِت محمد كالبشارة..

عندكم ضيف ولَّا شِنُو يا كَلْتُوْمَة؟

بِت حلال مُرسال الجلال.. من دربك دا تقولي لأخواني يلحقو البصير.. ود عمُّو جاهو من جَامِع أبُو عجُّورة.. بات في القهاوي وجابو لينا وَدْ أُمْ عَجَبْ مع طلوع الشَّمِس.. اسمو أنْقَابُو..

انصرفت مَسْتُورة وأنا أعقب التُّكُل أجمع الحطب المشقوق.. جدَّتي أُم سَلَمة كانت تحذِّرني في السَّمرايات وأنا بنجوسه: “يا كَلْتُوْمَة؟ عيب إذا جا الضَّيف، ست البيت تجري على ظهر التُّكُل بالفاس.. كَوْ كَوْ كَوْ.. كَنِّك للضيف بالفاس تخبط في راسو.. كَوْ كَوْ حطبنا مافي.. كَوْ كَوْ مُلاحنا مافي.. كَوْ كَوْ لحمنا مافي عصيدتنا مافي.. كَوْ كَوْ…”

ظلَّتْ تعدد لي خبطات تلك الفأس تترى عليَّ تكسِّر دماغي كسراً والنُّجوم تغيب الواحدة تلو الأخرى حتَّى وجدتُني مع حلاوة الآذان تنهر عليَّ عجوز أُم سَلَمة من جديد: “كَلْتُوْمَة؟ كَلْتُوْمَة؟ يا كَلْتُوْمَة قُومي أحلبي الغنم! فقفزتُ من مرقدي، المحلاب في يدي أتعثَّر على أغطياتي وأحذَر أن يسمعني الضَّيف. يا للعيب.. شَوْ شَوْ حليبنا مافي.. شَوْ شَوْ روبنا مافي.. ثُمَّ استدركتُ يا لفرحتي إنَّنا لم يكن لدينا ضيف ذلك الأسبوع كلُّه وهبطتْ أنفاسي من هيجان ملعون..

عبد القادر وعُمَر أسمعهما من وراء حوش حاج أحمد قادمَين إلينا.. حمدتُ الله، الآن تنتظمنا ضيافة أولاد كبَّاشي في دائرة تنداح بنا على الدَّكَّة والحلَّالات من كافا.. تهبط أنفاسي من الاضطراب الصِّبياني الأخرق إلى شيء مثل التَّحفُّز اللمَّاح الذي دام يتلَّبس المرحومة أُم سَلَمة بِت سليمان قبل أربعين سنة.. من يصدِّق، كم السِّنين تطير بكم يا كَلْتُوْمَة؟ وزبيدة بِت الأمين حتماً ستقول عنك غداً يا كَلْتُوْمَة ما تقولينَ عن العجوز أُم سَلَمة بِت سليمان.. دواليك فدواليك”.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب