خاص : عرض – سماح عادل :
طالما شغلت الاختلافات بين الرجل والمرأة الباحثين منذ عقود طويلة.. وكرس كثيرون منهم أوقاتهم لشرح وتفسير تلك الاختلافات بيولوجياً ونفسياً وتأثراً بالبيئة الاجتماعية، وهناك إتجاهان سائدان ورئيسان يفسران الاختلافات بين الرجل والمرأة.. الأول: يفسر الأمر على أنه اختلافات بيولوجية، نتيجة لعوامل الوراثة والجينات. والثاني يفسر الأمر على أنه نتيجة للبيئة الاجتماعية؛ وتكوين نمطين اجتماعيين هو المرأة والرجل، حيث يربى الأطفال على أن يصبحوا فيما بعد إما رجل أو امرأة.
الكاتب “غيرالد هوتر”، من أهم الباحثين في العقل البشري داخل ألمانيا، ويعمل مدير لـ”مركز أبحاث الأعصاب البيولوجية” في قسم الأمراض العصبية بمستشفى “غوتنغتن” الجامعي ومعهد الصحة العامة في جامعة “مانهايم”، “هايدلبرغ”، وهو عالم أحياء وباحث في العقل البشري يجيب في كتابه (الرجل والمرأة أيهما الجنس الأضعف.. الفروق الفسيولوجية والنفسية والتربوية)؛ عن السؤال لماذا أصبح الرجال على ما هم عليه ؟.. مبيناً أن همه من الكتاب تفسير تطور الرجال وتحولهم إلى الصورة التي عليها الرجال في هذا العصر، وأن مهمة تقصي تطور المرأة يجب أن تتصدى لها كاتبة امرأة.
التكوين الذاتي..
يقر الكاتب منذ البداية؛ بأن الكائنات الحية يبنون أنفسهم على مدار حياتهم حتى يصبحوا هذا الكيان، وهذه العملية الرائعة للتركيب الذاتي تسمى بـ”التكوين الذاتي”، فالإنسان كائن متطور على مدار عصور التاريخ، وحتى في الوقت الحالي هو يتطور ويتكيف بشكل مستمر مع البيئة المحيطة به.
العقل ليس آلة..
الرجال يختلفون عن النساء؛ أحياناً يتناسب رجل وامرأة معاً وأحياناً لا.. أحياناً يسعد المرء لكونه رجلاً وأحياناً يكون هذا مبعثاً للخزي، كما يصعب دائماً تحمل أن توضع بوصفك رجلاً مع جميع الرجال الآخرين في كفة واحدة، حتى مع هؤلاء الرجال من العصر الحجري، وبالرغم من كون جيناتنا وجينات أطفالنا الذكور هي نفسها التي توارثها الأجيال من الأسلاف الذكور في العصر الحجري، فلا يعد هذا مبرراً أن نفكر ونتصرف مثلهم، الجينات هي التي توجه تكوين الخلايا لكن العقل الذكوري لا يعمل بشكل آلي، إذ يقول الباحثون في مجال المخ أن العقل ليس سيارة يمكن تركيبها وفقاً لأية مخططات بناء بطريقة محددة، وإنما الأفضل تشبيه العقول بموقع بناء تجري فيه طوال العمر أعمال بناء إضافية، كما تجري تغيرات في البناء وهو الأمر الذي يتوقف على كيفية وغرض استخدامنا له بوصفنا رجلاً أو امرأة، كما أن البرامج الجينية تقوم من آن لآخر بتوريد الخامات المطلوبة للبناء، أما نوعية البيت الذي سوف يسفر عنه ذلك في النهاية فهو أمر يتوقف على عوامل أخرى كثيرة.
الطبيعة الذكورية..
عن الطبيعة الذكورية يفصل الكاتب؛ أن الرجال مستعدون لتحمل أي شيء ومستعدون لأن يتطوروا كي يتمكنوا من الفوز بالأنثى المناسبة، الرجال أكثر اهتماماً بتعريف أنفسهم بما يحققونه من إنجازات خاصة، وبما أن أي مجتمع بحاجة إلى جميع الأمهات بينما يمكن الإستغناء بدرجة أكبر عن الرجال، تتجه معظم المجتمعات إلى دعوة رجالها للأعمال المرتبطة بالنفع الكبير وتشجيعهم والإيحاء لهم بها، ويستطيع الرجال تحقيق فوائد هائلة على أساس هذه الإستراتيجية، في حين يدمر آخرون منهم حياتهم من خلالها، إن ما يجعل الرجال مفيدين لأي مجتمع أو ثقافة ما هو إمكانية الإستغناء عنهم.
ما جعل الرجال حتى الآن محط جاذبية للنساء وما تقدره النساء في جميع العصور والثقافات والحضارات في الرجال هو وضعهم الاجتماعي، إلى جانب قدرتهم على العمل، وعلى تطوير أبناءهم على أفضل وجه، بمعنى إنهم يستطيعون تطوير صفاتهم الوراثية بأفضل صورة ممكنة، لذا ينحدر الناس من رجال نجحوا بطريقة ما في اكتساب الاحترام والأهمية داخل الجماعة سواء كصيادين أو مزارعين أو حرفيين أو تجار أو مكتشفين أو حتى محاربين ومحتالين ولصوص وسفاحين، المهم أن يكونوا ناجحين، وفي حال فشل ذلك سلك الرجال الطريق الآخر بالسيطرة على المرأة، صحيح أن ذلك لم يكن متفقاً مع قدرهم البيولوجي، لكنه كان ناجحاً أيضاً، لذا نجد من بين أسلافنا قامعي النساء من أمثال المغتصبين والحكام في عصر الحريم.
طبيعة وراثية مختلفة.
الرجال يبدأون حياتهم بتجهيزات وراثية مختلفة، فهرمون الذكورة، “تستوستيرون”، هو المسؤول عن جميع الخصائص الجسمانية الذكرية، بدءً من بناء الهيكل العظمي الذكري حتى السمات المميزة لشبكات الربط العصبية في المخ الذكري، الفرق الوراثي الوحيد بين الرجال والنساء يكمن في أن الرجال يبدأون الحياة بوجود الصبغي (واي) وبدون الصبغي (إكس) في الحيوان المنوي الذي يغزو البويضة.
يزيد طول الرجال في المتوسط بعشرة سنتيمترات عن النساء، ويتميزون بجهاز عضلي أكبر وزيادة في حجم الأطراف، لكن عند النظر بدقة يتضح أن منحنى التوزيع لدى الرجال أكثر تطرفاً، فهناك كثير من الرجال طويلي القامة وكثيرون قصيري القامة، فالبناء الجسماني للرجال أكثر ميلاً للطفرات الكبيرة، الرجال إذاً هم الجنس الأكثر تطرفاً وليس الجنس الأقوى، لذا يموتون في المتوسط في عمر أصغر من النساء، وفي الوقت الحالي يقل متوسط عمر المتوقع عند الأطفال حديثي الولادة من الذكور عن الإناث بنحو ست سنوات، وهم الذين يتعرضون لحوادث أكثر وهم صبية صغار، ويعانون من إدمان المخدرات بدرجة أكبر وهم في سن المراهقة، وتزيد إصابتهم بالصلع عند تقدمهم بالسن، ويعانون أكثر من أمراض الضعف الجنسي والجلطات الدماغية، وكل هذا مرتبط بطريقة ما بأسلوب حياتهم وهرموناتهم المختلفة، صحيح أن الرجال لديهم جسم مختلف عن جسم المرأة لكن هذه الخصائص الذكرية المعينة يعود الفضل فيها في المقام الأول لوجود الخصيتين التي تقوم بإفراز هرمون، “التستوستيرون”.
عقل مختلف..
إن الرجال يفكرون ويشعرون ويتصرفون بطريقة تختلف عن النساء، وبالرغم من إنهم لا يمتلكون جينات مختلفة عن النساء مسؤولة عن تطور المخ، فإن لهم عقل مختلف، فأدمغة الرجال تختلف في المتوسط بالفعل عن أدمغة النساء في كل من التكوين، وكذلك بعض الوظائف، فمخ الرجل أكبر في المتوسط من مخ المرأة، إلا أن قشرة المخ عند النساء بها عدد أكبر من المجار والوصلات بين جزئي المخ، وقد تمكن العلماء في السنوات الأخيرة من إثبات وجود اختلافات متعددة في طريقة عمل المخ البشري لكل من الرجل والمرأة، من خلال أساليب مصورة مثل التصوير بالرنين المغناطيسي، مثلاً أن عمليات التفعيل المتعلقة بإصدار وفهم اللغة تتركز عند الرجل بدرجة أكبر على الجانب الأيسر من المخ، كما أن هناك مساحات بالجزء الأمامي من مخ الرجل وعلى وجه الأخص “قشرة المخ” الدائرية الأمامية أقل تكويناً.
لذا يبدو من الصعب على الرجال، مقارنة بالنساء، السيطرة على الموجات الآتية من “الجهاز الحوفي الإنفعالي” عبر العمليات التي يتم التعامل معها في قشرة المخ الدائرية الأمامية، ويبدو من الناحية العامة أن الرجال لديهم القدرة على بناء نماذج إثارة أقل تعقيداً من تلك التي لدى النساء في مختلف مناطق قشرة المخ، ويمكن ربطها ببعضها البعض مثل عمليات التحليل البصري وغيره من الإدخالات الحسية، فالرجال يستطيعون التعرف على شيء معقد بطريقة أسرع.
لكن الأدمغة وبالأخص في الجنس البشري لدنة بدرجة هائلة وطيعة بدرجة كبيرة، فالمخ يتفاعل مع الإشارات الهرمونية عندما يكون الإنسان جنيناً في بطن أمه، ليس من الهرمونات الصادرة من الأم فحسب بل الصادرة من جسمه هو أيضاً، ثم يقوم بضبط نموه حسب هذه الهرمونات وسيظل طوال حياته يتفاعل، ويتجاوب مع الإشارات القادمة من داخله والاشارات الآتية من الخارج، والمخ يتعلم الجديد كل يوم حتى الشيخوخة، فالمخ يثبت قدرة الإنسان على التآلف مع الكثير من الأشياء في هذا العالم المعقد، إذن الاختلافات العصبية البيولوجية بين مخ الرجل ومخ الأنثى نشأت نتيجة الظروف المتفاوتة والاستخدام المتباين للبيانات الدقيقة في المخ فحسب، للرجال مخ مختلف عن النساء لكن لا توجد جينات خاصة بالرجال مسئولة عن البناء المختلف لمخ الرجال.
إذاً الرجال يفكرون ويشعرون ويتصرفون بأسلوب مختلف عن النساء هذا في المتوسط، فالرجل المتوسط يستطيع أن ينظم بطريقة أفضل وهو أكثر اهتماما بمعرفة كيفية عمل الأشياء، وفي المقابل تنقصه القدرة على التعاطف مع الآخرين، وكذلك القدرات الحركية الدقيقة فهي أقل تطورا عند غالبية الرجال، وإن كانوا يستطيعون إصابة الهدف بقوة أكبر ومعروفة الاتجاهات بأسلوب أفضل، وداخل المجموعات يميل الرجال إلى السلوك التنافسي وتكوين درجات للهيمنة، وقدرتهم على التواصل اللفظي أسوأ من النساء، وقلما ينظرون في عيني محدثهم، والرجال في المتوسط أكثر انفتاحا من النساء كما إنهم أكثر عرضة للاضطرابات النفسية غير الانطوائية، ويقال أن الرجال لهم خيال أكثر قذارة في الغالب، وأنهم أفضل للأمور التقنية ويتكرر حصولهم على جائزة نوبل وتحولهم إلى مجرمين أو مدمني مخدرات.
تفسير الاختلاف..
تفسير الاختلافات بين الرجال والنساء لا يعود إلى الصفات الوراثية والجينات لأنها شرط مهم ولكنه غير كاف، صحيح أن البرامج الوراثية تسمح بتكوين مخ قادر على التعلم طوال حياته لكن نوع العقل الذي يتكون لدى الرجل أو المرأة يتعلق بكيفية ومجالات استخدامه، وهذا متعلق بدوره بالفرصة التي يحصل عليها في هذا العالم الذي ينشأ فيه لكيفية ومجالات استخدام عقله، أو كيف يفرض عليه استخدامه، المخ يصبح حسبما يتم استخدامه، فالبناء والتنظيم الداخلي للمخ يتكيف بسهولة مع كل ما نعايشه أو نفعله أو نفكر فيه أو نتعلمه بقدر كبير من الشغف، وأهم ما توصل إليه علماء المخ هو أن المخ يصبح كيفما يتم استخدامه بشغف أي بمشاركة عاطفية قوية.
مراحل التحول للرجولة..
لا يمكن للمرء أن يصبح رجلا من خلال الآخرين بل من خلال نفسه فحسب، من خلال عملية نضوج وتمايز يمر بها كل كائن ذكوري في حياته والتي لا تدور رحاها على صعيد مظهره الخارجي بقدر ما تعتمل في داخله، يسير الرجال منذ ولادتهم كصبية صغار بقوة دفع أكبر في طريق مختلف قليلا عن النساء. والرجال هم الجنس الأقل استقرارا والأكثر احتياجا للدعم الآتي من الخارج.
من يستطيع وهو شاب تجاوز مرحلة البلوغ بدون كل العذابات النفسية الكبيرة والتي تدوم لفترات طويلة للغاية، فإنه سيجتاز عمليات إعادة البناء الجسدية تلك بشكل أكثر سهولة وأقل إزعاجا، كما سيتمكن من وضع الخطوط العريضة أكثر وضوحا في تشكيل ملامحه الرجولية المحددة بيولوجيا إلا أن ذلك لا يجعل منه رجلا بعد.
تبدأ حياة الرجل بخبرة التوحد الشاملة حيث تعرف في بداية حياته على هذا التوحد من خلال الخبرة الأساسية للارتباط مع الأم أولا ثم مع أعضاء آخرين من أسرته الأصلية ومع الأصدقاء وكل الأشخاص الآخرين الذين يشعر حولهم بالارتباط، تستقر كذلك الخبرة المبكرة للنمو، وتجاوز حدود الذات، وإطلاق القدرات، وبلوغ مرحلة الاستقلالية والحرية في المخ بعمق ويعاد تنشيطها مجددا ومن ثم مواصلة تثبيتها من خلال كل خبرة يمر بها الرجل.
يصنع كل رجل خبرات على مدار حياته تجبره على فصل أجزاء محددة منه وشطرها وقمعها، ولا تختلف النساء في هذا الصدد، هكذا يحمل كل رجل طوال حياته كل هذه الأشياء بداخله، تلك الأشياء التي لا يستطيع العيش بها في العالم الذي يحاول أن يشق لنفسه طريقا فيه، فهو لا يمكنه أن يعيش مجددا ذلك الطفل الصغير الذي كانه يوما ما ولا الجزء الأنثوي الذي فصله عن ذاته، ولا الوحدة الكاملة التي فتتها في فكره وشعوره وفي رأسه وفي جسده، ولا الحب الذي عرفه يوما ما ولن تصبح هذه الحالة محتملة بالنسبة له إلا عن طريق تصورات محددة وقناعات ومواقف وأراء صنعها على مدار حياته، بناء على خبرات اكتسبها من خلال محاولات إشباع احتياجاته الأساسية ورسخها في الفص الأمامي للمخ.
وفي النهاية النساء بوصفهن أمهات قد لعبن دورا جوهريا في الحالة التي كان عليها الرجال في السابق وفيما هم عليه بشكل جزئي اليوم.
المصدر:
كتاب (الرجل والمرأة أيهما الجنس الأضعف.. الفروق الفسيولوجية والنفسية والتربوية) – غيرالد هوتر – ترجمة علا عادل.