كتب: عثمان خاطر
جوبا/ جنوب السودان
” يجب على المرء أن يعترف أنه في بعض الظروف يكون المجتمع أكثر أهمية من الفرد .” فرانز فانون.
_ تاريخيا ظل الأدب لصيق بقضايا مجتمعه، إذ أن نواة الأدب هو الفضاء المجتمعي الذي يسقط عليه أفكاره وآرائه، فلسفته وقضاياه، وساحة ثقافية للتعبير، تسريده وتوسيع دائرة اهتمامه، الأمر الذي نتسائل بجدية ووضوح مستمر عن دوره ورأيه (الأدب) في ما يحدث على الساحة الإجتماعية والثقافية وهذه الصراعات السياسية المتكررة والمتجددة بأفكار ذاتها؟. لكنٌ حين نضع الأدب وجها لوجه مع الصراع الحالي يتبادر في أذهاننا ماهي العلاقة بين هذا وذاك من حيث الموضوعية الفكرية والمعرفية؟، وهو الأمر الذي يفتح علينا أفق تأطير القوالب والصيغ على معادلة أخرى. يجب أن نعترف إن تاريخ الأدب السوداني اختلط عليه القضايا الذاتية والموضوعية في محتواه الإنساني وجعله أدب سياسي وسلطوي في أكثر قضاياه التي تناولته الرواية والقصة القصيرة والشِعر، المسرح والفنون التشكيلية والكاريكاتير، بناءا على ما سبق يتكوٌن (ينشأ) سؤال المكانة التي يتمتع بها الأدب السوداني، لكي يقودنا إلى تفاصيل أكثر شأنا ترتبط بشكل أو بآخر مع ما يحدث الآن. ومن الأسئلة التي تفرض نفسها علينا في هذا الصدد ما هي علاقة الأدب بالمجتمع ؟ وبالتاريخ ؟ وبهذا العصر الذي نعيش فيه ؟ وبهذه الحرب الدائرة الآن؟ هذه المحاور المهمة يضعنا في أمر الواقع على أن الأدب يمثل الجزء الكل من الواقع العام لمجتمع ما، والإجابة على هذه الأسئلة يعني الولوج المباشر إلى فهم علاقة الأدب بالصراع الحالي. وهذه العلاقة تكمن ارتباطها بالموضوعية والسرد التاريخي الذي لازم الأدب تاريخيا وتعكيس دوره واهتمامه بالإنسان وبالمواضيع السياسية والاجتماعية والثقافية.
_ إذن أين نجد الإجابة الشافعة من هذه الأسئلة السابقة الذكر، ولتسهيل عملية بناء فكرتنا على ما سبق وفهم تاريخنا الأدبي بشكل دقيق ومتابعة قضاياه ومواضيعه وأفكاره بأسس ومبادئ مهنية ومنهجية، سنكون أمام تحدى حقيقي في سؤال أكثر صعوبة وهو؛ هل فعلاً نستطيع تأطير الأمر أدبيا؟، حتى تتضح وتُبان دور النقد وأثره على الحياة الروائية والاجتماعية، وفتح المجال واسعا للدراسة الأدبية بتأسيس الخطاب وطرح الأفكار على ضوء الحقيقة النسبية والموضوعية، كل هذه الوقائع ترتبط بشكل أو بآخر مع الأدب كماً ونوعاً وكيفاً. لكننا أيضا سنجد أنفسنا أمام سؤال أكثر إلحاحا من مثيلاتها السابقة وهو؛ هل الروائي السوداني ينجز روايته على السياق العام وذلك وفق قوانين ورؤية محددة جاهزة ؟ أم أنه ينساق لذاته وقف متطلبات جاهزة لفضاء السياسة والسلطة حتى تتشكل مواضيعه وفق ذلك ؟ ما هي درجة الجراءة للخوض في المسكوت عنه؟ وما هي المواضيع التي تأخذ الحيز الأكبر في كِتاباته؟ ومَن الكاتب الذي نقصده في هذا المقال؟ على ما سبق يعطينا الاحساس المعرفي في خضم هذا المعترك المرير الذي لا نعي جيدا أين تكمن المشكلة أو النقطة الأساسية لفهم ما يحدث وما نود إلقاء الصورة التقريبية لها، نجد أنفسنا للمرة الثانية يلزمنا العودة إلى تاريخ الادب ( النشأة والتطور) للإجابة الحقيقية على هذه الأسئلة الشائعة.
_ الأدب بالنسبة لي أكبر فضاء لإسقاط سؤال الصراع الحالي،( الذي يعني تجاوز السؤال السياسي ضمنيا ) ذاكرة الأدب للمجتمع هي نتاج الجمع الكلي لما يقع عليه بلورة أحداثه وتقنياته الفنية والإبداعية (أي ربطها بالأدب ذات القضايا الاجتماعية الموضوعية) “عطسة الوجود القلق”، فإن الذات الكلية المحسورة بين الإنسان والطبيعة والآخر يمثل موضوع لابد للأدب من محاولة تفكيكها وترميمها على شكل يتناسب مع المجموع النهائي (أفكار الكاتب) مع الموضوع المقصود.
وهذه العقلية تقوده الأدب على إنها حقيقة افتراضية وجدلية للخوض فيها والتبحر في محيطها. إذاً أين نجد الأدب من كل الذي يحدث في السودان الآن ؟ هل نحن مسؤولين أدبيا عن هذا الواقع بشكل أو بآخر؟ قبل الإجابة على هذين السؤالين هناك أسئلة كثيرة تلوح في الأفق، وهذه الأسئلة الصغيرة التي تولدها السؤالين الأولين تُنير بواتق جديدة في فهم ما يحدث وإذا حاولنا بقدر الإمكان الإجابة على هذه الأسئلة فإننا سنكون مطالبين بتعكيس الواقع على خلفية تاريخية بعيدة قبل ليلة الرابع العشر من أبريل، (نقطة البداية)، ولكي نوقن ما يحدق في المكان بشكل دقيق سوف نخلق أسئلة من نوع مختلف . أي ما هو النوع الأدبي الذي نقصده من الكِتابات الموجودة على الساحة الفنية؟
وهل نستصحب معنا ذاكرة الكُتاب (الذات الكاتبة) بعيدا عن كتاباتهم؟
وهل سنكون بحاجة لمعرفة ما تؤول إليه الظروف في الحنكة والسلاسة الموضوعية؟
هذه النقاط الجوهرية في ما يتعلق بموضوع الأدب وتفسير الصراع أدبيا سنعود الى ما هو أبعد من ذلك ولكي نقوم بمسح النقاط الأساسية التي لا تظهر أثرها على الساحة العامة هي الكل من العام الخفي في الصفحات البيضاء. نجد أنفسنا أمام قضية ثقافية تم التعامل معها سياسيا وأيديولوجيا، لا تاريخيا ولا أدبيا، وهي أس المشكلة التي وجدنا أنفسنا فيها لا استطعنا الخروج ولا الدخول إليها بصورة مشرفة، لهذا ظل تاريخنا الأدبي يتشكل بتقنيات شخصية وليست رؤى وطنية جامعة، و أهم ما طرأ على الواقع هو الهُوى الذاتية ( تناقضيا وتشخصا ) الأمر الذي لا يضع مجالا لمعرفة ( الذات الكاتبة وأفكارها المكتوبة ) والتفريق بينهما تتعقد ويتشيك بعيداً. إذن ما هي الحلول المناسبة لفهم واقعية الواقع؟
_ جدلية تاريخ السودان شئنا أم أبينا هي جدلية معقدة، شيقة ومتعبة، وبلورتها التأسيسية تستحق تغيير العقول، المبادىء، والقوانين ومحاولة تنظيم المجتمع السوداني بأسس وآليات جديدة لقيادة البلاد، وتسليط هذا المهام ورميه على عاتق الأدب بشكل أو بآخر يصبح ما هو بعيد وقريب تتجدد لتواكب نوعا وكماً مع ما هو بحاجة للكِتابة عنه، ومعالجتها بفضاء الأدب. في هذه البلاد القاسية تحدث الأشياء التي لا تقبل القسمة على إثنين، كل ما هو سيء ومتعب، لكن بعيدا عن جدولة واقع الأمر إلى تفسير معين أننا ملزمين بإعادة السياق من جديد والغوص في اعمق الحفر وتأسيس بنية جديدة تقبل فكرة الابتعاث الوطني، ومسح العقلية التي استحوذت على مساحة واسعة من حياة إنسان السودان صنع منه كائن ما عاد يفهم ما الذي يحدث معه، يفتقد إلى جوهر المعنى؛ معنى حياته، ووجوده.
كذلك في هذه الحروب العبثية المريرة ظل الأدب صديق دائم بأحداث البلاد، أصبح مثل الكفن على جسد الميت، ملازما لكل ما يطرأ على الوطن وما يصاحب الإنسان من مشكلات وقضايا وآراء. كقراء قريبين ومتابعين جيدين فإننا نلاحظ هذه الحقيقة التي تظهر على الساحة الأدبية والفنية، لكن أين هو الأدب من هذا الصراع الجديد؟. الأدب موجود بأفكاره، بشخوصه، بقضاياه وبكل أفراحه وأتراحه، بشقائه، عذابه، معاناته، ضعفه وقوته وكل الآلام والمصائب الإنسانية. تارة نجده يرتدي ثياب الواعظ، الجنود، المواطن والشيوخ، ينتعل المدافع والقذائف وأجنحته الطيران الحربية، وتارة أخرى نلاحظه يعيش بين الثنايا الصغيرة في البيوتات النائية من ذاكرة الوطن. الأدب موجود كل صغيرة وكبيرة في الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية الآن، ما كان يخشاه وظل يحذر منه أصبح الآن واقعيا، الروايات والقصص والأشعار جميعها تطفو على السطح.
وضعتنا هذه الظاهرة الصعبة في الصورة المباشرة وتوهنا لا نفهم الحياة بشكلها التي عليها ولا بغموضها المخفية. جعلتنا نترك هذه المغزى من الحياة إلى الذين وجهنا إليهم هذه الأسئلة التي سلطنا الضو عليها بشكل مباغت.
الخلاصة:
ما أردنا قوله بإيجاز هو أن؛ الأدب السوداني كان منذ البداية قد مهٌد الطريق بسردياته المختلفة ونوعية كتاباته المتنوعة حتمية هذه الحرب العبثية، ومشى أبعد من ذلك إذ أنه تبنى تفكيك وتشتيت الدولة . لكنٌ بخصوص ما سبق ترك لنا الأدب سؤال وجودي عالق في ذهن كل القراء ومتابعي الكِتابات السودانية بشكل عام، و هو بأي طريقة ستتم بناء الدولة السودانية حقيقية؟.