كتبت – نجوى المغربي
يفتح الليل بابه, على مصراعيه, لإستقبال محمد هلال, الشاعرالروائي, يقدم له ضيوفه الدائمين, ويغريه بشرابه المعتق وباقات ياسمينه, يجلس هلال في صدر النور, يتأمل أهل الأسرار, أنواعهم وصنوفهم, وأشكالهم– مابين طالب ومطلوب, يسهر الصحفي وصديق الليل في كتابه ( أهل الليل) ليقدم للقارىء مائدة من التواصل بين الصمت وإباحة الكلام,وأوجاع النفوس,ومايغري من القصص,والحكاية, ومقامات الأحوال, التي تظلل العباد, بين العوام والعلماء, وبين الشعراء وأرباب الكلام- فهو يقسم ساحة أبناء الليل– بعد تعريف فضي, يلمع في الظلام من الكاتب- بمستودع أسرار الليل- عند الخالق الأعظم, والرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم, مرورا بالنبيين عيسى وموسى عليهم السلام ,وكيف يلقي الليل أسماعه للكلام, بدعوى الولاء, فهوللشعراء ساحة نزالهم, سكونه, وسكوته, والتباسه مرآة عاكسه لأقوالهم, تسكرهم أقداحه, وتسترهم أثوابه, ولا تغري بهم أحدا, يبدع الكاتب في سرد مستويات مكانة الليل بقسم الخالق جل شأنه به يقول سبحانه( في سورة الليل) ” والليل اذا يغشى, والنهار اذا تجلى, وما خلق الذكر والأنثى” وفي سورة الضحى ” والليل اذا سجى …” وفي سورة الفجر ” وليال عشر” وفي سورة الشمس” والليل اذا يغشاها”– ملمحا قرآنيا عظيما لقيادة الليل– للنور والصبح, وكأنه الخفاء الذي يسمح لك بمقام التدبرثم الإعلان, يستعرض المؤلف الحكيم المعاني صعودا وهبوطا, يتسلل خلف كل فكرة ولمحة, يسوقها للقارىء – بعد أن أزال غبرتها, في إثني عشر فصلا, محكم البلاغة, جذاب العرض, يدهشك تنوعه, بين الناروالنور, العقل والقلب, الأفراد والليالي- تصغيرها وتكبيرها– فهي ليلة متميزة, وهم ليال تشبه بعضها ويميزها العدد, يتلطف الكاتب في استعراض أقوال المعاجم, مابين معان الليل والظلام وبين قول التوارة والكتاب المقدس, بين فتح قلب العبد ليلا لخالقه, وتبدد نور الظلام, بين القبول والتناغم, يتواصل ميزان الإفراد والنشوة والمؤلف يجمعك بأصحاب الحالات, المتلذذون والعارجون بالصدفة, والمتسللون, والشارحون والمنتشون بستائر الأسود الأعظم – ابن خلدون والحلاج وعروة الورد- وقد أتى بليل دامس مقابل مسرات النهار, وهؤلاء أقطاب الصوفية النفري والبسطامي- يدهشونك وقد طارت قلوبهم وعزفت الإخلاص لله لحنا واحدا, رجاء رضاه وطمعا في الإنفراد به, يستدعي محمد هلال –شعراء الوجد عبد الصبور وعلقمة التيمي وابن الفارض وابن براقة وشوقي وامرؤ القيس وإبن الرومي وغيرهم–ممن يتغزلون بالليل من حال وجد ومؤانسة إلى حال طول وسهد, حالات من التنوع في قماشة الكاتب الموشاة بالنقوش الذهبية, وهو يلقي إلى القارىء طرفها ليتأمله,مع أكابر الصوفية حينا والمتسامرون أخرى, في صورة متمكنة من التحقيق والإسناد والعرض– بلا إسهاب وإطناب- فملامح الشخوص والحكايات والكتب والإستدلالات– تقاس بميزان حساس , فلا يشعر القارىء بملل أو كساد, بل يتمنى لو حضر مع مؤلفه قلب أسواق العرب في حضرموت وذي المجاز وعكاظ,فإذا ما انتقل هلال– إلى شعراء أهل الليل, أدهشتك إحكامات موثقاته بين النبي الكريم صل الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق خليفته, وأعاجيب الروايات والعبر في الذاهبين الأولين من القرون, يخاطب الليل شاعر, يريده أن ينجل ويشهد الليل آخرعلى فعله, وآخرون كثر يعدون لياليه حتى يملون عدها, عد المؤلف عديدا من الشعراء من كل حقبة ومن كل زمن ودولة من الجاهلية إلى الأندلس ومن العاشقين إلى المعاصرين , يساقون أو تسوقهم الليالي تواترا, وذكر بعض الأغاني التى تناولت والشعر المغنى كرباعيات الخيام وفيروز وأبا نواس وفهد بلان وغيرهم, يقول طاهر أبو فاشا- سل الليل إن شئت عن سره….ففي الليل يبعث أهل الهوى, ويقول محمود درويش- إرتدت فستانها الأسود, وقالت ما رأيك,قلت- أي رأي تسألين عنه؟ وقد جعله الله لون الليل في السماء, وجعلك قمرا بين النساء, يقول نزار قباني- لم يبق في شوارع الليل مكان أتجول فيه, أخذت عيناك كل مساحة الليل, وفي دفتر النكسة يقول– مالحة في فمنا القصائد, مالحة ضفائر النساء والليل والأستاروالمقاعد, انتهي كلام نزار, واستمر كلام مؤلف أهل الليل- ذاكرا مكانة الليل عند الصوفية ورهبان الليل–أشرف طبقات أهل الليل كما وصفهم, فهويستند إلى وثائق التاريخ وعلماء الملل, فيذكر المجالس ويسوق عليها الشواهد,في الحديث والمواعظ, فالحسن البصري راوي, والجنيد سالكا وناصح, والكرامات بين مكروهوى, إلا مانبه منه إبن الرومي, واختلط على العوام في علوم الأسرار, يقول أبو حامد الغزالي صاحب إحياء علوم الدين في باب المحبة(إن لله تعالى شرابا يسقيه في الليل, قلوب أحبابه,فإذا شربوا طارت قلوبهم, في الملكوت الأعلى حبا لله,تعالى وشوقا إليه)- فالروح واحدة والمحبوب واحد, يستأنف الراوي المؤلف حكاية الليل– بفلسفة عميقة عامرة بسرالحياة وعمود إقامتها– في أسلوب سهل يسيرمبسط– يستعرض فيه الآيات الكريمة من سورة النجم ” وأنه هو أضحك وأبكى,وأنه هو أمات وأحيا,وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى” ليشرح الآيات من الظاهر والباطن والفعل اليسير ثم الكبيرالأعظم وصولا إلى تجسيد سرإعمار الكون, ثم تتوالى إشاراته عبر شخوص كلها ثانوية تعمل في خدمة الليل– الشخصية التي جسدها بمهارة, لتؤدي بإمتياز وسط دوران الفلك حولها, وفحولتها, كمحور ذكوري–خلع عليه أصحاب الصوفية كل عباءات الإجلال والتأويل, بإعتبار وجد الذات الدائم إلى مناجاة الجليل–والكلام للمؤلف باذخ اللفظ والمعنى والسياق والإستشهاد, فلا يأخذ محمد هلال العبارة– أي عبارة– بلا سند, ولا تكون عنده الكلمة– إلا داخل سياق جملتها, فالكتاب بين واضح, لا لبس فيه, ولا شطط أو تجاوز, يمرح أهل المشرق والمغرب والنجباء والنقباء بين دفتيه– فلا يعلم جنود ربك إلا هو- فالتصوف عند المؤلف خبر واجب الإعلام, سواء كان من حلية الأولياء أو من حاوي الفتاوى, ومقامات الأنبياء وسيدهم المعصوم زينة الكواكب وأحاديثه صلوات ربي وسلامه عليه – هي الدر المنثور, تعالى ربي وتعالى كلامه, يقول سحنون– أحن بأطراف النهار صبابة… وبالليل يدعوني الهوى فأجيب, ولابن عربي– عند المؤلف فضلا خاص وولعا وواجبا وحقوق–يقول -الرب حق والعبد حق …. ويا ليت شعري من المكلف, وفي سياق الحلاج ودعمه” إذا وحد العبد ربه فقد أثبت نفسه, ولا يخرجك النفري عن غير الكلام, لايزال المؤلف يستعرض الكثيرين من الإتحاد إلى الوحدة ومن ابن الفارض إلى الصحابة والإنقطاع للعبادة( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) بلاغة على وصنيع عمروعسعسة الليل, يفاجئك الكاتب بفصل خاص يتقاسمه فيلسوفا التصوف النفري وابن عربي, يقول المؤلف– الليل وطن الصوفي– ويقول ابن عربي الشيخ الأكبر ” أن الله جعل الليل لأهله مثل الغيب لنفسه, أما النفري فيرى أن هناك صاحب الليل وصاحب فقه الليل وكلاهما يشرفون على الليل وأهله, يمازح المؤلف أصحاب الفكر والفلسفة – لفكفكة بعض مواجدهم بإعتبارهم من أهل الليل ومنازلاته, ثم يستعرض بعض المنازلات الفقهية والمسامرات بالغة الإحكام والبلاغة والفلسفة والمعاني السامقة, عبر استجواب العارفين وتجلياتهم, والأخذ والرد في الأفكاروالبلدان والمعاجم والخلفاء والمآثر, خلوات وجلوات يقيمها الكاتب المتفرد بإستضافة الليل, ينسخ منها حكايته المتكاملة, متطلعا إلى شحن الهمم, والإدراك الحق , والجهر ب” أفلا تعقلون؟ “, يقول محمد هلال ( لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا تبرما وسأما) ( لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة رسول الله)- السابق مدخلا لفصل–الحسينان… جبلا الليل الدامي, أنها قصة الإمام الشهيد والخلافة المغتصبة ليزيد بن معاوية, يستعرض المؤلف المجزرة, فيدغدغ القلوب بشعر الحسين وألم أخته, ووجد القاريء, وكل صغيرة وكبيرة من شهادات الكتب التي تدور حول الاتهام في العقيدة بشكل عام وبعض الخاص, وكثير من كرامات الأولياء, وشهادات العقلاء, وأقوال الحلاج وابن عطاء الله وأبي العباس المرسي, يعرج المؤلف الكريم على شواطىء الجميع لا يستثني من الكبارأحدا فابن خلدون وابن حزم وابن تيمية والجيلاني والشعراني والغزالي والباقلاني ووجه الدولة العباسية وأعوان القتلة, وحجج القتل, والتحريض جاثمين على صدورأهل الليل مع أصحاب قلوب الودادوالزهاد, مذموما كنت أو محبوبا, يجرك المؤلف للكتاب, لتشهد وتقول, عن أيام السجن وادعاء النبوة وفتنة الناس, وأخطر كتب الطواسين, أهل البيان كتاب للتاريخ, مواجهة ومكاشفة مدموغة بالأدلة والأحراز, مابين الكعبة والعراق والعبث وشرح الحال, كيف جمع المؤلف كل تلك الأحداث, والمشاكل والنكبات, وارتكاب المحرمات, والمهالك, والصوم وقيام الليل والحمد والثناء, وقرض الشعر والوجد والمناجاة, وتوجس أوكفر أبي سفيان, وهو لا يرى إلا الملك– ولا يدري عن جنة ولا نار, يستعرض هلال , تنكيل الحجاج ومكة وهي تضج بالبكاء على مقتل الزبير وعبد الملك بن مروان وفتنة البيعة الكبرى, ثم يأتي على ذكر حفيدة رسول الله صل الله عليه وسلم نفيسة العلم مع أم الخير رابعة العدوية في فصل جمعهما معا– وحارات ” درب السباع”, وخلود ليل نفيسة– في العبادة والتقرب إلى الله- يقول الشافعي– يا آل بيت رسول الله حبكم ….فرض من الله في القرآن أنزله, ثم يذكر شيخة الزهاد رابعة البغدادية وأخبارها في كثير من السير– يستعرضها دون خلط أو تشويه,باحتراف مؤلف ومتصوف في الكتابة وعاشق ليل قانت كتب محمد هلال روايته – بعد أن أعتقها من المغلوط والسرد المباح, فقننها وأصلها وحققها, ونأى بها عن كل مبالغ فيه أو خاطيء, فاستعان بأمهات الكتب السليمة المشهود بخلوها من الأخطاء, وطاف حول كل عبارة كتبها, حتى أخلصت, وحققت غرضه في جمع الزهاد , قال الرسول الكريم محمد صلوات ربي وسلامه عليه–“ سبق المفردون” ثم يعرج المؤلف على وادي التبريزي وجلال الدين الرومي– في رحلة الليل والنار والعشق- يمتد هذا الليل حتى الأبد…..وكأنه نار في باطن الرفيق تتقد, يستعين المؤلف بتراجم كثيرة يذكرها في مؤلفه ويعكف على الإطلاع علىها بلغتها الأولى الفارسية, ليستخرج عصيرها لأهل ليله وقرائه, فهي حكايات ودلائل, تذكرها كتب التأريخ للأعلام والبلدان, كمظهر العجائب, يصيغ المؤلف شخصيات كتابه من واقع حياتهم, ملامحهم, الليل في حياتهم , طقوس التطهر لديهم, علاقتهم بالكون , يقول ابن عربي– لقد صار قلبي قابلا كل صورة– يقول الرومي– والجبل بدا راقصا وطار مع الأملاك, ولعل المؤلف كان مع أبي ذر الغفاري في صولاته حين أجاد في إستخراج وصفة من المؤلفات والأسناد, وضمه إلى الليل وشهاده, وأن اختلف ليلاه قبل وبعد إسلامه- اذ جمعهما الراوي في فصل– ابنا سواد الليل وأمير العدالة” أبو ذر الغفاري وعروة بن الورد, عارضا قبيلتهما, ووقت اسلامه ومحطات سيرتهما في الطبقات, حتى اذا ماكان عرض فصل الجبال عباد الله الساهرة السائرة– كلم محمدا صل الله عليه وسلم جبل أحد– وكان سجود الجبال مع كل شىء لله جل شأنه, لم يأل المؤلف جهدا في مبحثه مع الجبال كما غيرها, فأستعرض فعلها وهى تبدو جامدة( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب),وكان موسي وأنواع الجبال وشهرتها وصفاتها وحكاياتها, وبطولات أفعالها, ولجبل النور فصلا خاصا وحده, لموعدة مع الرسالة العظيمة ونزول الوحي الأمين عليه, ويسوق الكاتب شوق المسلمون وهم يتسلقون جبل النور حبا في رسول الله الكريم , والمشهد موصوفا بحب ووجد شديد, تشعره وأنت تقرأ, يقول ابن الصفدي في سياق ذكر المؤلف,استغفر الله إلا من محبتكم …….. فإنها حسناتي يوم ألقاه……. فإن زعمتم بأن الحب معصية……فالحب أحسن مايعصى به الله, يقول الزمخشري في ( الجبال والأمكنة) واصفا معركة الحجاج ونصبه المدافع فوق جبل أبي قبيس لقتل الزبير ورجاله, أن جزء كبيرا من الكعبة المشرفة التي حرم الله القتل فيها ومن إحتمى بها كان آمنا -تهدم, يعود مرة أخرى المؤلف لجبل أحد بفصل صغير, وكأنما تحرك شوقه ثانية فيستعرض دفن شهداء المسلمين الأجلاء به, ويسوق واقعة إحساسه الخاص به بأنه حزين–ويراه تكسو قمته غلالة تميل إلى السواد – وكأنه الحداد على الأحباب الذين رحلوا, ويعرج الهلال على التوباد- جبلا ملهما للشعراء– وأجهشت للتوباد حين رأيته……وكبر للرحمن حين رآني…..وأزرفت دمع العين لما عرفته……. ونادى بأعلى صوته فدعاني…… قلت له أين الذين عهدتهم….. حواليك في خصب وطيب زمان……فقال مضوا واستودعوني بلادهم…..ومن ذا الذي يبقى من الحدثان…..وإني لأبكي اليوم من حذري……غدا فراقك والحيان مؤتلفان, ثم يذكر الكاتب حكايات الأصفهاني وقيس وليلى وابن هشام وغيرهم حوله, ولا يفوت المؤلف خير ختام بجبل المقطم وحميثرة, جبلي الأعاجيب والحكايات الكثيرة الموثقة, مكان قبر الزاهد ابو الحسن الشاذلي, ومرقد الأبرار, يسوق محمد هلال حكاية المقوقس– حين سأل ابن العاص أن يبيعه الجبل, عارضا قول الإمام الليث وسخاء الجبل , ومكرمة جوده وروايات المؤرخين حولها, ثم يذكر أصحاب القبور به, وأحكام وأحداث مرت في أزمان الدول الغابرة, كان الجبل في معظمها بطلها, ويعرج على أسماء المناطق والحارات حوله, وسمعتها وأصحاب الديانات بها, وترتقي روح القطب الشاذلي إلى الله ويدفن في حميثرة, ويعمر المكان بمسجد وقرية تحمل اسمه, وأشواق متجددة كلما جاء ذكره,تنتهي رواية بطلها الليل المنسب بكل وثائق الإنتساب والكرامة والشرف, التي حرص المؤلف محمد هلال بالحصول عليها وذكرها عبر 278 صفحة رصينة ذكية, وفخمة بكل أشكال الفكر والفلسفة والمعرفة.
للمؤلف العديد من الروايات والكتب البحثية والقصص القصيرة منها -أرض المراغة, أسرار موت جمال عبد الناصر, الحلم مجموعة قصصية, ماتيسر من سيرة العشق, عطش الشيطان, أهل الليل, الباب الأخضر, صانع الآلهة, درب البهلوان, أشواق الزنزانة.
والمؤلف حاصل على درع نقابة الصحفيين
وجائزة نجيب محفوظ للرواية – من المجلس الأعلى للثقافة عن رواية أرض المراغة عام 1996.