23 نوفمبر، 2024 11:14 م
Search
Close this search box.

أنغام بغداد .. أوائل القرن العشرين الرهيبة (2-2)

أنغام بغداد .. أوائل القرن العشرين الرهيبة (2-2)

كتب – علي عبد الأمير*

كنا نشرنا الجزء الأول من مقالة للكاتب علي عبد الأمير نشرها في موقعه الشخصي على الانترنت، وتناول فيها بدايات الموسيقى والأنغام البغدادية أوائل القرن العشرين. اليوم ننشر الجزء الثاني من المقالة.

ظل “مقهى الشط” في ذاكرة البغداديين، من أشهر مقاهي بغداد منذ نهاية الحكم العثماني والفترة الأولى من الاحتلال البريطاني حتى العهد الملكي، ففي أربعينيات القرن العشرين وقبل ان يختفي هذا المقهى، كان في مقدمة مقاهي النخبة البغدادية في الرصافة. يقع عند مدخل جامع الخفافين في منطقة المصبغة المطلة على دجلة على بعد قريب من جهة المدرسة المستنصرية المطلة على النهر، وهو أيضا مجاور لمقهى الخفافين الاقدم منه عمرا والذي مضى عليه أكثر من 300 عام.

المقهى بوصفه مسرحاً موسيقياً

واستمد “مقهى الشط” اسمه من شاطيء دجلة، فأصبح موقعاً اجتماعياً وترفيهياً وسياحياً، فالمقهى كان طابقا علوياً وآخر سفلياً، مما جعله مهنيا عبارة عن مقهيين كل واحد لمالك. فالسفلي يعود إلى الحاج علي، اما العلوي الذي أصبح ملهى ليلاً (تياترو) فكان يعود إلى حسن صفو، وهما شخصيتان معروفتان في اوساط المقاهي البغدادية وما اكثرهم في ذاك الوقت! حيث كان المقهى المكان الثاني بعد البيت يأوي اليه البغداديون للهروب من إيقاع حياتهم اليومية.

كان المقهى ذا شرفة على دجلة، حيث يكون النهر دائما في متناول “نظر الجالس يمتع بصره بأجواء شط دجلة وحركته الحافلة بالصيادين ووسائط النقل النهري من قفف ومهيلات وزوارق صيد واكلاك تنقل الخضراوات والفواكة وأصوات الطيور والصيادين وغنائهم، والسقائينوالعابرين من هذه الضفة الى الأخرى. فنهر دجلة شريان الحياة في بغداد الممتدة على ضفتيه، وما أكثر غضبه عليها تلك الأيام حين يفيض فتغرق محلاتها بطوفان مياهه“.

كان يدير هذا او هذه المقهى (1)، اثنا عشر عاملاً من المهرة في خدمة الزبائن. وأصبح واحدهم بمرور الزمن على معرفة بجميع الزبائن الذين يرتادون المقهى، يعرف مواقيت مجيء هذا وذهاب ذاك، وأخبار الميتين والأحياء منهم وأخبار المدينة وما يتداوله الزبائن من حكايات، والأحوال التجارية، ومن ربح ومن خسرمنهم، ومن تزوج ومن طلَق، كما كان كل عامل يعرف

طلبات كل زبون وما يحب أن يشرب، ومقدار السكر في قدح الشاي أو من دونه.

وفي الليل يضاء مقهى الشط بالفوانيس (اللوكسات) المستوردة من ألمانيا، وهي كبيرة الحجم لا يوجد مثلها في بغداد غير القليل، ويختص بإضاءتها عامل من العمال دون غيره.

كانت وجوه بغداد المعروفة تلتقي فيه أمثال عبد القادر باشا الخضيري وهو صاحب مراكب ترسو أمام المقهى وقاسم باشا وحسن باشا والحاج علي الجلبي وعبد القادر دلة صاحب خان دلة، وهو من اشهر خانات بغداد وابراهيم صالح شكر والشاعران الرصافي والزهاوي في بعض الأوقات.

كما كان ملتقى جماعة من الأدباء والفقهاء البغداديين أيضا (2)، ولم يتركوا ارتياده إلا بعد ذلك اليوم الذي انفجرت فيه قنبلة صغيرة في ركنهم الذي كانوا يجلسون فيه. أيامها (في أواخر الاربعينات) كان الوضع في بغداد متوتراً بسبب خطط خفية تدفع اليهود للهجرة فكثرت الأعمال العدائية ضدهم لغرض دفعهم إلى الهجرة نحو اسرائيل، فقد كان بعض اليهود يرتادون هذه المقهى خصوصا فرقة الجالغي البغدادي التي يشكل اليهود أغلب عازفيها، والتي حولت المقهى إلى مسرح موسيقي دائم.

في ليالي رمضان وبالأخص حين يصادف شتاءً، كان المقهى التحتاني يشهد سهرات الغناء التي يحييها (الجالغي البغدادي) بقيادة قارئ المقام اليهودي يوسف حورش ونخبة من الموسيقيين منهم صالح الكويتي ويوسف بتو وعزوري وجميعهم من اليهود. فيما كان الجمهور يقبل على قارئي المقام أحمد زيدان ورشيد القندرجي الذي كان صوته وهو يغني يسمع في الكرخ حيث الضفة الأخرى من النهر.

اما المقهى الفوقاني ومسرحه الذي يشهد حفلات التياترو الراقصة مرتين يوميا عصراً ومساءً، فهذه الحفلات تحييها راقصات ومغنيات ذاك الزمان الشهيرات، أمثال طيرة وفريدة وغيرهما. فمقهى الشط من المقاهي القليلة التي كان يسمح لها بالبقاء مفتوحة صباحاً ومساءً ايام شهر رمضان، وكانت كل مؤونتها من شاي وسكر ونومي بصرة وأخشاب وتبغ يمكن الحصول عليها مجاناً عبر زبائنها من التجار الموسورين.

أول صف لتعليم العزف على العود

وقبل ذلك، شهد المقهى ذاته وتحديداً في العام 1918(3)، حواراً عن حدث ثقافي مغاير حملته إحدى الصحف البغدادية، وجاء فيه: ” بما إن الموسيقى هي من أبدع الفنون الجميلة التي ننافس بها ابناء العصر القديم والحديث، وهي لغة الروح التي تملأها لذة وطربا، أعلن للعموم أني علي مصطفى

العواد الشهير باني مستعد لتعليم الضرب بالعود – في المسافرخانة (الفندق) التي هي بجوار “قهوة الشط” من الساعة الرابعة الى الساعة التاسعة عربية، فعلى عشاق الطرب، أن يشرفوا هذا المحل فيجدوا ما يسرهم من حسن التعليم بأسرع وقت“.

وفي الحوار:

هل سمعت اعلان هذا الكافر ابن الكافر، بس عايزة يعلن افتتاح مدرسة للرقص!

ليش ماتدري أكو مدرسة للرقص؟ تتذكر الشعّار الراقوص يحيى زكريا اللي فتحله مدرسة بالميدان قرب سوق الهرج وقام يعلم بيها الصبيان الرقص؟

هذي من محاسن الانكليز يجيبون لنا الرواقيص ويخلون الناس تترك العبادة والصراط المستقيم وتقوم ترقص مثل الشواذي (القرود)، بس خليهم، تدرون ليش؟

ليش؟

لان جهنم بحاجة الى حطب، دائما تحتاج الى حطب من ذولة الكفرة.

بس انت هواية رايح زايد، انا سمعت علماء (دين) يقولون الموسيقى مو حرام بالإسلاماذا كانت محتشمة. أهل قبل وحتى في زمن الرسول هم كانوا يغنون ويرقصون بالأعراس والأفراح والولادات.

ماكو موسيقى محتشمة وموسيقى غير محتشمة. الموسيقى كلها غناء الشيطان.

أعارضك وأخالفك بالرأي، انت رايح زايد، ماتقولي هذولة اللي يقرون بالعزيات والمواكب الدينية عندكم وبالمواليد والمناقب النبوية وبالآذان والتسابيح وبتجويد القرآن موأصوات واداء موسيقي وألحان مختلفة؟ بعدين ماكو نص قرآني يمنع ويحرم الموسيقى!

لكن العلماء حرموها.

احنا موكلشي يقولونه البعض من ذوله نعتبره نص منزل، قد يفسرون الآيات على كيفهم وحسب فهمهم. بعدين انت من اشد المؤيدين للخلافة العثمانية وضد الانكليز، وانت تعرف الولاة العثمانيين في بغداد كانوا هم أهل الطرب والحفلات الغنائية ليش ما حرمت حفلاتهم ووناساتهم وأجواقهم الموسيقية؟ ليش بس حاط زورك مع زور الانكليز؟

خلاص، خلاص بعد ما اتكلم، مادام اسماعيل أفندي قاعد لي قوس ونشاب! روح يابه روح اتعلم عود عد هذا صاحبك يم قهوة الشط، وخلي العود يفيدك، بعدين لما يجيك منكر ونكير شراح اتقول لهم؟!

انت شمدريك ياملا يمكن منكر ونكير اللي راح يجوني للقبر يمكن يحبون الموسيقى أحسن منك؟ (يضحك المتحاوران والسامعون من رواد المقهى).

المصادر:

1المؤرخ والصحافي البغدادي فخري الزبيدي.

1المؤرخ عباس بغدادي، “بغداد في العشرينات“.

3زهير الدجيلي، ” القبس” الكويتية 28 أيلول/سبتمبر 2006.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة