14 نوفمبر، 2024 5:21 م
Search
Close this search box.

أنغام بغداد .. أوائل القرن العشرين الرهيب (1-2)

أنغام بغداد .. أوائل القرن العشرين الرهيب (1-2)

كتب – علي عبد الأمير*

كتب الكثير عن التأثير الحاسم للحرب العالمية الثانية على العراق المعاصر، سياسة وفكراً ومجتمعاً، لكن لم يصاحب هذا بحث مماثل عن التأثير الحاسم الآخر على العراق المعاصر ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديداً ما حمله الغزو البريطاني للبلاد 1914-1917 من متغيرات جوهرية لا قيام الدولة العراقية المعاصرة 1921 وحسب، بل ما ترتب عليها من صدمات حضارية – ثقافية عميقة تمت عبر معضلة الإتصال بالعالم المعاصر الذي بدا العراق غافيا عنه طويلاً، حين كانت تتحكم بالوعي الثقافي عوامل مناهضة للتطور سياسياً واجتماعياً.

ومن بين أبرز ملامح الاتصال “الجديد” مع العالم، كان الانفتاح على وسائل الثقافة الجديدة، ومن بينها أسطوانات الموسيقى، سماعاً وانتاجاً.

فلم يعرف الجمهور البغدادي(1) وسائل الترفيه والتسلية سوى النزهات في البساتين والحدائق في المناسبات. وكانت النزهة محظورة على النساء حتى وقت متأخر عشرينات القرن الماضي، لكن وسائل التسلية واللهو كانت مباحة للرجال والمقتصرة على المقاهي ومايقدم فيها من حفلات غنائية وموسيقية.

لقد دخل الفونوغراف أو “الصندوق المغني” بغداد في عام 1893. وهو صندوق كان يذيع الأسطوانات الموسيقية القيرية القديمة كما كانت تسمى في أول ظهورها وقبل أن تظهر الأسطوانات بشكلها الحديث البلاستيكي بعد عام 1925.

وظل الفونوغراف فضلا عن أغلب الوسائل الحديثة (التليغراف، السينما، الراديو) بعيداً عن عامة الناس ولم تدخل حياتهم أنما اقتصر استعمالها على النخبة من الحكام العثمانيين ولاحقا البريطانيين وأداراتهم الحكومية.

ولم يقترب منها الناس إلا بعد عام 1925. أي بعد مرور مايقارب أربع سنوات على تشكيل الحكومة العراقية بزعامة الأسرة الهاشمية، والبدء بتأسيس دولة حديثة كانت أقرب إلى المستحيل لكون “الملل والنحل العراقية متفرقة ويصعب جمعها وقيادها”، كما قال الملك المؤسس فيصل الأول في رسالته المتألمة على أحوال العراق والتي دوّنها أواخر حياته.

ومع استخدام “الفونوغراف” او مشغل الأسطوانات في بغداد منتصف العشرينات، كان عاما 1926 و1927 سجلا انتشار الاسطوانات في بغداد بعد قيام “شركة بيضافون” بانتاج أسطوانات لأشهر مطربات ومطربي ذاك الزمان، لكن هناك جهات غير مرخصة راحت تصدر انتاجها النغمي بأصوات عراقية متنوعة ودخلت للأسواق شركات صغيرة مختلفة، و”راح هواة الطرب يتداولون أسطوانات تحمل أغاني عراقية خلاعية وجنسية”(2).

الأسطوانات المنافية للآداب العامة!

ما سلط الضوء على هذا النشاط البغدادي في مجال اصدار الأسطوانات، هو حكم قضائي حول ما سمي بقضية “الأسطوانات المنافية للآداب”، فقد نشر الاعلان التالي في صحف ذاك الوقت من عام 1926:

“نظرت محكمة الجزاء في العاصمة في الدعوى المقامة ضد المغنية جليلة وزملائها، بناء على نشرهم الأغاني المخالفة للآداب في اسطوانات الغرامفون، واصدرت الحكم بالحبس العادي لمدة ثمانية ايام على جليلة وعشرة ايام على المغني اسماعيل أمين وخمسة عشر يوما على جليل خليل وعلى كل من داود عزرا حكاك وحسن ابراهيم بغرامة 100 روبية ومصادرة الأسطوانات التي تحمل أغنية “هيموني هالبنات” وذلك وفقا للمادة 203 وبدلالة المادتين 54 و25 من قانون العقوبات البغدادي”.

ما يبعث للنفس سرورها وللقلب أنتعاشه

قبل ذلك بعام، شهدت بغداد حدثاً لافتاً تمثل بإعلان “شركة بيضافون” انتاج أسطوانات لجميع مطربات بغداد وطربيها المشهورين ثم لآخرين من مدن البصرة والناصرية والموصل، وقد نشرت الشركة هذا الأعلان في الصحف البغدادية الصادرة آنذاك وفيه:

“تعلن شركة بيضافون كومباني أبو غزال لأصحابها بطرس وجبران بيضا. فهي رأت إن محبي الطرب في العراق وضواحيها محرومون من كل ما يبعث للنفس سرورها وللقلب أنتعاشه، وبعد درس الأسباب تبين لها أن هناك سببين وجيهين:

1.عدم وجود اسطوانات غناء من القراء العراقيين الممتازين.

2.غلاء الفونوغرافات.

وعليه اشترت أصوات أشهر المطربين العراقيين ومن بينهم مطرب العراق السيد محمد القبانجي ومطرب الموصل السيد سلمان الموصلاوي. وانشأت لها محلاً في خان دلة ببغداد لبيع الجملة والمفرد، وكذلك فونغرافات بقيمة 50 روبية”.

تغيرات ثقافية

لم تمثل الآلات الحديثة معلم التغيير الوحيد، بل ما رافقها من تعبيرات ثقافية لم يكن التصريح بها أمراً شائعا، ففي اعلان “بيضافون” نتوقف عند البوح عمّا “يبعث للنفس سرورها وللقلب أنتعاشه”، وما يعنيه هذا في مجتمع ظل نهباً لسطوة رجال دين مسلمين يرون في الموسيقى حراماً وشراً كلياً. ليعقب هذا اعلان جريء وقّعه مدير “مدرسة التفيض الأهلية”(3) هو في حقيقته اعلان في محبة الطرب وفيه:

“ما أطول النهار على الكاسبين والعاملين في سبيل تنازع البقاء، وما أمرّ هذه الحياة وأعظم متاعبها إذا لم يكن هناك ما يبدّل هذا العناء باللذة وذلك اليأس بالأمل، وتلك المرارة بالحلاوة، فاذا أردت ذلك فاقصد قهوة الشابندر قرب الاكسكخانة كل ليلة فان هناك أعظم جوق موسيقي يصدح بأنواع الآلات والألحان، وان ريع بعض الليالي خاصة لمدرسة التفيض الأهلية، فلا شك في أنك لاتبالي بتطمين أذواقك مقابل أربع آنات مع قيمة القهوة”.

المصادر:

(1)و(2): زهير الدجيلي، ” القبس” الكويتية 28 أيلول/سبتمبر 2006.

(3): جريدة “العراق” 1926.

*المقالة مأخوذة من الموقع الشخصي للكاتب.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة