14 نوفمبر، 2024 3:37 م
Search
Close this search box.

أنسي الحاج.. حين يخترع الشعر نافذة في العدم على الفردوس

أنسي الحاج.. حين يخترع الشعر نافذة في العدم على الفردوس

خاص : كتبت – سماح عادل :

“أنسي الحاج” شاعر لبناني.. ولد عام 1937، في قيتولي، قضاء جزّين.. والده “لويس الحاج”، كان يعمل في مجال الصحافة والترجمة، ووالدته “ماري عقل”.. تعلّم “أنسي الحاج” في مدرسة “الليسيه” الفرنسية، بعد ذلك درس في “معهد الحكمة”، في 1975 تزوج “أنسي الحاج” من “ليلى ضو”، وأنجب منها طفلين، هما “ندى ولويس”.

الكتابة..

عام 1956، نشر مجموعة من القصص القصيرة وبعض الأبحاث، بالإضافة إلى مجموعة من القصائد، وفي نفس العام التحق “أنسي الحاج” بالصحافة اليومية، حيث عمل بجريدة (الحياة)، بعد ذلك عمل بجريدة (النهار)، وبعد فترة قصيرة أصبح مسؤولاً عن الصفحة الأدبية.

من 1964 إلى 1974 أصبح “أنسي الحاج”، القائم على الملحق الثقافي الإسبوعي عن جريدة (النهار)، وفي 1975 شارك في تأسيس مجلة (شعر).. كما كان “أنسي الحاج” يترجم الأعمال الأدبية، فترجم أعمال كل من “شكسبير ويونيسكو ودورنمات وكامو وبريخت”.. له ستّ مجموعات شعرية: (لن) 1960، (الرأس المقطوع) 1963، (ماضي الأيام الآتية) 1965، (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) 1970، (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) 1975، (الوليمة) 1994. وله كتاب مقالات في ثلاثة أجزاء هو: (كلمات) 1978، وكتاب في التأمل الفلسفي والوجداني هو: (خواتم)، في جزئين، 1991 و1997. تُرجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والبرتغالية والأرمنية والفنلندية.

الذات هي الهدف..

عبر حوار مع “أنسي الحاج”، في مجلة (ديوان) الصادرة في برلين بالألمانية، نشر في جريدة (الحياة)، أجراه معه الشاعر “عقل العويط”، يقول “أنسي الحاج” عن شعره، الذي وصف بأنه يواجه المحرمات: “لا أرى أني ذهبت إلى الحد الأقصى، هنالك مناطق أخرى كثيرة لم ألجها، ليست المسألة مسألة محرّمات، بل حتى ليست مسألة صدق وجرأة، إنها قضية أن يعتصر المرء حياته بيديه، بقلمه، فلا يبقى رأسه خارج نطاق تعبيره ولا حلمه أكبر من حياته. لم يكن كسر القيم السائدة غاية عندي بل الغاية كانت وما زالت هي البحث عن الحقيقة وكسب المزيد من الحرية وتحقيق المزيد من الحب والمتعة والسعادة. هوس كهذا لا بد من أن يصادف الممنوعات ولا بد إما أن تقمعه أو يحطمها. إن هدفي كان دوماً هو الذات الإنسانية ولم أنظر إلى الخارج إلا بقدر ما يتصل هذا النظر بغذاء الذات أو حمايتها من الاعتداء”.

نافذة في العدم..

يضيف “أنسي الحاج ” عن الشعر: ” إذا لم يخترع الشعر نافذة في العدم على الفردوس فلماذا الشعر؟ ومن أين ينبع إن لم ينبع من التوق؟ وما التوق إن لم يُضْمر الحب؟ سفر الجامعة في الكتاب المقدس، وكتابات عدة غيره سومرية ومصرية قديمة، جمعت بين عدمية وإشراق، وبين يأس وسعادة. فلسفات وآداب عدة، لا تقتصر على الأبيكورية والرواقية، بل ثمة في المزامير وسفر أيوب ونشيد الأناشيد، واغوسطينوس، وباسكال، ودو ساد، وبودلير، ورامبو، ودوستويفسكي، ونيتشه، وبروتون، وكامو، وايلوار، وسيمون فايل، وغيرهم في الشرق والغرب، من ساروا على دروب متشابهة في هذا المعنى، دروب الرماد والفجر، الفراغ والملء، العبث والمعنى. ما أكرم الكاتب الذي يجعلني أكبر فوق هذا وأغدو أجمل منه، وإن لم يكن هذا، فما أكرمه وهو يساعدني، بخلقه وحبه ومعاناته، لكي استشرف آفاقاً أرحب وأطلّ على الأمل. لقد اجتزت زمناً كان زمن العدمية الصارخة عذابها، ولكني وأنا اجتازه وأدوّي بصوره وصراخاته كنت أشعر أن هناك في صدري إلى جانب اللعن والترويع ما يريد أن يخرج، ضوء يريد أن يخرج بعد العتمة، إلى جانبها. في زمن لاحق عشت وكتبت مرحلة الخلاص والتجلي بالحب”.

وعن اللغة التي يعيد خلقها في شعره يقول أنسي الحاج:” لغتي هي إيقاعي وأنفاسي. إنها حربي وسلامي. إنها موسيقاي. لغتي هي كلماتي وأيضاً وجهي وحركاتي وشكل نومي. إن كل كلمة أكتبها كائن يتقدم كذبيحة. لهذا فقد أهزأ بواسطتها وأجدّف، وأعبث وأرتكب الجموحات، إلا الهبوط بها نحو المنحدرات الحقيرة”.

لبنان حرية..

عن وطنه يقول”أنسي الحاج” : ” لبنان اسم من أسماء الحرية ولا أهمية له خارج ذلك. لا أهمية للبنان كدولة وسياسة ومجتمع. هذه كلها زالت وعادت وتزول وتعود. لبنان هو فكرة عن الحرية لا حدود لها وممارسة لا مثيل لها في هذا الجزء من العالم. هذه الفكرة وممارستها كانتا موجودتين في لبنان القديم منذ ما قبل تسميته النهائية بلبنان، وكل الغزوات التي توالت عليه لم تستطع تغيير هـذه الحقيقة. لا الاحتلالات ولا الكوارث ولا الهجرات. الحرية هي ميثولوجيا لبنان ماضياً وحاضراً وهي ديانته ولا شيء يستطيع أن يمنع استمرار ذلك في المستقبل”.

فقدان الأم..

في حوار مع “أنسي الحاج” أجرته الشاعرة “لوركا سبيتي” في برنامج صوت الشعب يقول عن زمن الطفولة: “أنا من بلدة قيتولي في قضاء جزين (جنوب لبنان). لكنني ولدت في بيروت، وسكنت مع أهلي في حيّ خندق الغميق. كان الحيّ مزيجاً من كل الطوائف، من الأرمن، الأكراد، السريان، المسلمين شيعة وسنة، ومن المسيحيين. وكان فيه كنائس وأديرة، وما زالت كنيسة السريان قائمة إلى اليوم، وأيضاً مدرسة الفرنسيسكان للراهبات. أذكر دكاكين باعة الخضار، وعلى بعد أمتار منها الـ “المسرح الكبير” الذي يمثل تاريخاً مهماً، وفي مقابله “دار المكشوف”، التي نشرت الكثير من الكتب اللبنانية المهمة. كانت بيروت حينها “ملمومة” على بعضها بعضاً، وكان شارع واحد يضم كل الناس. أمي توفيت عندما كنت في السادسة، وكانت قد أنجبت أربعة أولاد؛ صبيّان وبنتان. ثم تزوّج والدي وأنجب ستة أولاد، فأصبحنا عشرة. أبي كان من الآباء الكادحين، وعمل في أماكن عدة ليؤمّن تكاليف تعليمنا في مدارس راقية. لم أره يوماً بلا عمل، فحتى في البيت كان يعمل. كان يكتب، ويترجم، ويمارس الصحافة بين جريدتي “النهار” و”المكشوف”. لا أدري إن كانت طفولتي سعيدة أم حزينة، لكنّها كانت مخطوفة. لم أكن أملك الوعي الكافي لأعرف ما إذا كنت فرحاً أو حزيناً، لكن حين توفيت أمي، قرّرت ألا آخذ علماً بوفاتها، وقرّرت عبر نوع من النسيان اللاإرادي أنّها لم تمت”.

وعن الحرية يقول “أنسي الحاج”: ” الحرية موضوع طويل. لقد بدأت كتاب “لن” بكلمة “أخاف” وأنهيت آخر قصيدة بكلمة “حرية”، أي إنّني لا أريد غيرها لأنه لا يوجد غيرها. وفي إحدى قصائدي، أقول إنّ الحرية أجمل من الحب، وبمعنى من المعاني هذا صحيح. الحرية أكثر راحة من الحب، فلا غيرة ولا ما يشبهها”.

الحرب الأهلية..

عن الحرب الأهلية يحكي”أنسي الحاج” عن تجربته خلالها: “أنا من أوائل الذين كتبوا متغنين ومادحين للمقاومة الفلسطينية، حتى قبل ظهور ياسر عرفات علناً. وأول عملية مقاومة حدثت كتبت عنها في مجلة «كلمات»، استمررت في مدح المقاومة الفلسطينية إلى حد أنني اعتبرتها الحلّ لكل الأنظمة العربية المهترئة التي يجب عليها التعلّم من هذه المقاومة حتى تصبح شبيهة لها. ليس فقط من حيث السلاح إنما أيضاً من حيث الثورة والشباب الطاهر. ولم تكن هذه نظرتي وحدي، فقد كونت لها شعبية هائلة في الوطن العربي. لكن حين حدثت ما سميت حينها «التجاوزات الفلسطينية» أحسست بالخوف. كان خوفاً على الفلسطينيين من قيام مؤامرة لبنانية ضدهم، وبالتحديد مؤامرة لبنانية مسيحية. وخوفاً من أن يصبح رد الفعل فعلاً في أماكن معينة كالدفاع الذي يصبح هجوماً، بعد الحواجز التي أقامها الفلسطينيون في تل الزعتر والنبعة، والذبح على الهوية، علماً أنّ الفلسطينيين هم الضحايا فكيف أصبحوا جلّادين؟! حينها أحسست أني انقسمت شقفتين. ولم أعد أعلم أين أنا. كتبت حينها افتتاحية في جريدة «النهار» بعنوان: «كلنا ضحايا». أنا مع الضحية أينما كانت. مع الضحية اليوم في سوريا. والمصادفة في لبنان أنّ كلهم ضحايا، وعيب عليهم أن يتقاتلوا وقد وقعوا معاً في الفخ بمنتهى السذاجة والجهل”.

ويضيف عن سبب الحرب الأهلية: “أكيد مؤامرة خارجية. عن أي حتمية يتحدثون؟ لقد ثبت مع الزمن أنّه عندما كفّ المسيحيون عن الوقوف ضد مواجهة الفلسطينيين، وفهم الفلسطينيون أنّ المسيحيين ليسوا ضالعين في مؤامرة لإلغائهم، انحسرت القضية بين المسيحيين والفلسطينيين، ووكلت بالتنكيل بالفلسطينيين أطراف مسلمون وعرب لا المسيحيون اللبنانيون. كان لبنان المستهدف دائماً، والفلسطينيون بالدرجة الأولى”.

وعن سؤال ماذا فعلت في الحرب؟ أجاب “أنسي الحاج”: “توقفت عن الكتابة والعمل عام 1976، رأيت أن الصحافة انتهت بمجرد دخول الجيش السوري إلى لبنان. عندما دخل الجيش السوري إلى لبنان وقام الرئيس اللبناني آنذاك سليمان فرنجية بالإعلان عن وثيقة دستورية مع نظيره السوري حافظ الأسد، رأيت حينها أنّنا انتهينا، ولم يعد هناك لبنان أو بالأحرى لم يعد لدينا صحافة. البلد عانى حينها أزمة مالية هائلة، وانخفضت كمية المبيعات في «النهار»، ولم يتمكنوا من الوصول إلى المناطق لتوزيع الأعداد، فبقيت في بيروت. صرت أتقاضى حينها نصف معاش، ثم أصبح ربع معاش «ويكتر خيرهم» لأنهم ظلوا يدفعون لي”.

قصيدة النثر..

عن قصيدة النثر يقول “أنسي الحاج”: “هناك استسهال وأفكار خاطئة عن قصيدة النثر ولا نستطيع دائماً أن نذّكر بمبادئ قصيدة النثر، حتى وصلنا إلى حد أنّ كل من يرغب في كتابة مذكراته يعدها قصيدة نثر، أو كل من يريد أن يرسل رسالة إلى حبيبته يعدها قصيدة نثر. وكل من يريد أن يقول «نكتة» في مقهى على نحو «مرت ذبابة فوق رأسي وكانت خضراء لا سوداء» يعد ما يقوله مبرراً كافياً لوضعه في كتاب وإعطائه عنواناً. الأمر ليس كذلك، والكتابة ليست نهفة. الفن عدو النهفة وعدو النكتة. لا يمكن الاستناد إلى نهفة لإنشاء قصيدة. القصيدة تحتوي على الطفولة وهناك فرق بين الطفولة والبراءة والسذاجة، التي هي رائعة في الكتابة والفن، وبين من يسعى إلى إضحاك مستمعيه”.

غياب النقد..

حول رأيه في النقد الأدبي يقول: “المشكلة تكمن في غياب النقد، لكنني لا أريد أن أبالغ، فهناك نقاد جديون وهم أساتذة جامعيون ممتازون، لكن للأسف فهم منهمكون بالتدريس والإشراف على أطروحات طلابهم وهم نادراً ما يكتبون”.

أزمات القصيدة..

في حوار مع “أنسي الحاج” في جريدة “الاتحاد الثقافي” يقول عن أزمات القصيدة: “أزمة الخلق (الصناعة) هي أزمة الخالق (الصانع)، والخالق (الصانع) متأثر بعوامل كثيرة، منها زمنه ومحيطه، لكل وقت أزمة، الأزمة ليست هي المشكلة، المشكلة هي نوع الأزمة وفي من يواجهها.عندما غامرت بقصيدة النثر، كان التحدي كسر طوق التقليد، طوق ضخم ويلقى مباركة الجميع، وتقليد عريق ومقدس، لكن الدافع لم يكن التحدي، التحدي كان شكل الظرف التاريخي، الدافع كان داخلياً. أقصد كان لديَّ ما أقوله في الشكل الذي قلته فيه، وكان دافعاً قوياً والتحدي زاده قوة، لا تحدي التقليد فحسب بل تحدي الإتيان بشيء جديد تماماً. إذن لكل وقت أزمة ولكل وقت تجديد، ولكل وقت تحد، وربما تحديات. القصيدة لم تكن ولن تكون معطى ثابتاً جامداً، إنها كائن مفاجئ، تتكثف فيه الحياة أكثر مما في جسد حي، أكثر مما في جيل كامل، أحياناً، لذلك هي دائماً في أزمة، بمعنى أنها دائماً في معاناة الخلق، في لهب استعارة، في مراحل تطوره على طريق جلجلة لا حياة من دونها. الشعر في أزمة مقيمة كما أن كل بحث وجداني- فني هو كذلك، الأزمة سمة القلق، ولا شعر بلا قلق، لا شيء بلا قلق، حتى الإيمان لا يعيش بعيداً عن القلق، لا يتوقف الهجس والقلق والتوتر إلاّ بالموت، ولا أعرف، ولا أحد يعرف إذا كان الموت يوقفها حقاً أم أنها من هناك تنتقل إلى شكل آخر”.

عابرا للغة والعيش..

يقول الشاعر اللبناني “شوقي بزيع” عن “أنسي الحاج”: “يشهد لأنسي أنه كان عابراً للأساليب واللغات ولطرائق الكتابة والعيش، ومتصلاً بالإنسان في أعمق ما يملكه وأعني به القلب. استعيد من خلال أنسي الآن تلك الأناقة الباذخة في جسده وروحه. استعيد تلك الهامة المرفوعة، تلك الابتسامة التي سرعان ما تتحول إلى قهقهة عالية تشيع طاقة على الفرح أينما حلّت. وأستعيد من خلاله ذلك الوفاء لمن عرفهم. بالنسبة لأنسي على الصعيدين الوطني والأدبي أرى فيه جزءاً لا يتجزأ من صورة لبنان التي طالما حلمنا بها، والتي عرفنا بعضاً منها في الستينيات، وكان شكل أنسي نواة صلبة لها، وجزءاً من متنها وإطارها في آن. كلما فكرنا بأنسي الحاج فكرنا بتلك الصورة الزاهية بالمعنى اللبناني. فكرنا بالشعر المغاير والمختلف، وباللغة الثرية المتجددة. ويجب أن نقول أن اللغة العربية قبل أنسي الحاج لم تكن كما أصبحت بعده. بمعنى أنه سحب منها كل الزوائد. حماها من الترهل والانشائيات الرخوة، وأعادها إلى نصابها الحقيقي، حيث الجِدة والمغايرة والاختلاف. ليس فقط لأنه كان رائداً في قصيدة النثر، بل لأن قصيدته النثرية قد تأسست على غير قاعدة أو منوال. شعره كان غير مسبوق في حينه. حينما أحس أنه ذهب للحدود القصوى للجِدة وللحداثة، ومخافة من أن يتصل بالعدم المطلق أو بالصمت المجرد، أو بالقطيعة الكاملة مع المعنى، عاد في أعمال لاحقة مثل “ماذا صنعت بالذهب والرسولة والوليمة” ليقيم مصالحة حقيقية بين الخيال السريالي والخيال التجريبي، وبين القلب المتدفق عاطفة وحنواً. وهذه المصالحة لم تكن لتتم لولا أنه وجد في الأنوثة الركيزة الأساسية للكتابة. أي أن الأنوثة أعادت إليه ذلك الالتحام الحقيقي بمادة الحياة”.

توفي انسي الحاج توفي في يوم 18 فبراير 2014 عن عمر يناهز 76 عام

قصيدة لي حبيبة

أنسي الحاج

لي حبيبة يا صديقي، نام بها الشتاء وأفاق فتّياً، كمجهول قادم من الزهد صوب النار، خالعاً أقفال الاقتصاد والعزلة، يركض كقطعة الذهب المدوّرة إلى مساء الهَمّ وفجر الطيبة.

لي حبيبة ما إن اكتشفتها الأناشيد حتى فقدتْ أثرها.

لي حبيبة يا صديقي أحبّها لأني ما كنت أحسب أنها ستحبني.

لي حبيبة تتكرر كالفعل، والفعلُ نسيان وعذراء.

لي حبيبة تتّحد بي فهل اختبئ منها؟

لي حبيبة بيضاء كصحو الأرض، وعندي متحف وأنا محافظ على وجوه حبيبتي، أنوّرها بالرضى، وبالخصام امنحها الجمال.

لي حبيبة ترافقني بأمانة تأخذني باستقامة من طريق إلى طريق في بلاد العذاب.

لي حبيبة، يا صديقي، وليس لك حبيبة.

* * *

وتضحك وتقول لي: أنت تخترع صفات الحبيبة!

وتغضب وتقول لي كلام النضج والحكمة، كلام الرجال والخبرة.

ويشتد غضبك وتقول لي: أي حب هذا؟

ويشتد غضبك وتقول لي: أنت تضحك من نفسك! ولدٌ أنت! كل النساء زانيات، فلنرض بهذا! الخيال شيء، والواقع آخر، فلنواجه الواقع حتى لا تصرعنا الخيبة!

ولكنك مخطئ يا صديقي، بنسبة ما أنت محق، بنسبة ما أنت خائف…

* * *

لنا الحب يا صديقي، وليس لغيرنا. نحن ملهوفون، وما فينا من الثعالب غير لطافتها. ولو لم نكن عشّاقاً لكنا محابيس الأديار، ومبشّري الأديان، وأنبياء المنفى. روح الزنابق نحن يا صديقي، ونحن وحدنا في الحب.

والعصافير أَفْعَلُ للشر منا…

* * *

نحن نقول: الإخلاص وَهْم، البراءة سراب، الخرافة خرافة، فلنعترف أن الحب ليس الحلم، ولنخرج من الطفولة.

لكننا منافقون.

لأن النجمة التي في السماء هي النجمة التي في القلب.

لأن النجمة الذي في السماء هي القمر الذي في القلب.

لأن البياض الذي في الطبيعة هو لون صفائنا.

نحن في قرارة أنفسنا نؤمن بالحب القديم، الحب الرومنتيكي، الحب الفائض عن الصفات، لكننا نسفّهه لأن العالم حولنا يسفهه، فيجعلنا نبدو أقلية مضحكة.

لقد سحق العالم العفوية، فأَرعبنا. نحن نعرف أننا ضعفاء، أننا مشقوقون بالعواطف مريضون بالجمال، لكننا نُظهر اللامبالاة والخشونة لأننا نخاف الهزء والفضيحة.

كم نحن جبناء، وكم نحن خَوَنَة يا صديقي!

* * *

تقدم خذ شجاعتك، ولنطلق على هذا العالم رصاصة!

كما لا شأن لنا بجزء مجتزأ من الحياة كذلك لا شأن لنا بجزء مجتزأ من الحب.

إمّا نفتحه للنهاية كالأبواب أو نغلقه للنهاية كالأبواب.

بالجنس والروح نسدّده، بالجنس والروح. للجنس تنحني الجبال، للجنس تتشنّج الجبال. للروح أيضاً.

وإذا لم نجد المرأة فسوف نجدها.

وإذا لم نجد المرأة فسوف نخاطبها فتجيء.

كالماء ينقطع من البئر

كالماء يعود إلى البئر…

* *

لنا حياة وليس لنا غيرها. وإذا لم نضطرب بالحب فمتى نصنع ذلك؟

لنا حبّ وليس لنا غيره. إذا احتقرناه فأين نحمل مجدنا؟

أين هي الآن ضحكات التهكّم وشتائم الذين تهكَّموه وشتموه؟

سقطتْ كالحجارة من أعالي القمم، وما اتكأتْ عليها فراشة.

لنا حياة وليس لنا غيرها يا صديقي.

* * *

إذا أكون واعظاً اتنقل من صقع إلى صقع، أجعلهم يئنّون في حشود الساحات، ينشجون كالخاسرين أموالهم، يسترحمون كالمحروقة ديارهم، يصرخون كالمنقوعة أقدارهم في اللعنة،

إذا أكون رسولاً، كلامي كأغصان يتدلّى على القلوب، إذا أكون مبشراً فماذا بغير الحب؟

أليست الشمس فيه والبحر؟

أليست القوة والماضي والميلاد والجلجلة؟

كنت في ما مضى أظن لديّ الوقت

كالبلبل أتوجه بخفّة.

كنت أعاطش العطش وألاعب الألعاب

لأني كنت أظن لديّ الوقت.

لكني أرى كلامي يتقدم سريعاً ويسبقني

ويجب أن أركض وراء النار ان لم تنطفئ

قبل أن تنطفئ النار

وأسجد أمامها سجود الشدّة

وأجيب فافتح كتابي.

وفوق المدينة أقول شرف الحب

وبقدميه اجتاز الحقارة.

* * *

لي حبيبة يا صديقي

وليس لك حبيبة …

1967

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة