16 نوفمبر، 2024 9:54 ص
Search
Close this search box.

أمل دنقل.. من قال لا في وجه من قالوا نعم

أمل دنقل.. من قال لا في وجه من قالوا نعم

كتبت: سماح عادل

كان أول كتاب قرأته حين بدأت طريق القراءة وأنا في الجامعة، قصائد “أمل دنقل”، كتاب من القطع الصغير يحوي جميع قصائده، لم أكن وقتها قد قرأت الشعر إلا في غرض الدراسة، أحسست بتشوش في البداية، ولم أفهم كثير من الكلمات، لكن مقطوعات بعينها كانت تمس أشياء داخلي، تخاطب وجداني، حينها تعرفت عليه ذلك “الجنوبي” وبدأت طريق الفهم.

“أمل دنقل” شاعر مصري كبير، اسمه “محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل”، ولد في 1940 بقرية القلعة، مركز قفط بمحافظة قنا في صعيد مصر، و كان والده عالماً من علماء الأزهر الشريف، سمي “أمل دنقل” بهذا الاسم لأنه ولد بنفس السنة التي حصل فيها والده على إجازة العالمية، فسماه باسم أمل تيمنا بالنجاح الذي حققه.

حياته..

ورث “أمل دنقل” عن أبيه موهبة الشعر فقد كان أبوه يكتب الشعر العمودي، وكان يمتلك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وكتب التراث العربي، مما ساهم في تكوين ثقافة “أمل دنقل”، وقد فقد والده وهو في العاشرة من عمره، وكان قد فقد أخته قبله، وتسبب موت والده في نهب أقرباءه لإرثه وأصبح هو رجل عائلته، ولقد أثر به اليتم وملأ قلبه بحزن طوال حياته.

غادر”أمل دنقل” قريته إلى القاهرة ليلتحق بكلية الآداب ولكنه انقطع عن الدراسة منذ العام الثاني لكي يعمل، بسبب سوء حالته المادية، وقد عمل موظفاً بمحكمة قنا، وجمارك السويس والإسكندرية، ثم بعد ذلك موظفاً في منظمة “التضامن الأفروآسيوي”، ولكنه كان لا ينتظم في عمل ويفضل على ذلك كتابة الشعر.

عرف القارئ العربي شعر “أمل دنقل” من خلال ديوانه الأول “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” الصادر في 1969 الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بهزيمة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارئ ووجدانه.

أعماله..

صدرت ل” أمل دنقل” ست مجموعات شعرية هي:

  1. البكاء بين يدي زرقاء اليمامة – بيروت 1969.
  2. تعليق على ما حدث – بيروت 1971.
  3. مقتل القمر – بيروت 1974.
  4. العهد الآتي – بيروت 1975.
  5. أقوال جديدة عن حرب بسوس – القاهرة 1983.
  6. أوراق الغرفة 8 – القاهرة 1983.

في عيون زوجته..

في كتابها “الجنوبي” تحكي عنه زوجته الكاتبة الصحفية “عبلة الرويني” تقول “محاولة العثور على مدخل حقيقي لشخصية أمل دنقل أمر صعب، حيث نصطدم فيه بعالم متناقض تماما، يعكس ثنائية حادة كل من طرفيها يدمر الآخر، فهو فوضوي يحكمه المنطق، بسيط في تركيبية شديدة، صريح وخفي في آن واحد، انفعالي متطرف في جرأة ووضوح، وكتوم لا تدرك ما بداخله أبدا، يملأ المكان ضجيجا وصخبا وسخرية وضحكا ومزاحا، وصامت إلى حد الشرود، يفكر مرتين أو ثلاثة في ردود أفعاله وأفعال الآخرين، حزين حزن لا ينتهي، استعراضي يتيه بنفسه في كبرياء لافت للأنظار، بسيط بساطة طبيعية يخجل معها إذا أطريته وأطريت شعره، وربما يحتد على مديحك خوفا من اكتشاف منطقة الخجل فيه، صخري شديد الصلابة لا يخشي شيئا ولا يعرف الخوف أبدا، لكن من السهل إيلام قلبه، قلق لا يحمل يقينا، تاريخ معتقداته حافل بالعصيان لكنه غير ملحد، صعيدي محافظ عنيد وقضيته دائما الحرية، عاشق للحياة مقاوم”.

الشعر بالنسبة له..

تقول عبلة الرويني عن أهيمة الشعر له “يكتسب مفهوم الشعر لدى أمل، كبديل للانتحار، معنى الثورة، وحدة الشعر هو التماسك العقلي والنفسي القوي، والاتساق الوحيد والبناء الموضوعي الشديد الإحكام الذي حقق لأمل إعادة خلق العالم المرفوض من حوله من جديد لحسابه الخاص، ولعل أمل أدرك أن قوته الحقيقية هي شعره، ولذلك لم يتخل في أية لحظة من لحظات حياته عن سلاحه الوحيد، كتابة الشعر”.

حين يحب..

تحكي عبلة الرويني عن لقاءها به حيث في عام 1975 كانت صحفية تحت التدريب في جريدة الأخبار وسعت لعمل حوار مع الشاعر المعروف “أمل دنقل” في مقهى ريش، وبحثت عنه كثيرا في الصباح ولم تجده وتركت له رسالة، ثم اتصل بها في جريدة الأخبار وحدد معها موعد للقاء، ومن هذا اللقاء توالت المقابلات ونشأت قصة الحب بينهما، استمرت عامان حتى تزوجا، وكان هو متردد بشأن الزواج بسبب حياته غير المستقرة، فقد كان يحب العيش بدون نظام يقيده، وكان من أشد الرافضين للزواج، لكنه رغم ذلك تزوج بها لأنه أحبها كثيرا.

تقول زوجته في كتابها “كتب لي يوما رسالة طويلة هي”لو لم أكن أحبك كثيرا لما تحملت حساسيتك للحظة واحدة، تقولين دائما عني ما أدهش كثيرا عند سماعه، أحيانا أنا ماكر وأحيانا ذكي، رغم أنني لا أحتاج إلى المكر وإلى الذكاء في التعامل معك، لأن الحب بالنسبة لي وسادة في غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتي، إنني أحب الاطمئنان الذي يملأ روحي عندما أحس بأن الحوار بيننا ينبسط ويمتد ويتشعب، أكثر شيء أخافه هو تربيتك أو بالأحرى حياتك، ففي العادة تبحث كل الفتيات اللواتي لهن مثل ظروفك عن الأمان في البيت والعمل، عن قدرة من القلق والانشغال، وأنا لا ألومك بل وأصنعه لك متعمدا في كثير من الأحيان، إنني أحتاج إلى كثير من الحب، وكثير من الوفاء، وكثير من التفاني، ولكنك لا تعطيني أي شيء، لدرجة أنك إذا أحسست أني محتاج إلى كلمة حب رفضتي أن تنطقيها، إن قلبك مقفر جدا لا يستطيع أن يكون وسادة لمتعب أو رشفة لظمآن”.

كانت علاقة الحب بينهما مليئة بالتوتر والشجار والاختلاف لكنهما رغم ذلك ظلا سويا حتى مات، وكانا لا يفترقان حتى أثناء مرضه الطويل.

إنني أول الفقراء

الذين يعيشون مغتربين

يموتون محتسبين لدى العزاء

قلت: فلكن الأرض لي ولهم

وأنا بينهم

فأنا أتقدس في صرخة الجوع

فوق الفراش الخشن.

 رأيها في شعره..

تقول عبلة الرويني” كان ديوان “العهد الآتي” ومازال برأيي هو أنضج أعمال أمل الشعرية، فكرا، ولغة، ووجدانا، وبناء، إنه يحدد موقف أمل ورؤيته للعالم، ويحدد أكثر مفهوم ومنطلقات الثورة لديه، إن عملية الهدم للعهد القديم والجديد، وإعادة بناء “عهد آت” جديد شكل في الديوان ثورة كلية، كما أن قصيدة “سفر التكوين” بالتحديد هي كتاب العهد الآتي، فهي ليست استحضارا للرب، أو ارتداء أقنعة الإله القديمة ولكنها اكتشاف إله جديدة في ثوب إنساني، حيث يطل التحرك الشاسع من العالم الأبوي المقدس إلى عالم الابن أو الإنسان التاريخي، كنوع من التحول المعرفي، يعني بزعزعة السلطة “المجرد، الإلهي، المطلق” لصالح المشخص العيني “الإنسان، تجربته، حريته”

وتواصل “إن قصيدة “مقابلة خاصة مع ابن نوح” لا تشكل خروجا فقط على الموروث الديني السائد، بل تشكل تعديلا وتثويرا لطبيعته، حيث يطل ابن نوح فيها متمردا عصريا، خارجا من فكرة العقوق السلفي إلى الثورة، خرج أمل دنقل في هذه القصيدة أيضا على ثقافة الطبقات السائدة والأطر الشرعية الجامدة، حين تكتسب رموزها تجسيدا سلطويا بل وعبثيا باطلا يهبط دائما إلى نتائج خاضعة”.

أبانا الذي في المباحث

نحن رعاياك..

باق لك الجبروت

وباق لنا الملكوت

وباق لم تحرس الرهبوت

وتضيف “كسر أمل الاحتقار الذي يكنه الشعراء الجدد للقافية كقيمة موسيقية، كسر الانتماء للمثيولوجيا الإغريقية التي سادت رموز الشعر بالخمسينات، كما كسر احتقار الشعر السياسي الذي ساد في أوائل الستينات، بسبب الانحطاط اللغوي والفني الذي ساد الشعر الوطني بالخمسينات، كما كسر ما يسمى بالمصرية والشعبية في الشعر، بانتمائه إلى الحضارة العربية والشعر العربي، إن عمليات الهدم المستمر كانت مشواره للتحقق سعيا إلى الحرية كغاية ومطلب، ولذا أخذت الحرية كقيمة شكل الصراع وليس شكل التحقق المطلق”.

رفض الانتماء لكيان سياسي..

تقول زوجته “إنه نفسه دائما وليس كما يريده الآخرون، ولهذا رفض كثيرا الانضمام إلى جماعة أو اتجاه أو حزب معين، مؤمنا بحريته الفكرية والسياسية، والتي شكلت الأفكار الماركسية والوجودية الكثير من خطوطها، ولم يكن عزوف أمل مقصورا على المؤسسات أو الجماعات الرسمية، والتي بالطبع كانت تشكل تناقضا جذريا مع أفكاره، بل كان عزوفا أيضا عن المؤسسات الثورية والحزبية، ولقد أتيحت له العديد من الفرص كان من الممكن أن يكون بسببها نجما ثوريا ككثيرين، لكن الأحزاب المصرية في ممارستها ورؤاها السياسية والفكرية كان لأمل موقف صريح منها، بل أن الأمر كان أبعد من ذلك، إنه فهم أمل دوره كشاعر، يتحقق كيانه داخل القصيدة، من حيث هي قصيدة فنية تخدم قضايا المجتمع، يتحقق من خلالها فهمه للوطن والثورة والحرية، كما كان الشعر داخله يدفعه إلى تجاوز كل يقين مؤقت إلى عوالم جديدة، ولهذا وقف دائما مع الحلم ضد الواقع، ومع الآتي ضد الحاضر، مكونا وحده حزبا شعريا، على الآخرين أن يتبعوه ويسيروا وراءه”.

لحظات الكتابة..

عن إحساسه بالقصائد قبل كتابتها وبعد الكتابة تقول “إن القصيدة دائما هي لحظات مستمرة من التوتر، بل هي، كما كان يحلو له أن يردد، “البديل عن الانتحار”، إن رحلته اليومية من الصباح حتى الصباح التالي، منذ استيقاظه ونزوله للشارع واختلاطه بالناس، والأحداث العادية، كانت أشبه برحلة صيد وجدانية، رحلة صيد لقصيدة، موضوعها، رموزها، لغتها، مناخها العام، حتى يمكن القول أن الناس جميعا كانوا مشاريع قصائد لدى أمل، كانت القصيدة تجربة مستمرة حتى تفرض عليه حصارها في لحظة معينة، دون أية محاولة منه لرشوتها أو الإمساك بها، ولقد كانت لحظة كتابة القصيدة هي اللحظة التي لا يسمح أمل لأحد بدخولها سواه حتى تكتمل، إن محاولة الدخول إلى ذهنه، أو حتى السؤال عن فكرة القصيدة الجديدة كانت دائما محاولة غير مسموح بها، ربما وضع بعض الأحرف أو الكلمات التي يستحيل على غيره قراءتها، فوق علبة من الكبريت، أو علبة من السجائر بجواره، أو فوق ورقة صغيرة أو هامش لجريدة، ولم أكن استطيع فك هذه الطلاسم، والتي كانت تأخذ شكل الرموز التي ستكون فيما بعد قصيدة”.

وتواصل “كانت إعادة قراءة القصيدة مجهودا نقديا، بل أكثر أنواع النقد قيمة وحيوية لأمل، ولم يكن يزعجه أن يشاركه أحد قلقه في وضع كلمة بالقصيدة بعد اكتمالها، أو تغيير كلمة محل أخرى، بل أن المناقشات الجيدة كانت تدفعه أحيانا لتعديلات داخل القصيدة”

وتؤكد تقديرا منها لمكانته وأهميته كشاعر” عندما كتب قصيدة “الكعكة الحجرية” تحولت فور كتابتها 1972 إلى منفستو الحركة الطلابية في ذلك الوقت..

أيها الواقفون على حافة المذبحة

أشهروا الأسلحة

سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة

والدم انساب فوق الوشاح

المنازل أضرحة

والزنازن أضرحة

والمدى أضرحة

فارفعوا الأسلحة

واتبعوني

أنا ندم الغد والبارحة

رايتي عظمتان وجمجمة

وشعاري: الصباح

لقد أصبح أمل أهم شاعر مصري، بل واحدا من أكثر الشعراء العرب تميزا من خلال صوته الشعري وحده، وأصبح رغم التعتيمات الإعلامية حوله هو الأعلى صوتا والأكثر تميزا وحضورا “.

وفاته..

أصيب “أمل دنقل” بمرض السرطان وعانى منه لمدة تقرب من أربع سنوات والجدير بالذكر أن آخر قصيدة كتبها هي “الجنوبي”، رحل “أمل دنقل”  في 21 مايو عام 1983م.

قصيدة “لا تصالح” بصوت “أمل دنقل”.

https://www.youtube.com/watch?v=qj4IXxKVxe4

قصيدة “كلمات سبارتكوس الأخيرة” بصوت “أمل دنقل”.

https://www.youtube.com/watch?v=ATpPxx_0qBg

قصيدة “سفر التكوين” بصوت “أمل دنقل”.

https://www.youtube.com/watch?v=-gVddn9Bde0

حوار نادر مع “أمل دنقل” يديره “فاروق شوشه”.

https://www.youtube.com/watch?v=dOT0m8STl6A

 

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة