خاص: إعداد- سماح عادل
“أليفة رفعت” كاتبة مصرية، لها مجموعة من القصص القصيرة التي عكست حياة النساء المصريات في الريف المصري، ترجمت كتبها إلى الإنجليزية والألمانية والسويدية والهولندية.
ولدت “أليفة رفعت” في 5 يونيو 1930، وكانت تأمل في شبابها في الالتحاق بالجامعة، لكن والديها عارضا ذلك، بل وخططا لزواجها، وكان لهذا الحدث تأثير بارز على كتاباتها التي انتقدت فيها الطريقة التي تعامل بها المرأة محتجة على وضع المرأة في بيئة لا تمنحها حرية الاختيار، فيما يسمى بـ “أدب الاحتجاج”.
وصفت “أليفة رفعت” في قصصها، حالة الوحدة التي عانت منها النساء، والفصل الحاد بين عالم الرجل وعالم المرأة، بل ودعت الأزواج لاحترام رغبات زوجاتهم الجنسية. وقد انطلقت في هذا الميدان حتى كتبت أقاصيص عن السحاق وعن اتخاذ الحبيبة بديلاً عن الزوج في أداء وظائفه، وعن فضول المراهقات والمراهقين لاكتشاف وظائف الأعضاء لدى كل منهما، وغير ذلك من الموضوعات، أدي ذلك لمهاجمتها لما في كتاباتها من تحدٍ للتقاليد.
من أعمالها: (حواء تعود لآدم، مجموعة قصصية- من يكون الرجل، مجموعة قصصية- بعيداً عن المئذنة، مجموعة قصصية- جوهرة فرعون، رواية).
الترجمة..
المترجم “دينيس جونسون ديفيز”، أوَّل من ترجم ل”محمود تيمور” و”توفيق الحكيم” أبدى اهتمامًا بالغًا بالقصص المصرية من إبداع كاتبات.. كانت القصص التي تكتبها “أليفة رفعت” بالنسبة إلى “دينيس” غير مألوفة، لكونها ذات “مَسحات جنسيّة مُبطّنة”. تُرجم لها قصة “عالمي المجهول” ونُشرت ضمن “كتاب بنجوين للقصص القصيرة الإيروتيكية النسائية”.
وقابل “دينيس” “أليفة رفعت” وعرف أنها زوجة لضابط شُرطة رفيع المستوي، وتبيّن له كيف كانت امرأة متديّنة، ومن هنا يُفسّر السبب في غياب تلك الكاتبة عن سجلّ الكاتبات العربيات ذوات التأثير في العالم العربي، فقد كانت الغلبة لليساريّات واليساريّين في ذلك الوقت. وعلى إثر ترجمات “دينيس” لكتاباتها ونشرها في مجلّات أدبية مرموقة، دُعيت “أليفة رفعت” إلى لندن، وحقّقت نجاحًا في إنجلترا وأمريكا، وترجم لها “دينيس” لاحقًا مجموعة من قصصها في كتاب حمل عنوان “منظر بعيد لمنارة”. ظلّ هذا المُجلّد محظورًا حتى اليوم في مصر، بسبب “الصراحة التي كُتبت بها بعض القصص”.
عيون بهية..
في مقالة بعنوان (الخطاب الهستيري في الكتابات النسويّة: «عيون بهية» لأليفة رفعت مثالًا) تقول “سميّة الحاج” : “الكاتبة المصرية أليفة رفعت في قصتها “عيون بهيّة”، اختارت أن يكون السرد ذا تركيز بؤري داخلي على شخصية البطلة بهيّة، فبهية تسعى جاهدةً أن تسرد لابنتها تجربتها كاملةً منذ الطفولة إلى أن أصبحت عجوزًا فقدت بصرها. وهذا النوع من السرد لن يستمع له الرجال الذين قد يصفونه بالعاطفي ببساطة لأنه يركز على المشاعر الإنسانية بدلًا من القضايا السياسية والاقتصادية «الكبيرة» التي يزعم الرجل امتلاكها.. ما تأسف له بهية في السرد ليس كونها امرأة، بل كونها لم تعش حياتها كامرأة.. وهذا يعني أن معاناة المرأة لا تنبع من تركيبة جسدها البيولوجية، بل من الثقافة الذكورية المفروضة عليها. قد يبدو الخطاب في قصة «عيون بهية» عاطفيًا ولكن ليس بهدف التباكي على المرأة كضحية للمجتمع الذكوري، بل لخلق لحظة تطهير لمشاعر القراء ليستطيعوا من خلالها نقل بؤرة العدسة إلى ابنة بهيّة التي لا زال المستقبل ينتظرها. فهنالك حوارٌ بين الأم والابنة وآخر بين الأم (الراوية) و القراء لمنع تكرار معاناة المرأة ذاتها مع الجيل الجديد. قد تكون قصة أليفة رفعت موجهة لجمهور مزدوج أي للرجال و النساء على حد سواء، ولكن القارئة تشعر أن هناك حوارٌ خفي بينها و بين الكاتبة. فأليفة رفعت تعي أن المجتمع الذكوري لا يعني أن كل الأمور تسير لمصلحة الرجل بفعل الرجال فحسب، بل تُساعد كثير من النساء على أن تؤول المصالح إلى نصاب الرجل، ففي «عيون بهية»، تقوم نساء القرية لا رجالها بختان الطفلة بهية. من خلال هذه الأحداث تأمل رفعت أن تواجه المرأة ذاتها وتعي أهمية دورها في تخليص النساء من معاناتهن”.
المقاومة بالكتابة..
وتواصل: “ما تأسف له بهية في السرد ليس كونها امرأة، بل كونها لم تعش حياتها كامرأة. يتزامن فقدان بهية التدريجي لبصرها مع استعادتها لبصيرتها الداخلية والوعي بمعاناتها. فهي لم تستطع خلال شبابها نزع القناع الذي يفرضه عليها مجتمعها الذكوري أو الخروج عن النص المفروض عليها. لكنها- وإن كانت فهمت المؤامرة الذكورية متأخرةً- لن تستسلم، بل ستزعزع ما تعارف عليه المجتمع من تقاليد بشأن المرأة عن طريق سرد حكايتها لابنتها بإخلاص. فالسرد بالنسبة إلى بهية شكل من أشكال المقاومة والتمرد على الواقع و هذا ما يجعل شخصيتها في القصة كرنفالية. فالشخصية الكرنفالية، كشخصية المهرج في مسرحيات شكسبير، تمرر خطابًا مغايرًا لخطاب السيد بلغتها الخاصة، وهي بالنسبة للشخوص الأخرى لغة جنون لا تؤخذ على محمل الجد. وهكذا يتحوّل صمت بهية الذي استمر طويلًا إلى فعل مقاومة ودعم لمشاعر الأختيّة لإنقاذ من يمكن إنقاذهن من النساء المضطهدات. فبهيّة ترفض أن تعيش ابنتها الانتحار المجازي الذي عاشته. فقد عانت بهية كالكثير من النساء من الختان والزواج التقليدي و قسوة المجتمع الذكوري بعد أن أصبحت أرملةً و لم تستطع أن تستمتع بروحها أو بجسدها كامرأة، لكنها قررت في النهاية أن تقاوم ولو كانت هذه المقاومة من مكان مهمّش بعيد عن المراكز التي يتبوّؤها الرجال. قصة «عيون بهية» هي مقاومة عن طريق الرد بالكتابة على المجتمع الذكوري الذي حرم بهيّة، والتي هي رمزٌ للكثير من النساء، اللاتي حرمن من حرية الاختيار وجردن من حقهن في كل أنواع المتعة”.
لغة قوية..
وفي مقالة أخرى بعنوان (حكاية أديبة فرّت إلى الله) تقول “صافي ناز كاظم”: “يوم الخميس 4 يناير 1996 كان رحيل الكاتبة الأديبة “أليفة رفعت” عن دنيانا ونشرت أسرتها نعيها في صفحة الوفيات باسمها الأصلي “فاطمة عبد الله رفعت” فلم ينتبه أحد. قرأت اسمها “أليفة رفعت” لأول مرة في عمود يوميات الأستاذ أحمد بهاء الدين،رحمه الله، حين نوّه بحماس عنها بعد أن قرأها مترجمة إلى الإنجليزية، فحرصت أن أقرأها بأصلها في اللغة العربية، فكثيرا ما تعطي الترجمة رونقا وطلاوة لأعمال نجدها ركيكة جدا في لغتها الأصلية، وحين وجدت في أحد أعداد مجلة الهلال قصة بقلمها فرحت. بدأت أقرأ والسطور تشدني بشغف، كانت القصة حول امرأة متزوجة من رجل متزوج في بيئة بدوية. لم يهمني الموضوع بقدر اللغة والأسلوب والإيقاع وكل هذه الأشياء التي نسميها “الأدوات الفنية” في الكتابة؛ لغة قوية طيعة سلسة تتنقل رشيقة عبر مفارقات تبعث على الابتسام والضحكة الخافتة حتى في أشد المنحنيات ألما ووجعا. بعدها واظبت على قراءة ما تنشره لها مجلة الهلال وما زلت أذكر قصتها البديعة “عيون بهية”، هلال أكتوبر 1990، التي تدور على لسان فلاحة عجوز مريضة اسمها بهية تملي خطابا إلى ابنتها تحكي في سياقه كل المظالم التي انهالت عليها والقهر الذي عانت منه لمجرد كونها أنثى، ومهما أتى الصوت يملؤه الحزن والصورة مريرة والتجربة موجعة لا يمكن أن نغفل عن الروح المازحة واللقطات الفكهة واللمسات المتهكمة التي تمثل الأرضية الثابتة لفن أليفة رفعت. المؤسف أن فن أليفة رفعت تم تجنيبه وأصبحت تتلخص في كونها شاهدة على حرمان المرأة العربية ومن هذا المنطلق كان السعي الحثيث لترجمتها”..
النظرة للجسد عربيا..
وفي مقالة بعنوان (الثقافة العربية والكتابة حول جسد المرأة) تقول “ليلى أحمد” : ” أعمال أليفة رفعت، التي تناولت موضوع جسد المرأة، وخصوصا جنسانيتها، بشكل مباشر يلفت النظر، لا تبدو فقط أنها توثق، بل تصدر عن مزاج مختلف في الفكر العربي حول الجسد والجنسانية. فعلى سبيل المثال، تبدأ قصتها التي أعطت عنوانها إلى مجموعة القصص القصيرة (منظر بعيد لمنارة)، بمشهد لعلاقة جنسية بين رجل وامرأة، حيث تصف المرأة / الراوية بكل تجرد الجهد الذي بذله شريكها، ثم تنتبه إلى أن إصبع قدمها تشير إلى شبكة عنكبوت معلقة في السقف، وتقول لنفسها بأن عليها أن تزيلها. ومن ثم تكشف تأملاتها عن أنها فقدت الاهتمام بالجنس في وقت مبكر من حياتها الزوجية حين رد زوجها على رغبتها الصريحة باتهامها بأنها تحاول أن تسبب له أزمة قلبية. وحين تعود إلى الحاضر، تجد أن زوجها قد غط في نومه أخيرا لتنهض هي (الراوية) وتغتسل، وتصلي، وتجلس على شرفتها متأملة المنظر أمامها، منظر اجتذبها بسبب المئذنة التي كانت تشرف عليه. لكن الآن تقزمت المئذنة جراء الأبنية المحيطة. وتختتم القصة باكتشافها أن زوجها قد مات فعلا نتيجة أزمة قلبية، وهي تجلس هادئة جدا كما تلاحظ، لتستمتع بفنجان من القهوة لحين وصول الطبيب. وفي حين أن راوية الأحداث عالقة في شرك عالم تحكمه مركزانية القضيب، في السرير أو رمزيا في الأفق، لكن القصة تخلف في القارئ شعورا واضحا يشير إلى أنها هي المنتصرة، وهي التي تمكنت من البقاء، بأكثر من مجرد المعنى الحرفي. لكن هل هذا ما قصدت الكاتبة إيصاله في الحقيقة؟ في حالة أليفة رفعت، يبقى دور الفكر الغربي في تشكيل المنظور التي ترى من خلاله عالمها غامضا وملتبسا على أقل تقدير. فأليفة رفعت المصرية، تعيش حياة تقليدية لا غربية، ولم تطلع إلا على القليل من نتاج الأدب الغربي، وهي تقر على ما يبدو بالمعتقدات التقليدية لمجتمعها؛ وهي امرأة متدينة وترتدي الحجاب.. هنالك قصة أخرى لأليفة رفعت تثير مزيدا من الحيرة على ضوء هذه الحقائق حولها. فقد نشرت القصة أصلا عام 1974 بعنوان (عالمي المجهول)، وهي تدور حول زوجة أحد المسئولين في بلدة مصرية صغيرة وقعت في حب جني (ــة). إذ ظهر لها الجني أول مرة على شكل أفعى جميلة واقترح أن يستكشفا معا (أعماق بحر المتعة اللازوردي). وحين (ظهرت) في المرة الثانية (أخذ الجني الآن شكل جنية) أعلمتها بأنها ملاك المنزل الحارس وأنها ستعقد حلفا بين المرأة والأفاعي في الجوار لضمان عدم إيذاء أحد للآخر. ثم مررت يدها على جسد المرأة/الراوية لتتركها وهي تتأجج بالرغبة. وحين أرعبتها، طلبت من زوجها أن يغلق (الفتحة) التي ظهرت منها الجنية. لكن بعد أن فعل ظهرت الجنية مرة أخرى، وهي تقول: (لم أنت خجولة ولماذا تهربين منى، يا عروستي؟)، ويتابع المقطع السرد حين ترد هامسة بالقول إنها تتألم، فحب الجنية شديد والشهوة تملأ كيانها. وهي خائفة من الشعور بأنها تسقط في هوة لا قرار لها وتتعرض للدمار. وتجيب الجنية بأنها لن تظهر لها إلا بأكثر الأشكال جمالا وكمالا ونقاء. وحين ردت المرأة بعنف قائلة بأن من الطبيعي أن تظهر الجنية بهيئة رجل نظرا لأنها مصممة على أن تجمعهما قصة غرامية، أجابت الجنية بأن الجمال الكامل لا يمكن العثور عليه إلا في المرأة، ولهذا عليها أن تستسلم لها لتجعلها تتذوق طعم سعادة لم يحلم بها أحد. ثم مدت أصابعها لتداعب المرأة في حين امتصت شفتاها الرقيقتان سموم شهوتها وزفرت رحيق نشوتها، حاملة معها كيانها إلى غشية من السعادة اللذيذة والانتشاء المبهج. بعد ذلك، كما تقول الراوية، بدأت هي والجنية أكثر قصص الحب متعة وبهجة. لو كانت هذه القصة من تأليف كاتبة أمريكية أو عربية مطلعة عموما على الأدب المكتوب بالإنكليزية، لاعتبرها القارئ بكل ثقة بمثابة تصريح إيجابي متعاطف مع الحب بين النساء، أو على الأقل تتلاعب بفكرة استحالة إشباع خيالات الشهوة الجنسية عند النساء بواسطة الرجال. لكن هل يجب قراءة القصة فعلا على هذا النحو بعد أن نأخذ بالاعتبار شخصية المؤلفة وخلفيتها الثقافية؟ من المفروض أن تكون قصة أليفة رفعت مؤسسة على أفكار ثقافتها المتعلقة بالجنسانية، وهي داخلة في حوار مع تلك الأفكار حتى وهي تحط من قدرها. ولذلك يحتاج المرء على الأقل إلى معرفة أولية ـ طبوغرافية وأركيولوجية ـ بالمفاهيم العربية المتعلقة بالجنسانية وبجسد المرأة والرجل، لكي يستكشف عملها ويقرأ بشكل صحيح مضامينه وأصداءه. على أية حال فقد توضح هذه المعرفة ما إذا كانت أليفة رفعت تعتمد على التراث التجريبي، أو الشفاهي، أو الأدبي، أو على توليفة تجمع هذه العناصر معا، وهي طرائق موجودة ضمن الثقافة العربية فيما يتعلق بالكتابة أو التفكير حول الجسد الأنثوي”.
وتضيف ” ليلى أحمد” : “وحتى مجرد نظرة أولية للموضوع توحي بأن الشهوة الجنسية الممركزة على الأنثى التي عبرت عنها أليفة رفعت، لهما سوابق في الفكر والكتابة في العصور الوسطى. فتعبير (عورة) على سبيل المثال، وخصوصا استخدامه المتعلق بجسد المرأة (وهو استخدام يعود بجذوره إلى القرون الوسطى على أقل تقدير) يعزى ضمنا إلى الجسد الأنثوي ولاسيما خصائص السلبية والخجل والعار التي اصطبغت بها الجنسانية، في أحد ملامحها، داخل الثقافة العربية. واللفظة مشتقة من (العور) ويعني (العيب) (العوراء: الكلمة القبيحة)، كما تعني أيضا (الضعف). وقد استخدمت على وجه الخصوص لتدل على تلك الأجزاء من الجسم التي يطالب الدين بوجوب سترهاـ الأعضاء الجنسيةـ والتي حددتها بعض المرجعيات بالمنطقة الممتدة بين السرة والركبتين بالنسبة للرجل، وبالجسد كله بالنسبة للمرأة. إن فكرة الجسد الأنثوي المكبل تنسجم بالتأكيد مع أنماط المواقف والممارسات العقابية. لكن في نفس الوقت، يعبر الأدب القروسطي، ولا سيما (ألف ليلة وليلة)، بكل وضوح وحماسة وحيوية وبدون رقابة، عن تراث من الشهوة الجنسية والجنسانية الأنثوية بكل ما يميزهما من فاعلية ونشاط. فقد جمعت القصص في القرون الوسطى، بواسطة مؤلف مجهول ولربما كانت متداولة شفاهيا لمدة طويلة من الزمن قبل ذلك. ومن المعروف أن هذه الحكايا في رواياتها وإعادة روايتها تعبر على أقل تقدير عن أوهام وخيالات ونزوات اخترعتها النساء إضافة إلى الرجال. أما كيف تعبر مجموعة القصص هذه عن الجسد والجنسانية فمازال موضوعا بحاجة للاستكشاف والتقصي.. في الحقيقة”.
وفاتها..
توفيت “أليفة رفعت” في القاهرة عام 1996، وهي أم لثلاث أبناء.