14 مارس، 2024 12:35 ص
Search
Close this search box.

أسرار وحكايات .. من زمن فات : النيل .. شريان الوجود لـ”مصر” !

Facebook
Twitter
LinkedIn

“السقنقور والتمساح” .. وسيلة للتسول وحكاية غريبة !

خاص : بقلم – عبدالناصر محمد :

الرحالة الغربي، “بيلوتي”، الذي زار “مصر” مطلع القرن الخامس الميلادي واستمر فيها طيلة أربعون سنة يقول: أن “القاهرة” أكبر مدينة في الدنيا؛ أما نيلها فهو النهر الذي يُقال أنه ينُبع من الجنة الأرضية، ويعيش الناس على مائه وخضاره وفواكهه، وأنه واسع جدًا قرب “القاهرة” لدرجة أن الناس تسميه: “البحر”؛ أما مياهه أحسن ماء في الدنيا فهي تشفي المرضى وتفتح الشهية.

هذه الكلمات باختصار تعكس أهمية “النيل”، لـ”مصر”، فهو الحياة وهو الشريان الذي تستمد منه “مصر” الوجود عبر كل العصور.. وأكم من المرات دخلت البلاد في دوامة الجوع والمجاعة والفقر المُدقع حين يقل منسوب “النيل”، في وقت كان فيه عدد السكان لا يتجاوز بضع ملايين، فما بالك بمئة مليون نسمة، وما يزيدون.

وقد حرص كل حكام “مصر” على الإهتمام بالنهر العظيم والتعامل بكل حزم وحسم وحنكة وقوة مع كل من يُحاول بسط نفوذه وهيمنته على “النيل”؛ ومع كل من يسعى للعبث به أو إهماله.

ويُعد المماليك من أكثر الحكام الذين أبدوا إهتمامًا كبيرًا بـ”نهر النيل”، الذي أصبح، خلال الحقبة المملوكية؛ معبر للتجارة الداخلية والخارجية وقت إزدهار حكم المماليك، وسرعان ما تحول إلى مسرحًا للقراصنة وقُطاع الطرق والحرامية في فترة إنهيارهم.

وقد إستحدث المماليك وظيفة حساسة في الدولة لم يكن يرقى إليها أي “هلفوت”، (أي موظف صغير)، وتلك الوظيفة هي: “كاشف الجسور”، ودوره الإشراف على الجسور السلطانية ذات النفع العام؛ وهي عبارة عن سدود ترابية تُقام على حافة النهر والترع لحفظ الماء من أن يفيض على الجانبين، ويغرق البلاد المحيطة؛ وعبر هذه الجسور كانت تفتح سدود الترع والخلجان عند تمام الفيضان فتخترق المياه فيها يمينًا ويسارًا لتروي الأحواض البعيدة عن مجرى “النيل”، لذا كانت الجسور عنصرًا مهمًا في منظومة الري.

أما حركة الملاحة في “نهر النيل”؛ فكانت متحركة لا تهدأ، وبينما راجت التجارة بين المحافظات إلى الحد الذي جعل أحد المؤرخين المعاصرين، يقول: “ليس في الدنيا نهر تجري فيه السفن أكثر من نيل مصر”.

ويقول الرحالة الأشهر “ابن بطوطة”؛ أنه يوجد بـ”نهر النيل” 36 ألف مركبًا للسلطان والرعية تمر صاعدة إلى “الصعيد” ومنحدرة إلى “الأسكندرية” و”دمياط” بأنواع الخيرات.

وفاء النيل

يعني “وفاء النيل”؛ أنه وفى وبلغ الحد الذي سيحمل معه الخير للفلاحين، وبهذه المناسبة كان السلطان يُقيم مهرجانًا قوميًا ضخمًا يُشارك فيه جموع الشعب، وكان إذا أتم النهر الستة عشر ذراعًا، اللازمة للزراعة، آنذاك، يُعلق على الشباك الكبير ستار أصفر اللون فيعلم الناس بالوفاء؛ وتكون هذه الليلة من الليالي العظيمة بـ”مصر” و”القاهرة”؛ يوقد فيها القناديل والشموع ويطول السهر حتى الصباح وتُعقد جلسات تلاوة القرآن الكريم والأناشيد إبتهاجًا بالوفاء؛ وتُقام في الصباح مائدة ضخمة يُطلق عليها اسم: “سماط”، حافل بالشواء والحلوى والفاكهة ويحضره السلطان.

أسماك وحيوانات مائية

كان “النيل” حافلاً بالتماسيح الشرسة التي كانت تُسبب الرعب لجميع راكبي “النيل”، وبخاصة الصيادين، وكان يوجد حيوان مائي من سلالة التماسيح؛ يُطلق عليه اسم: “السقنقور”، وكان يُشبه التمساح، وكان يفرق الناس بينه وبين التمساح أن “السقنقور” يسير على حافة النهر وعلى البر، ولكن من يسير في المنتصف، فهو تمساحًا، ويُقال عنه أنه إذا: “عض” إنسانًا وهو على البر خارج المياه وتمكن من الوصول إلى المياه قبل وصول الإنسان؛ فإنه ينجو ويموت الإنسان، وإذا وصل المعضوض إلى الماء قبله يموت “السقنقور”، وكان هذا الحيوان المائي الغريب يلجأ إلى حيلة غريبة، حيث أنه كان يتبول ويتمرغ “السقنقور” في بوله حتى يكتب لنفسه الحياة في حالة عدم وصول الإنسان المعضوض إلى المياه.

وكان للصيادين طريقة يصيدوا بها التماسيح و”السقنقور”، بل وكانوا يستخدمونها – أي الحيوانات الميتة – كوسيلة للتسول، حيث كانوا يسيرون بها في الطرقات وهي ميتة؛ إلتماسًا للصدقات من الناس بإعتبارهم خلصوا الأهالي من شرورها.

ومن بين أسماك “النيل” سمكة اسمها: “الرعادة»”؛ تصيب من يلمسها بالرعشة، ولذا كان الصيادون يتعمدون إخراجها من شباكهم فور اصطيادها، كما وصفوا “فرس النهر”، بأنه سمكة تعيش في “نهر النيل” تشبه الإنسان، ذات لحية طويلة، وأطلقوا عليها اسم: “شيخ البحر”، وكانت بالنسبة لهم سمكة مشؤومة، إذا ظهرت في مكان أعقب ظهورها القحط والموت والفتن.

مجاعة وفيضان

تضررت “مصر” من زيادة ونقصان منسوب “النيل”، باعتبار أنه هو مصدر المياه الوحيد لدينا، فحين يقل ماء النهر عن الحد اللازم للزراعة، يقلق الناس وتنتابهم المخاوف من حدوث المجاعة، فيُسارعون لتخزين الغلال ضمانًا لقوتهم وقوت عيالهم أثناء الأزمة المتوقعة، ويُسارع التجار إلى تخزين الغلال طمعًا في الحصول على أرباح أكبر برفع سعرها، ويشتد تزاحم الناس على الأفران وحوانيت بيع الغلال، وتظهر السوق السوداء، وتمتد حمى الأسعار إلى: “كل ما يُباع ويُشترى من مأكول ومشروب ومبلوس”، كما يقول “المقريزي”؛ في كتابه (إغاثة الأمة في كشف الغمة).

ويؤكد الدكتور “قاسم عبده قاسم”، في كتابه الشيق (النيل والمجتمع المصري في عهد سلاطين المماليك)، أن أول مجاعة ظهرت، آنذاك، عام 662م، وقت سلطنة “الظاهر بيبرس”، إذ توقفت زيادة “النيل”؛ وتبع ذلك ارتفاع أسعار الغلال، وقل الخبز في الأسواق وكاد يختفي، وأكل الناس حشائش الحقول وأوراق اللفت والكرنب، واستمرت الأسعار في تصاعدها حتى دخلت السنة الجديدة بمحصولها فانخفضت الأسعار تباعًا.

وبعدها بنحو 25 عامًا، أثناء حكم السلطان “العادل كتبغا”، توقفت زيادة “النيل”، وحلت بالبلاد مجاعة أعقبها وباء: “أسكن الألوف التراب”، وفيها: “كثر الشُح، ووقفت الأحوال وأشتد البكاء، وعظم الضجيج في الأسواق من شدة الغلاء”، ووصل الأمر بالناس إلى أكل الكلاب والقطط والحمير والبغال، ولم يبق عند أحد شيء، وقيل إن الكلب السمين صار يُباع بخمسة دراهم، والقطة بثلاثة دراهم، وتساقط الناس صرعى الجوع في الطرقات، فأمتلأت بجثث الموتى، وانتشر الوباء الذي قضى على عدد كبير من السكان، كما يذكر “المقريزى”.

وخلال عام 749م وما بعده؛ حدث الوباء الرهيب الذي عم المعمورة، إبتداءً بالشرق الأقصى وإنتهاء بـ”مصر” و”أوروب”ا، وقد عّرفه المؤرخون العرب باسم: “الفناء الكبير”، وكان طبيعيًا أن تصحب هذا الوباء مجاعة استمر أثرها لعدة أعوام، إذ اشتدت الأزمة على الناس بسبب هبوط “النيل”، وتناقص عدد الفلاحين.

يروي “المقريزي”، عن مجاعة عظيمة أخرى استمرت، من عام 796م لمدة عشر سنوات تقريبًا، حين توقف “النيل” عن الزيادة ولم يوفِ، فشرقت أكثر الأراضي ولم تزرع، وفي هذه الأزمة: “مات أكثر من نصف سكان مصر، ونفقت الماشية والحيوانات”.

خلال هذه المجاعات، اضطر السلاطين للهروب مع الأمراء من “القاهرة” إلى “سرياقوس” أو “الطور” وغيرهما.. كانوا يفرون فرارًا من جوع الناس، كما يهرب الأعيان و”مساتير الناس”، ويبقى العامة غذاء سهلاً للكوارث.

وهكذا عاشت “مصر” في استقرار طالما انتظم “النيل” ووفّى، وشهدت نكبات متوالية إذا لعبت الطبيعة لعبتها معنا بالمنح والمنع.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب