16 نوفمبر، 2024 7:39 ص
Search
Close this search box.

أزمة التنوير العراقي والفجوة بين المثقفين والمجتمع

أزمة التنوير العراقي والفجوة بين المثقفين والمجتمع

عرض/ عبير بسام
تكتسب دراسة الباحث فلاح رحيم المعنونة، “أزمة التنوير العراقي: دراسة في الفجوة ما بين المثقفين والمجتمع”، أهميتها من الطرح المميز حول وجود فجوة ما بين المثقف العربي في العراق وما بين المجتمع العراقي. كما يطرح الكتاب أهمية وآفاق التنوير في المجتمع العربي والإسلامي بشكل عام والعراقي بشكل خاص. هذا المفهوم الذي يواجه تحديات جذرية في أيامنا هذه، وفي عقر داره كما يقول فلاح رحيم. يعرض رحيم لتجارب تنويرية عربية مختلفة. ثم يركز في قراءته على أربع تجارب تنويرية في العراق، ويحلل أزمة الفجوة ما بين المدارس التنويرية التي تمثلها التجارب الأربع وما بين المجتمع والسلطة وتطور مراحل التنوير: ما قبل احتلال العراق ومن التغيير الذي رافقه، والذي تجلى بسقوط سيادة الدولة، ومن ثم في مرحلتي احتلال العراق وتحريره.

يقدم رحيم الدراسة في أزمة التنوير العراقي في ستة فصول هذا بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة. يشرح في الفصلين الأول والثاني مفهوم الفجوة وأنواعها، وواقع حركة التنوير العربي والواقع العربي السياسي. ومن ثم يدخل الى دراسة أربع حالات لدى رواد التنوير العراقي وخاصة في ما يتعلق بالخطط السردية في كتابة التاريخ العراقي، ويعتبر الفصلان الأولان الأساس الذي يبني عليه الكاتب شرح الحالت الأربع.

بداية، يعتبر رحيم أن أزمة التنوير العربي تأتي من ارتباطه المبدئي بالتنوير الغربي وبالحضور الإستعماري الأوروبي في الدول العربية. وارتبط تصاعد الأزمة مع استفحال مظاهر الفقر والتخلف وفقدان السيادة. وبعد الإستقلال كانت معظم الحكومات العربية ذات طابع عسكري تبقي الدين في الهامش. غير أنها متى احتاجت، كانت تستعين بالموروث الديني والمجتمعي من أجل دعم شرعيتها.

يبدأ رحيم النقاش بمفهوم الفجوة بين المثقفين والمجتمع، حيث يصف الوقائع العربية بالعجائبية، ولهذا علاقة باحتلال العراق والربيع العربي، الذي خلق أزمة ما بين المفاهيم الثلاثة، ألا وهي المثقفف والسلطة والمجتمع، والتي شهدت جميعها تحولات عميقة في طبيعتها وراهنيتها وفي المسافات الفاصلة ما بينها.

وهذه التحولات لم تنطلق من فكر فلسفي وسياسي ناضج يجعلها تعي أهدافها. ولا يمكن التعريف بنتائج هذه التحولات، وذلك استناداً إلى دراسة طرحها الأستاذ في القانون من جامعة ييل، بول خان والذي يقول، والحديث هنا بشكل عام، إنه لا يمكن حساب الربح والخسارة في الثورة إلا بعد مرور وقت من الزمن عليها. والأمر الثاني الذي يتعلق بالثورات أنها ليست مجرد أفكار تطرح في المقاهي، لأنه في اللحظة التي ينزل فيها الناس إلى الشوارع فإن المرء يضع حياته موضع رهان لا تعرف عواقبه. ولكن في المبدأ، يرى رحيم أن أوائل نتائج الإنتفاضات العربية أنها هزّت الصورة التقليدية الساكنة ما بين المثقف والمجتمع والسلطة، هذا بالإضافة إلى ظهور صورة المثقف المتديّن.

هناك أنواع من الفجوات التي تحدث ما بين العناصر الثلاثة، ولكن يعود الكاتب إلى دراسة هذه الفجوات بناء على الدراسات الغربية ويقوم بإسقاطها على الواقع العربي وبالتالي على الواقع العراقي. وهذه الفجوات هي: الفجوة الليبيرالية، والتي تزامنت مع انتشار القراءة في أوروبا في القرن التاسع عشر، والتي حدثت نتيجة للثقافة الإستهلاكية الضيقة التي انتشرت ما بين مجتمع الطبقة الوسطى، مما أبقى الثقافة في المجتمعات الأوروبية بعيدة عن الصراعات الطبقية والإجتماعية والنزعة الإستهلاكية. غير أن هذا الكلام، لا ينطبق على ثورة ستينات القرن العشرين في الغرب والتي كانت أظهرت التمايز الحاد ما بين المجال الثقافي من جهة والمجال الحكومي والإقتصادي من جهة أخرى.

الفجوة الثانية، هي الفجوة الماركسية. وهي ناشئة بسبب ما اعتبر موقف كارل ماركس في كتابه “المثقفون والإشتراكية”، والذي يؤكد فيه على الحتمية التاريخية لإنتهاء الرأسمالية. غير أن ماركس في موقفه هذا يؤكد على دور الوعي الثوري في العملية الحتمية لإنتهاء الرأسمالية. ولكن البروليتارية، التي هي موضوع التغيير وأداته، تفتقر إلى الوعي المطلوب لإحداثه لأنها ضحية الإستغلال والتجهيل والحرمان، مما أفقدها قابليتها النقدية. في هذا الإطار يمكننا عرض ما تحدث عنه ديك بيلز حول الإغتراب السياسي ويدعو إلى تبيان خيانة المثقفين. ويرى بيلز في الإنتخابات والتمثيل الديمقراطي أنه فسحة لمجموعة من الأحزاب والقوى، وهي فجوة تفصل ما بين الأحزاب والمجتمع، الذي تدعي تمثيله.

في هذا الإطار يعود الحديث عن فكر إدوار سعيد والذي يتحدث عن أنه “لا مكان للمثقف”، وهو تعبير ينطبق على المفكر العربي في بلاده. ولا ينسى رحيم أن سعيد قبل كل شيء، مفكر عربي فلسطيني دافع عن قضايا فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد سياسات الغرب الإستعمارية. كما دعا سعيد المفكرين إلى العيش خارج نطاق الأنظمة كلها وتمجيد اللامركزية المطلقة. غير أن رحيم، بعد توصيفه لمواقف المثقفين في سوريا ومصر والعراق في ظل “الربيع العربي”، يرى أن النقد الذي كتبه سعيد يعد خطوة إلى الأمام في التصدي للطغيان. وأما اليوم فلم يعد النقد وحده كافياً ولم يعد الحماس والهواية (بمعنى اللاحرفية، وهو تعبير جديد في علم الإجتماع السياسي) والرغبة المشاكسة واللاانتماء أموراً مأمونة.

بعدها يدخل رحيم إلى الخطط السردية في كتابة التاريخ الحديث للعراق، من خلال عرض فلسفات محددة تتناولها خطط سرد التاريخ الحديث، ومنها “نظرية التأويل”، واصفاً المبررات التي يراها منطقية في هذه النظرية، التي ترفض كتابة التاريخ عبر تأويل خاص للأحداث، انطلاقاً من أن السرد الذي لا يتحقق بالإخبار المحايد عن مجموعة من الأخبار المتفرقة. ومن أجل كتابة التاريخ، يعود رحيم إلى تحديد معايير محددة في محاولة اختيار النماذج التي يعرضها حول سرد تاريخ العراق، والتي يعود إلى شرحها بالتفصيل خلال صفحات الكتاب. وهذه النقاط تعتمد على:

موقع المؤرخ (أي تحديد الزمان والمكان).
تصوّر المؤرخ التأويلي لوقائع التاريخ.
الرسالة الأخلاقية التي ينطوي عليها التسجيل التاريخي.
الأمثولة أو اليوتوبيا التي يضعها المؤرخ نصب عينيه.
وفي هذا الإطار يستعرض الكاتب الآراء المختلفة حول كتابة تاريخ العراق، ويقارن تناول التاريخ العراقي ما بين المؤرخين العرب والعراقيين من جهة والمؤرخين الغربيين من جهة أخرى. إذ تحاول المجموعة الأولى إثبات عراقة تاريخ العراق، بينما يبحث الغرب عن الدولة ومؤسساتها كمعتمد لإثبات تاريخ تأسيس الدولة.

وبعد العرض للأساليب البحثية في التاريخ العراقي للمجموعتين السابقتين، يرى رحيم أن المؤرخ المحلي مهما اختلف مكانه وزمانه يبقى حريصاً على تحويل منهجه البحثي إلى خطاب مسؤول أخلاقياً موجه إلى العراقيين وكأنه طرف في حواراتهم الساخنة. كما يبقى المفكرون والمؤرخون العراقيون، الذين شملتهم الدراسة، حريصين على إبقاء المسافة مفتوحة ما بين وعيهم بالتاريخ العراقي عبر الخطط السردية من جهة، والمادة التاريخية على مستوى الحدث والوقائع والناس من جهة أخرى. كما أن الكتابات السردية بدأت تشهد تحولاً من هجاء السياسات والأيدولوجيات إلى هجاء الفجوة النقدية بين المثقف والمجتمع، والتي تعتبر شارة تميّز ودليل وعي طليعي.

يتناول الكاتب في فصول أربعة، أربعة نماذج من التاريخ السردي في العراق وهم: سعيد الغانمي ومعضلة جلجامش، وحسن ناظم ومعضلة المنهج، علي حاكم ومعضلة المجتمع اللااجتماعي، وعبد الجبار الرفاعي ومعضلة القرين.

يبدأ مع الغانمي، الذي يتحدث عن معضلة جلجامش، والتي هي البحث عن الخلود؛ وبالتالي عن “جوهر المشروع البشري الذي لا يكتمل إلا بالنقصان، ولا يتصور استمرار الحياة إلا من خلال مواجهة الموت”. ويقارن ما بين عمل الغانمي وأعمال أرسطو ويورخيس في السرد القصصي وتحويل الجدل العقلي إلى الفنطازية السردية. بينما يرى الغانمي أن عمل الباحث يخلص إلى ما هو واقعي مما هو أسطوري وحكائي، وإلى ما هو أسطوري مما هو واقعي.

ثم ينتقل الكاتب إلى دراسة تفصيلية لأسلوب الغانمي، الذي يتضمن القراءة والقراءة القصدية وفاعلية الخيال، وتناوله للفلسفة اليونانية على أنها كتلة واحدة. وأكثر من ذلك فإن الغانمي يرى أن سقراط كان بطلاً ملحمياً كما كان جلجامش تماماً. كما يرى رحيم أن الغانمي يلجأ خلال كتابته إلى تقنية سردية هي الحذف والإنتقاء في مقاربة موضوعاته. كما يستنتج أن رؤية الغانمي هي تعبير عن أزمة عميقة يعيشها التنوير العراقي في حقبتنا التاريخية الراهنة، وهي رؤية تمتلك قوتها من تشبعها الكامل بالزوال حد بلوغ حدود الأبدية القصوى.

الحالة الثانية التي يتناولها الكتاب، هي حسن ناظم ومعضلة المنهج. يجد رحيم أن كلاً من حسن ناظم وسعيد الغانمي ينطلقان من الشك العميق بجدوى التنوير العربي عموماً، والعراقي بشكل خاص. سعى ناظم إلى منهج مناقض لمنهج الغانمي، وهو الإبتعاد عن المنهجية والأيديولوجيات ومن طغيان التسلّط السياسي والثقافي عليها. ويطالب ناظم بردم الفجوة ما بين النص والواقع والإقلاع عن إقامة الحدود بين ثقافة النخبة وثقافة الدهماء. كما يرى رحيم أن كتاب ناظم “أنسنة الشعر” هو مشروع لتقديم بدل تأويلي عن المنهجية النقدية الإختزالية؛ إذ أن لديه حدساً بأهمية الذاكرة على أنها مصدر استحضار ومعاودة تجريب وجداني ينطوي على حنين ووجد واغتراب.

وضمن هذا السياق ينطلق رحيم إلى مقارنة ناظم مع بول ريكور، الذي حاول حل معضلة حاجة المجتمع إلى اتباع المنهج العقلي، الذي يعتمد مناهج مثل البنيوية والتحليل اللغوي والتحليل النفسي والماركسية وغيرها لمقاربة التقليد واستنطاقه. كما يبدو جلياً للكاتب أن كتابات ناظم متأثرة بكتابات غادامير وكتابه “الحقيقة والمنهج”، الكتاب الذي ترجمه إلى العربية، حيث يعتبر الكتاب أن “التأويل هو الحماية من إساءات المنهج لا من المنهجية عموماً”. ولكن بالنسبة إلى ناظم لا يمكننا الوصول إلى أن نلمس عظمة اللغة العربية.

الحالة الثالثة وهي حالة علي حاكم ومعضلة المجتمع اللااجتماعي. يتفق كل من حاكم وناظم على أن قيم التنوير العراقي ظلت قاصرة عن تحقيق الطموحة وأن المنهجية الإختزالية تنتهي دائماً إلى غفلة مأساوية عن الحياة بمعناها السابق للفكر. غير أن علي حاكم يتناول التاريخ العراقي من خلال الأدب السردي، فيتحدث عن أدب الروائي العراقي في كتابه: “فؤاد التكرلي المجتمع اللااجتماعي: دراسة في فكر فؤاد التكرلي”.

ففي ظروف عراقية صعبة كان العراق فيها يتعرض لمرحلة من التجاذب الطائفي، وسقوط المثقفين في فخ النخبوية، في وقت شهد سقوط العلمانية وصعود التيارات الدينية. وبذا ينطلق حاكم في نظريته بأن أدب التكرلي قدم صورة مجتمع مفكك عانت مكوّناته الإجتماعية والسياسية من حالة تأزم وتشويه طوال التاريخ المعاصر. بدأت المشكلة بالظهور لدى التكرلي من خلال تأثره بالفلسفة الوجودية – كسائر المثقفين المتأثرين بالثقافة الغربية- الذي لم يستطع كتابة روايته الوجودية. وهي أزمة تتكرر إذ يرفض المجتمع العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص الإعتراف بوجودها.

يحاول التكرلي في روايته “سفاح المحارم” أن يضفي على نظريات فرويد مسحة اجتماعية توفق بين الماركسية والتحليل النفسي وكلاهما من نتاج الفكر والمجتمع الغربيين. ويجد عندها رحيم أن حاكم يعود كي يتناول المجتمع العراقي والهوية العربية. ومن خلال تناوله كتابات التكرلي، يستنتج حاكم أن التكرلي قد أسقط فعلياً الفجوة الفاصلة ما بين لااجتماعية النخبة ولااجتماعية المجتمع، وذلك ضمن فلسفة تحتاج إلى قراءة عميقة في الكتاب.

الحالة الأخيرة التي قدمها رحيم هي عبد الجبار الرفاعي ومعضلة القرنين. فالرفاعي هو مثقف يجمع ما بين التنوير والدين ويدافع عن كلاهما. وهو قارئ للمفسر والعالم الإيراني محمد حسين الطبطبائي وغيره. ولكنه وهو يتصدى لهذه المهمة العسيرة، بحسب رحيم، يبقى رهين لحظته التاريخية المأزومة ويوميات بلده –العراق- المضرجة بالدم. ويقارن رحيم الرفاعي بكل من دستيوفسكي وتولستوي وهما متنوران متدينان. ويجد الكاتب أن الرفاعي لا يمثل أزمة التنوير العراقي فقط، بل هي أزمة عالمية وبالتالي يقوم بمقارنته بالمفكر السياسي البريطاني ادموند بيرك في رده على ريتشارد برايس البروتستانتي الذي مدح الثورة الفرنسية واعتبرها بداية الخلاص وبدء تحقيق النبوءة. والرفاعي القارئ للكتابات الدينية كان يحاول أن يحل إشكالية العلاقة ما بين التقليد والتنوير بعيداً عن الأحكام القاطعة والحلول المبسطة. ولكن تكمن الصعوبة بأنه لا يمكن الإجابة على الأسئلة الأيديولوجية إلا بأجوبة أيديولوجية وسياسية.

هذه الدراسة أدت الى استتاج الكاتب لنقاط هي غاية في الأهمية والتي تلحظ أن الثقافة العربية بقيت منذ القرن الحادي والعشرين أسيرة رد الغضب على حقبة من الإنقطاع للتاريخ اتخذ صبغة أيديولوجية مستبدة. وهذا ما دفع نحو إخفاقات التنوير العربي، والعراقي على وجه الخصوص. وبذا سادت نزعة العداء للتنوير، والذي اتخذ أشكاله من خلال التيارات الإسلامية الصاعدة. ولكنه يستنتج في النهاية أن أزمة التنوير لا يمكن إلا أن تنتهي بدعوة إلى المزيد والإستقصاء والدرس. وهي أزمة لن تزول إلا بالعمل على تنقيتها وحمايتها. وفي الحقيقة إن الكاتب يطرح إشكالية عميقة في مجتمعاتنا العربية، وهي تعكس حجم الضياع ما بين التطور العلمي وحجمه، وما بين تجهيل المجتمع وإهمال صناعة الإنسان. فالتنوير لا يمكن أن يصل إلى مجتمعات منغلقة على ذاتها وإذا كان “الربيع العربي” قد دفع برحيم إلى دراسة الفجوة بين المثقف والمجتمع، فإن “الربيع العربي” يدفعنا نحو السؤال كم كان المثقف مندمجاً في مجتمعه؟ وما هو حجم قرائه؟ وما هو مدى الإهتمام المجتمعي بما يكتبه في الأساس؟

والسؤال الثاني الذي يطرح هو عن علاقة المثقف العربي بدولته ودوره في صناعة السياسات الداخلية التي تؤمن صيغة التواصل التي يستطيع أن يبنيها المثقف ونأخذ مثالاً على ذلك دور جيمس طالي، الباحث الكندي في علم السياسة والذي استعانت به كندا من أجل التواصل مع السكان الأصليين فيها “ما يسمى خطأً بالهنود الحمر” من أجل مد جسور للتواصل معهم وحماية لغتهم وثقافتهم في ظل دولة من جنس آخر، وقد برع في ذلك.

فهل يستطيع المثقف العربي أن يكون جسراً في دولته من أجل تحقيق ليس الأمن فقط، بل من أجل حماية الإنسان ورفع الظلم عنه وتطوير ثقافته وتطوره في داخل المجتمعات العربية.
المصدر/ الميادين

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة