كتب: ضياء فتحي موسى
تأخرت الأم على إعداد الطعام، فلامها زوجها، وجّه إليها كلمات كثيرة يطالبها بها بسرعة الانتهاء من إعدام الطعام، كان جائعًا جدًا، لا يستطيع أن يصبر أكثر من ذلك, فطالبته بأن يهدأ ويخفض من صوته حتى لا يسمع جدالهما رشيدي, لم يكن صوت زوجها عاليًا, لكنها تعرف أنّ الصوت يجب أن يكون منخفضًا إلى أدنى درجة, لأن كثير من الأمور التي تحدث في البيت يعرف بها الناس في الخارج بسبب رشيدي!
مشى الأب على أخمص قدميه إلى النافذة، نظر منها يمنة ويُسرة، كان البيت في الطابق الأرضي، لذا النافذة قريبة جدًا من الأرض، يُمكن للمارة إذا أطلّوا برأسهم أن يروا كل شيء في الداخل. سألت الأم زوجها بصوت هامس: هل رأيته؟ هل هو عندك؟ قال: لا قالت: هذا غريب! من المفروض أن تجده عندك!
كانا يتحدثان عن رشيدي، جارهم الصغير، لا بد أنّه يلصق أذنه على باب أو نافذة أو مكان ما ليسترق السمع، عادته التصنّت، عادة سيئة ومزعجة. جيرانه وأصحاب المحلات التي في الشارع، جميعهم يشتكون منه، ويعرفونَ أنّه سيء، لأنّه دائمًا يريد أن يسمع ماذا يقول الغرباء، حتى لو كان الكلام الذي يقولونه يخصهم وحدهم.
لو كان الأب أثناء ما كان ينظر من النافذة، قد نظر أقصى ناحية اليسار، لرأى أذن رشيدي الصغيرة تلتصق بالجدار!
في أحد الأيام، سمع رجلان في الطريق يتحدثان، وقفَ رشيدي قريبًا منهما ليسمع ماذا يقولان، عرفَ أنّهما ضابطان يرتديان ملابس غير رسمية حتى لا يعرف أحد أنّهما من الشرطة، وعرفَ أنّهما دخلا الشارع الذي يسكن فيه ليقبضا على لصٍ مختبئ في أحد البيوت، فذهبَ رشيدي بسرعة وجمع أصحابه وأخبرهم بالذي سمعه، فانتقل الخبر بسرعة كبيرة في كل أنحاء المدينة، حتى وصل إلى اللص نفسه، فهربَ اللص قبل أن تصل إليه الشرطة! وعندما عاد رشيدي إلى منزله، وجدَ أباه غاضبًا، لأنّ أحد اللصوص دخل الشقة وسرق أشياء ثمينة، سرقَ “اللاب توب” ومجوهرات الأم ونقود. ولم يستطع الهروب من المدينة فأختبئ في شقة، لكنه هرب منها قبل أن تقبض عليه الشرطة، هرب بالأشياء التي سرقها.
هرش رشيدي في أذنه.. أدركَ أنّه تسبب في هروب اللص الذي سرق بيته، لأنّه أفشى سر رجال الشرطة، لذا أبيه لم يزل غاضبًا وحزينًا وسيظل هكذا إلى وقت غير قليل، أمّه أيضًا ظهر على وجهها حزن عميق، حتى أخيه الصغير لم يتوقف عن الصراخ.
هرشَ في أذنه مرة ثانية، في الأيام الأخيرة، راودته رغبة في حك أذنه بشكل غريب، اعتاد أن يشعر بسخونة شديدة في أذنه، ثم، في أقل من دقيقة، يشعر ببرودتها كأنها قطعة ثلج.
دخل غرفته، وقفَ أمام المرآة، نظر إلى أذنه الحمراء مثل ثمرة الفراولة، حكّها بيده، فاشتدت احمرارًا، كان الأمر مزعجًا جدًا بالنسبة له، قد يكون الأمر متعلقًا بمرض جلدي أصابها، قرر في الصباح أن يخبر أمه بذلك.
فتح نافذته التي تطل على الشارع، في الليل يكون صوت الجيران عاليًا، أرهفَ السمع، النوافذ الكثيرة المفتوحة تبعث إلى أذنه أصوات الجيران، راح يمرّغ أذنيه في الهواء ليلتقط الأصوات المحمّلة بالكلمات.
أخبرته أمّه أنّ يكف عن التصنّت على الجيران، قالت:
– الكثيرون يشتكونَ منكَ يا رشيدي، لا تكن مزعجًا حتى لا يكرهك الناس. هل تريد أن ينظر إليك أحدهم وأنتَ جالس في الحمام!؟ ها! لماذا أنتَ صامت وذاهل هكذا، قل شيئًا
– لا أحب أن يرني غريب وأنا في الحمام.
– إذن لا تحاول أن تسمع ماذا يقول الآخرين إذا كانوا يتحدثون في أمور تخصهم، لا تجهد نفسك في معرفة أسرار الناس يا بني ما داموا لا يريدون لك أن تعرف، لأنّك تكون قد اعتديتَ عليهم مثلما يفعل المجرمون.
لكن رشيدي لم يطع أمه، وظلّ يفعل ما يحلو له، حتى بدأ البعض يتجنبونَ الاقتراب منه أو الحديث معه، وقلّ عدد أصدقائه، لكنه كان مستمرًا في عادته السيئة.
وبعد أيّام، وقفَ أمام المرآة، يسأل نفسه: هل أذني صارت أكبر حجمًا! أم أنّه مجرد شعور خاطئ، الطبيب أخبرني أنّ الأمر بسيطًا، وليس هناك مشكلة خطيرة، لكن أذني صارت أكبر حجمًا بالفعل!
قرر أن ينام وينس كل شيء، في الصباح ربما ستعود أذنه إلى حجمها الطبيعي مرة أخرى. أثناء استلقائه على السرير، قبل أن يغوص في النوم، سمع صوت أحد الجيران، لم يكن مفهومًا من الصوت شيء، مجرد همهمات. من فوره ترك سريره وذهب إلى نافذته التي كانت مواربة، في معظم الأحيان يبقيها مواربة حتى تدخل الأصوات إلى غرفته في كل وقت، ولا يفوته شيء.
نظر إلى شقة في العمارة المجاورة، الصوت ينبعث من هناك، الأستاذ إبراهيم جارهم يوبّخ ابنه عصام بشدة، هل سيضربه، قد يصل الأمر إلى هذه الدرجة، لكن عصام طيّب ولا يستحق الضرب، وما السبب في كل هذا يا تُرى..
في هذه اللحظة، نظر الجار إلى رشيدي نظرة قاسية، قبع رشيدي رأسه بين كتفيه من الخجل، وجه الجار الغاضب كلامه إلى رشيدي قائلًا: أيّها اللص الصغير، أيها المتصنّت، أغلق النافذة وعد إلى سريرك، سيكون عقابك شديد.
ثم أغلق الجار نافذته بعنف، وفي الآن نفسه، خرج الجيران على صوت الجار الغاضب، ووجهوا نظرات مشمئزة نحو رشيدي، ثم بدأوا في إغلاق نوافذهم بذات الطريقة العنيفة التي أغلق بها الجار نافذته.
في الصباح، كان رشيدي لم يزل في سريره، يحاول الاستيقاظ، أحسّ بتعب في جسمه، شعر أنّ رأسه ثقيلًا, كأنّ شيء ما مربوطًا في رأسه، لم يكن مرتاحًا، قام من سريره، مشى خطوات في غرفته، مرّ بالمرآة الكبيرة وهو ينظر إليها نظرة خاطفة، تخطى المرآة، لكنه توقف في مكانهن بلع ريقه بصعوبة، رجع ليقف أمام المرآة مرّة أخرى، حينها، عندما وقف أمام المرآة ونظر إلى صورته المعكوسة أمامه، شعر بصدمة شديدة، لأن شكله في المرآه كان مخيفًا، رأى أذنه وقد صارت كبيرة، كبيرة جدًا جدًا، أكبر من رأسه، تحسس أذنه في دهشة وعدم تصديق، سأل نفسه عن الذي يحدث، كيف ولماذا صارت أذني بهذا الشكل المرعب، ضخمة مثل أذن الفيل، عريضة وتنسدل على كتفيه!
ما الذي يجب أن يخبر به أسرته الآن، كيف سيخبرهما بالذي حدث. وضع فوق رأسه منشفة كبيرة، ونزل السلّم، حيث أبيه وأمه وأخيه الصغير على مائدة الطعام، ذهب إلى مقعده بجانب أخيه..
شدّ أخيه المنشفة..
صراااااخ يملأ الشقة..
كانت أذن رشيدي يكبر حجمها كل يوم، ولم يستطع الأطباء تحديد السبب، قالوا أن الأمر غريب، لم يصادفوا حالة مثل حالته من قبل.
لم يكن من خيار سوى أن يظل في بيته، واشترت الأم ملابس واسعة مزودة بقبّعة فضفاضة حتى يتمكن رشيدي من إخفاء أذنه فيها في الأوقات التي يخرج فيها إلى الشارع، لكن في كثير من الأحيان تفشل كل الحيل في إخفاء الأمر عن العامة، اكتشف الجيران الأمر، وراح الكثير من أصدقاء رشيدي يتوافدون لزيارته، بعضهم كان يسخر من أذنه الغريبة، وكانت الأم تسمح لهم برؤيته حتى يخففوا من الألم الذي يشعر به، وتظل معهم حتى ينصرفوا.
وفي احدى الليالي، أثناء ما كان يستعد رشيدي للنوم، دخلت أمه غرفته, وقالت:
– الناس يقولون صارت أذنه كبيرة لأنّه كان يتنصت على الناس.
– أسف يا أمي، يبدو أنّ كلامهم حقيقيًا، لكن ماذا يجب أن أفعل حتى تصغر أذني، أنا شديد الندم.
– هل أنت صادق؟
– نعم، لن أتنصت على أحد، هذا وعد.
– أعرف طريقة يُمكن أن تعود بها أذنك صغيرة.
– قولي أرجوكِ.
– يجب أن تعتذر لهؤلاء الذينَ تسببت لهم في مشاكل كثيرة، يجب أن يعرف الناس جميعًا أنّك لم تعد مزعجًا، وأنّك نادمًا.
– لكن كيف أفعل ذلك.
– لا أعرف، فقط ابحث عن طريقة.
– ولماذا أنتِ متأكدة من أنّ أذني ستعود إلى شكلها الطبيعي.
– لست متأكدة، فقط دعنا نجرب.
أخذ رشيدي يُفكر في طريقة يعتذر بها لجميع من تصنت عليهم، لكن كان الوقت يمر دونَ أن يجد الطريقة، هل يذهب إلى بيوتهم ويقدم اعتذارًا، لكنه لا يعرف أين يسكن جميعهم، استمر في البكاء وهو يقف أمام المرآة ويداعب أذنيه الضخمتين، سينام دون أن يعثر على طريقة، لكن المشكلة التي صارت متكررة تواجهه الآن مرة أخرى، لا يستطيع وضع رأسه على الوسادة، أذنه الضخمة تعوقه، لذا أسند ظهره إلى الحائط ونام في هذه الوضعية الغير مريحة.
لا أعرف تحديدًا ماذا حدث في الصباح.
البعض يقول لم يحدث شيء، وإلى الآن لم تزل أذن رشيدي ضخمة.
أخرون يقولون أنّ رشيدي، بعد مرور سنة وثلاثة شهور، وجد طريقة ليعتذر بها، ولم يقولو شيئًا عن أذنه.
والبعض يقول أنّ أذنه عادت صغيرة في الصباح لأنّه ندم بالفعل وشعر بالذنب، وأنّه تغيّر وأصبح صبيًا رائعًا يساعد جيرانه والجميع صار يحبه.