كتب: محمد فيض خالد
لم يخطر ببالي أن تزل قدمي لهذا العالم السحري ،لم أحسب أن تتحنن الأقدار لأجد مكانا تحت سقف البلورة الكبيرة التي طالما تمنيتها طفلا غريرا، ينبش بأظافره اللينة تراب الجدران مع رغوة الصباح المنعشة، لا أعرف من فنون الكلام وضروب الحكي شيء، ولا أجد في كلمات الثناء، نظرات إعجاب الأهل ما يستحق ، ولا أخال مبررا لمشاعر الحقد التي تطفر بها عيون قلة من الجيران ،الذين وجدوا مع سخف تهتهتي ،ما لم يروه في أبنائهم ، الذين نفروا منهم، وعابوا خيبتهم، وترصدوا ذاك الحدث المتفلسف مثال النجابة ، تثير أفعالهم غير المتزنة من نظرات محمومة حفيظة جدتي لأمي ،فهي أدرى بخبيئة صدورهم ،تحجبني عنهم ، وتغلق دونهم ألف باب ، وتجاهر في جرأة الكبار بعبارات استهجان مضحكة علها تردعهم، كل هذا لم يكن له في نفسي تفسير ، ولا أجد في نفسي ميزة تحرم صغيرا في عمري من أن ينطلق كما العصافير، أن اتكشف عالمي الذي تعالى ندائه داعيا.
في هاته الأيام كنت على يقين بأن خلف باب الأفندي سر الخلطة ، فهو المهندس الأكبر لمملكة الكلام والمتصرف فيها، ربما لم تتح لي الفرصة بعد لأحكم عليه ، واستبين بجلاء كامل عبقريته في توليف الكلام وتزويقه ،اللهم غير أحاديثه الصباحية المجتزئة حين يخرج لجلب حاجاته ،لكنها ليست كافية وإن كانت حميمية مسلية.
أخيرا واتتني الفرصة لأصبح سميره المقرب ، كيف تم ذلك؟! لا تسألني ، فلن أجيبك ، لكني سأحاول أن أكون كريما معك لأقول والحسرة تعتصر فؤادي ، حين أصبح تقاربنا مثار تندر ،وموضع سخرية لأهل الدرب ،فلم يولوا اهتماما ،بعد أن اعتبرت قلة منهم أنها مفسدة للوقت ، لن أجني معها غير وجع الدماغ ، وقصص معادة من عجوز هرم، يوشك يغيب عنه نهار عمره ،لأهل القرية أحوال مع الأفندي ، تعودوا ملاقاته بابتسامات مزورة ومشاعر كاذبة ،وليس أدعى للسخرية والهزء وهم يرددون في تبجل مصطنع :” سلامات يا أفندي ، ربنا يخليك لينا ” ، يعي العجوز بمكرهم ، ويعلم ما يبطنون من خبث ، لكنه يجاري مكرا بمكر ، ودهاء بدهاء، كانوا فيما سلف رهن إشارة منه ،تقوم الدنيا ولا تقعد ، زمن كان سيد القرية المطاع ، زينة الشباب ،وعائلته موفورة الجانب ، وصاحبة الثروة والصولجان ، التي يتزلف إليها الكبير قبل الصغير ، أما الآن وقد تبدلت الأرض غير الأرض ، واختلت الموازين ، وتساوت الرؤوس ، يوم عرف الأجري طريقه نحو العراق وليبيا والخليج ،هبطت الثروة عليهم أنستهم أصولهم ، وهالت التراب على ماضي أجدادهم التعيس ، ومضى أبناء الأمس الأغبر في تلهي يهزهز بهرج مجد زائف ، وعز حديث.
ها أنا انفلت لدنيا الحكايات السحري من أوسع أبوابه ،لا تعنيني تفاهات القوم في شيء مالي وللظنون ، تلك رغبتي وأنا معها حتى ابلغ اليقين ، في مدخل البيت ومن فوق الكنبة الخشب القديمة كانت جلستي ، في مواجهة شجرة التوت العتيقة التي مالت ناحيتها ، وكـأنها مثلي مالت للحكايا ،اكتشفت بعد مدة مخازن الحكايا بنفسي ، ووضعت يدي اتحسس حيطانها ، وضعت أذني في تلذذ ، ينساب كلام العجوز من فم ملئ بالعنفوان سيالا لم تفتض بكارته ،كأنه خرج لوقته من عوالم الغيب الفتانة ،لم يبخل صاحبنا علي في شيء بل كان سخيا ، وكـأنه وجد في جليسه الصغير بعض ما به ، رمى إلي بمحصوله ، وجد أخيرا من يسمعه ، تتأتى المرويات من عوالم الماضي تتبختر في ثياب زاهية ، تحمل طراوة الذكرى ،يهب من مكانه ،يؤشر بأصابعه الطوال في الهواء، وكأنه يقود جوقة موسيقية، يرجع طفلا ومرات يافع قد عشق الحياة ،وفي أحيان كهلا خبر الدنيا وأصطلى بنار تجاربها، يفرح ويحزن ، يكره ويجامل في أنفة ، لكنه لا يذكر الحاضر إلا لماما ، يوبخه وأهله في سخط ،يغيم وسط سحب دخان من بقايا نفسه المحترقة ،في فوران يتلقط الخيط ينتظم في لضم حبات سرده الماتع ،يطوف في اندماج يأخذه عن الوجود ، يلقي بطرفه ناحية السقف الخشبي المتهالك، تنفرج شفتاه اليابستان عن ابتسامة طفل برئ ، تكشف عن فم خالي إلا من بعض أحجار تشاور نفسها كي تسقط .
مسني طيف منه ،فجعلت البس كلامي بعض حكمه وطرفه ، حتى ذاع صيتي ،وعدني الناس من ظرفاء القرية ، تقمصت كل لوازم صديقي ، حتى إشارات يده الهائجة ، اسكت حين يسكت واتكلم حال استدعت الضرورة .
مضينا وصاحبي ،حتى وصلنا لمفترق الطرق ، لكني لا اخالها النهاية ، شعرت بالتعاسة حين أصاب صاحبي مرض التكرار ، بدأ في اجترار الحديث ،لكني ظللت اسمع واسمع ، اقنع نفسي بأني لم اشبع بعد ، ربما هم الهاجس الذي جعلني اظن بأن في صدر الرجل لا تزال صبابة من حديت الأمس، أخفاها متعمدا عني ، جاهدت كي استفزه ، لكنه كان أشد دهاء ، فاكتفى مني بعيارة يرددها في هدوء غريب :” دع الخلق للخالق “.