خاص: قراءة- سماح عادل
رواية “آخر الأيام الدافئة” للكاتبة الألمانية “ريكارده يونجه” تحكي حكي ذاتي عن فتاة في أواخر العشرينات من عمرها، كيف كبرت في ظل انقسام ألمانيا، وكيف أثر ذلك على عائلتها إنسانيا، مما أثر عليها بالضرورة، ورغم أنه حكي أقرب إلى السيرة الذاتية إلا أنه يحوي دلالات كثيرة عن المجتمع الألماني في فترة ما بين الخمسينات وحتى الوقت الراهن.
الشخصيات..
آنا : البطلة، هي في أواخر العشرينات، تعمل في شركة يونفرسال للأحذية، تكتب نصوص إعلانية لترويج المنتجات لهذه الشركة، تعمل دون ضمانات، عمل غير ثابت، تعاني من الأرق الدائم والوحدة، تحكي عن نفسها منذ طفولتها، وكيف كانت تحلم طوال الوقت أن تصبح كاتبة.
كريستينا: أم البطلة، كانت تعمل طبيبة، تأثرت طوال حياتها بهروبها من ألمانيا الشرقية برفقة عائلتها، وتأثرت أكثر باختفاء والدها والذي لم تعلم عنه شيئا بعد ذلك، وظل هذا الهروب محركا لها في حياتها، حيث فقدت الثقة في الناس وخاصة الرجال، كما أنها كانت تشعر دوما أنها لاجئة حتى وهي في منزلها، وكانت لا تحب جلب أثاث كثير في المنزل.
ايكه: أخو البطلة، يدعمها دوما في حياتها مما يدل على الترابط الأسري، حين لا تكمل تعليمها الجامعي يساندها ويجعلها تعيش معه في شقته، ويوفر لها عملا في الشركة التي تعمل بها، وهو دوما يعتني بها.
لورا: جدة البطلة لأمها، تكتمت طوال سنين عن سر اختفاء زوجها ولم تخبر ولديها به، حتى أنهما نشئا حاملين عقدة اختفاء الأب.
جورج: خال البطلة، ظل طوال حياته يكره هروب أسرته من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية، مما جعله يفشل في حياته العملية ولا يكمل تعليمه، ويصبح عاملا ثم عاطلا سنوات من حياته، ويظل يبحث عن سر اختفاء والده إلى أن يرحل وحده في شقته.
الخالة هانه: صديقة أم البطلة، كانت تعيش في ألمانيا الشرقية وكانت الأم تحرص على زيارتها بشكل دوري، والمكوث بعض أيام عندها وجلب السلع التي كانت غير موجودة في ألمانيا الشرقية.
كارل: جد البطلة لأمها، حينما عزم على الهروب من ألمانيا الشرقية وكان يعمل عاملا بإحدى الشركات الحكومية، وأخذ طفليه وزوجته ونفذا بالفعل خطة الهروب، انتابه الحنين الحارق إلى بيته وإلى بلدته، وظل يوزع صور عائلته على معارفه، ثم اتخذ قراره ورجع مرة أخرى إلى ألمانيا الشرقية بعد أن عرض على زوجته الأمر ورفضت، متوهما أنهم سيقبلونه ويسامحونه على هربه، بعد أن ضلله أحد أصدقاءه من الموظفين الحكوميين، وأول ما رجع تم إلقاء القبض عليه وحكم عليه بالسجن عشر سنوات لهروبه، وشنق نفسه في السجن، لكن طفليه لم يعلما بأمره إلا بعد سنوات طويلة، بسبب حرص أمهما على إخفاء الأمر.
بنيدكت: جد البطلة للأب، رجل بسيط عاش في ألمانيا الغربية، واستطاع أن يصبح تاجرا بافتتاح محل صغير في بداية حياته في الستينات هو وزوجته، ثم تحسنت أموره المادية، كان يريد أن يصبح كاتبا لكن أعباء الحياة الواقعية أجهضت حلمه، لذا منع ابنه من أن يصبح كاتبا أيضا وتعامل معه بقسوة، لكن حين أبدت حفيدته رغبتها بأن تصبح كاتبة شجعها بحماس وظل مساندا لها حتى وفاته.
ماكسميليان: صديق للبطلة منذ أيام الطفولة، ينتمي لعائلة غنية، لكنه ابن رجل فقير وبائع كتب، تزوجت أمه من رجل فاحش الثراء لذا أحس طوال حياته بالغربة والوحدة، خاصة عندما رفضه والده الحقيقي ودفعه كثيرا أن يقبل حياته مع أسرته، توفت أخته نتيجة لمرض فقدان الشهية، وظل هو معذبا سنوات طوال نتيجة إهمال أمه له وإحساسه أنه لا يجد الحنان والاهتمام من عائلته. أحبته البطلة لكنه لم يكن صديقا داعما لها وتركته في النهاية لتحب شخصا آخر.
كونستانتين: رجل حمسيني تعرفت عليه البطلة في الوقت الحاضر، تقرب منها وظل يعاملها بلهفة، يعمل كثيرا حتى أنه أصيب بالمرض جراء ذلك، ويكره الالتزام العائلي مما جعله يطلق زوجته ويتخلى عن رعاية ابنه، وحين علم أن البطلة قد حملت طفلا منه تخلى عنها وحاول اقتناعها بالإجهاض والضغط عليها.
الراوي..
الراوي هو البطلة “آنا” التي تحكي بضمير المتكلم، وتحكي عن باقي الشخصيات من خلال رؤيتها لهم وتفاعلها معهم في علاقات اجتماعية وإنسانية، تحكي عن كل الشخصيات من خلال تقاطعها معهم ومن خلال دورهم في حياتها، تبدأ الحكي عن الحاضر ثم تنتقل إلى الزمن الأقدم، حيث تحكي منذ طفولتها وحتى فترة المراهقة، ويتناوب الحكي بين الحاضر والماضي على طول الرواية لتنتهي الرواية بالزمن الحاضر.
السرد..
يتسم السرد بالحياد التام، رغم أن الرواية تبدو أنها سيرة ذاتية للكاتبة إلا أن السرد يخلو من أية انفعالات إنسانية تبديها الراوية، فقط حكي محايد تماما لا يشعر معه القارئ أن البطلة متأثرة بأية أحداث تمر في حياتها، تحكي عن نفسها بالأساس وعن الشخصيات الأخرى عرضا، في أثناء حكيها عن نفسها وكيف أثروا فيها وتأثرت بهم، يعتمد السرد على التقطيع ما بين الزمن الماضي الذي يستمر بالتصاعد والقفز عبر السنين وبين الزمن الحاضر الذي يدور في وقت قليل نسبيا، لتنتهي الرواية نهاية سعيدة لكن القارئ يشعر أن البطلة لا تحتفي بهذه النهاية بما فيه الكفاية، وإنما تقررها إقرارا، تقع الرواية في حوالي 454 صفحة من القطع المتوسط..
معاناة الألمان من اشتراكية سلطوية ورأسمالية جشعة..
رغم أن الرواية تركز بشكل أساسي على حكاية عادية، حكاية عن فتاة ألمانية تعيش حياة عادية وتتمنى أن تصبح كاتبة، وكيف أنها تعاني من عزلة اجتماعية، ومهووسة بجمع الأشياء، أية أشياء، والتي يعتبرها والداها قمامة، لكنها تصر على أن تلك الأشياء البسيطة تحمل حنينا إنسانيا داخلها، كما تحكي عن إخفاقاتها العاطفية نتيجة كونها شخصية انعزالية وحساسة منذ أن كانت طفلة ومراهقة، وحتى بعد أن أصبحت في أواخر العشرينات.
لكن أثناء الحكي تستطيع الرواية أن تنقل صورة واضحة لألمانيا منذ الخمسينات وحتى الوقت الراهن، فهي تحكي عن الجد “كارل” الذي رحل وعائلته من ألمانيا الشرقية بعد أن كان أحد العمال وأحد أعضاء الحزب الشيوعي، لكنه فهم أن الحزب متسلط وأنه يغير سياسيته طوال الوقت، كما أنه يحكم قبضته على ألمانيا الشرقية وينشر الجواسيس في كل مكان حتى في أوقات الترفيه، فهناك أفراد ينقلون كل حركة أو كلمة أو اعتراض للحزب، هذا مع عدم توافر سلع كثيرة وحرمان معظم الألمان في ألمانيا الشرقية من أية حياة كريمة، وعيش معظهم بالكاد، ومع تخبط الحزب وعجزه عن إدارة حكم ألمانيا الشرقية بشكل جيد ومن يعترض يتعرض للقمع والاضطهاد والسجن الطويل.
كما تحكي كيف أن موظفين الحكومة يتعاملون بولاء مريب وتام، حتى أنهم يتعاملون بقسوة مع أم البطلة حين تجيء من ألمانيا الغربية لزيارة صديقتها “هانه”، وحين تشعر بالحنين إلى بيتها، خوفا من عقاب السلطة التي تعاقب أي ممن يتعامل مع مواطني ألمانيا الغربية، وكيف كانت ألمانيا مقسمة بشكل حاد في ذلك الوقت وحتى سقوط جدار برلين في نهاية الثمانينات، وكيف أثر كل ذلك على عدد كبير من الألمان، سواء الذين يعيشون في ألمانيا الشرقية أو الذين يعيشون في ألمانيا الغربية، فقد كانت هناك عائلات مقسمة ما بين البلدين، وكان يمتنع عليهم التزاور أو رؤية بعضهم البعض لسنوات طويلة، مما خلف حزنا وجروحا نفسية كبيرة داخل ألمان كثيرون، كانت أم البطلة واحدة منهم، حيث أنها عاشت طوال حياتها مضطربة نفسيا لكن بشكل لم يمنعها من تكوين حياة جديدة، والعمل كطبيبة وإنشاء عائلة وتربية طفلين، لكنها كانت تحمل داخلها دوما شعورها بعدم الأمان، وإحساسها بأنها لاجئة وليست في وطنها، حتى أنها كانت تخاف من جلب أثاث ثقيل أو كثير، وكانت تدخن كثيرا وتنتابها نوبات عزلة واضطراب.
وقد فسدت حياة الخال “جورج” تماما بسبب حنينه إلى بيته وحزنه على فقدان أبيه، وظل طوال حياته متحسرا على ذلك مما منعه من مواصلة حياته أو بناء حياة جديدة.
لكن الكاتبة مع ذلك لم تصور ألمانيا بعد الاتحاد وطنا كاملا، بل أشارت أثناء الحكي إلى نسبة البطالة العالية الموجودة في ألمانيا، وكيف تتحكم الرأسمالية في أعداد كبيرة من العمال وتوظفهم بشروط عمل مجحفة إنسانيا، حيث لا توفر لهم أي ضمان اجتماعي ولا تثبت عقودهم، وحين تحدث تغييرات نتيجة لبيع أو شراء أو دمج أية فروع لأية شركة يتم طرد عدد كبير من العمال، دون إعطاءهم أية حقوق مادية، ودون مساءلة قانونية من الدولة، ويصبح عددا كبيرا من الناس تحت رحمة إعانات الدولة.
كما رصدت الإنجاب كعبء كبير على الشباب الذين يعانون من إيجاد عمل ثابت يوفر لهم حياة كريمة، وجشع الرأسماليين المتمثل في” كونستانتين” الذي كان يتعامل مع البطلة بتعالي كبير وفوقيه، رغم أنه يدعي أنه متلهف عليها وعلى الاقتراب منها، لكنه اشترى الشركة التي تعمل بها، متسببا في طردها من العمل، وحين علم بأنها حامل منه وتنتوي الإبقاء على الطفل ساومها أن يوفر لها عملا في مقابل الإجهاض.
الرواية ثرية تحوي رصدا للعلاقات الإنسانية التي تخربها أمور السياسة، عائلات بأكملها قد تخرب حياتهم بسبب أن المجتمع ليس على ما يرام، سواء أكان تحت رحمة نظام اشتراكي سلطوي قامع مثل النظام الستاليني، أو تحت رحمة نظام رأسمالي جشع، كما يصبح الإنسان مغتربا عن ذاته وعن المجتمع بسب ذلك.
الكاتبة..
ولدت “ريكارده يونجه” عام ١٩٧٩ ودرست بالمعهد الألماني للأدب في لايبتسيج. واتجهت بعد ذلك إلى دراسة علم اللاهوت البروتستانتي في مدينة فرانكفورت. تمثَّلت أولى أعمالها في مجلد روائي بعنوان “Silberfaden” (خيط من الفضة). ثم قدَّمت بعد ذلك عدة روايات، من بينها رواية “Die letzten warmen Tage” (آخر الأيام الدافئة) الصادرة عام ۲۰۱٤. وحصلت “يونجه” على جائزة جيرنهاردت في عام ۲۰۱۳ من بين الجوائز المختلفة التي حصلت عليها عن أعمالها. تقيم “ريكاردا يونجه” مع أسرتها بين مدينتي برلين وفرانكفورت.