4 مارس، 2024 7:09 م
Search
Close this search box.

مفهوم “الزمن” فلسفيًّا وسرديًّا في رواية (الساخر العظيم)

Facebook
Twitter
LinkedIn

إعداد/ عبد الحسين صنگور
مدخل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أزعم أنّني من القرّاء الجادّين لنتاج أمجد توفيق القصصي والروائي منذ بدايات سبعينات القرن الماضي ولحد الآن، ولي فيه مقالات ودراسات منشورة.
هذه الدراسة ستركّز على قضايا أساسيّة طرحتها الرواية أهمّها: علاقة الزمن بالسرد شفاهيًّا ومكتوبًا، مع تأصيل لمفهوم الزمن ” فلسفيًّا “، التناقض الموجود بين ” الفن السردي ” و” التأريخ “، بوصفهما مجالان يعتمدان النثر السردي، كلٌّ في مجاله، أشكال السرد وعناصره وتقنيّاته التي استخدمها الكاتب في تنفيذ نصّه الروائي، ” المكان ” / (الموصل) بصفتها (شخصيّة محوريّة) في العمل.
إضافة الى ما تقدّم ستسعى الدراسة للإجابة عن سؤال أساس: ما هي عناصر سرد (السيرة الذاتيّة) في رواية الساخر العظيم؟، مع مقارنة حول استخدام ” تقنيّة ” أو” خدعة ” ” المخطوط ” أو ” الرسائل ” في بعض الروايات العراقيّة.
سأكون حريصًا في محاولتي معالجة هذه المحاور في ضوء النصّ الروائي نفسه، ولا شيء آخر غيره.

2. مفهوم الزمن ” فلسفيًّا ” و ” سرديًّا “:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من الشائع في أدبيّات النقد الروائي: ” أنّ الرواية هي فنّ الزمن، مثلها مثل الموسيقى، وذلك بالقياس إلى فنون أخرى كالرسم والنحت، لذا كان أمجد توفيق واضحًا جدًّا في تفسيره لعنوان الرواية، منذ مدخلها القصير جدًّا بقوله ((أنا الراوي العليم كليُّ المعرفة، قررتُ أن أفتحَ السخرية على معناها، عندها فقط، ستتحقّق عظمة مملكتي …. لابدّ من الانفتاح على المعنى العميق للسخرية …. عندها تتحقّق الحريّة أو الشعور بها، وعندها فقط ندرك أنّ الزمن هو الساخر العظيم أو الساخر الأكبر)).
لذا، فإنّ الرواية تعتمد مسارين مختلفين في ظاهرهما، لكنّهما متّفقان في جوهرهما: الأوّل، ” سعد ” ابن ” الحاج شهاب الأصيل ” رجل الأعمال الموصلّي، وشقيقه ” جلال “، والثاني، ابن عمّهما ” سيف ” ابن ” الحاج إبراهيم الأصيل “، الصحفي الشاب الموهوب ومدير قناة فضائيّة تأسّست بعد عام 2003، وصاحب التجارب والمغامرات النسائيّة العديدة، ودون شك بقيّة شخصيّات الرواية مثل الجدّ ” سلمان ” وصاحب القناة ” فهد الجاسر “، والفتاة الإيزيديّة ” بهار ” وغيرها من الشخصيّات، لابد أن تصطف زمنيًّا إلى هذا الجانب أو الآخر أو كليهما.
سأستعير مصطلحين جغرافيّين هما: (المناخClimate ) لوصف ” سعد ” لأنّه أكثر ثباتًا في متغيّراته وأطول من ناحية الفترة الزمنيّة، و(الطقس Weather) لوصف ” سيف ” الأكثر سرعة في تلك المتغيّرات والأقصر من ناحية هذه الفترة الزمنيّة، مع العرض أنّ هذين المصطلحين لهما علاقة عضويّة ووثيقة جدًّا بالزمن ووصفه ومفهومه وتنويعاته.
أنَّ للزمن Time باللغة الإنكليزيّة مفاهيم عدّة على مختلف العصور فعند (أفلاطون) مثلًا هو تحديدًا ” كلّ مرحلة تمضي لحدثٍ سابق إلى حدثٍ لاحق “، فيما اتّفقَ معظم الفلاسفة الغربيّين من (أرسطو طاليس) إلى (برتراند راسل) إلى أنّ (للزمن مظهرًا معقّدًا وملغّزًا لا ينتهي إلى الاتّفاق حول ماهيّته وطبيعته)، إذ أنَّ الزمن ( مظهرٌ نفسيٌ لا مادّيٌّ، ومجرّدٌ لا محسوسٌ، ويتجسّد الوعي به من خلال ما يتسلّط عليه بتأثيره الخفيّ غير الظاهر، لا من خلال مظهره في حدّ ذاته، فهو وعيٌ خفيٌّ، لكنّهُ متسلّطٌ، ومجرّدٌ، لكنّه يتمظهر في الأشياء المجسّدة).
من هنا، أجدُ أنّ من حقّ الروائي أمجد توفيق أنْ يصف زمنه بالطريقة التي يراها: ساخرًا عظيمًا أو دكتاتورًا جبّارًا أو سلطةً غاشمة أو ديمقراطيّة أو امرأةً جميلةً أو شخصيّة من قاع المجتمع مثل (أبي هاشم الأعمى) أو (سامي) الداعشي ابن أشهر قوّادة في الموصل أو شخصيّة مثل (فهد الجاسر)، بسبب ((أنّ كلّ فيلسوف يخضعه لطبيعة المذهب الفلسفي الذي يروّج له، وينضح عنه، ويعني ذلك أنّ الاجتهاد في بلوَرة هذا المفهوم مفتوح إلى يوم القيامة)).
لذا، قبل أن أعالجَ مفهوم ” الزمن السردي “، أجدُ لزامًا عليَّ أن أكملَ أنواع الزمان المختلفة، كما أوردَها الدكتور عبد الملك مرتاض في كتابه المهم (في نظريّة الرواية، بحث في تقنيّات السرد)، علمًا أنّ كلّ المقتبسات الواردة في أعلاه اعتمدت على هذا الكتاب.
فالزمان لدينا أنواع مختلفة:
أوّلها: الزمن المتواصل والزمن المتّصل غير الزمن المتواصل، وذلك على أساس أنّ الأوّل لا يكون له انقطاع، في حين أنّ الزمن المتواصل يمضي متواصلًا دون إمكان إفلاته من سلطان التوقّف … فهو زمن طولي يتواصل أبديًّا، ولكن حركته ذات ابتداء وذات انتهاء.
وثانيها: الزمن المتعاقب، وهذا الزمن دائري لا طولي، ولعلّه يدور من حول نفسه، وهو تعاقبي في حركته المتكرّرة، ولأنّ بعضه يعود إلى بعضه الآخر في حركة كأنّها لا تنقطع، مثل زمن الفصول الأربعة التي تجعل الزمن يتكرّر في مظاهر متشابهة أو متّفقة.
وثالثها: الزمن المنقطع أو المتشظّي، وهو الزمن الذي يتمخّض لحدثٍ معيّن، حتى إذا انتهى إلى غايته انقطع وتوقّف، مثل زمن الدول الحاكمة، وفترات الفتن المضطرمة.
ورابعها: الزمن الغائب، وهو المتّصل بأطوار الناس حين ينامون وحين يقعون في غيبوبة.
وخامسها: الزمن الذاتي، والذي يمكن أن نطلق عليه أيضًا ” الزمن النفسي ” حيث الزمنيّة فيه من حيث هي كينونة زمنيّة موضوعيّة لا تساوي إلّا نفسها، الذات هي التي حوّلت العادي إلى غير عادي، والقصير إلى طويل … كما في لحظات السعادة وفترات الانتصار.
أظنّ أنّ الروائي قد طبّق كلّ أنواع الزمان المشار إليها أعلاه من خلال رسم شخصيّات الرواية المتشابكة والمتعدّدة المستويات والواسعة الأفكار، حرصًا منه على بيان قوّة وتأثير (الساخر العظيم)، الزمن، في رسم حياة ومصائر ونهايات تلك الشخصيّات.
لا أجدُ فائدةً في عرض أو استعراض أحداث بعينها لبيان ذلك الحرص الذي واضبَ عليه المؤلّف لإبراز الفكرة التي كان يسعى لإبرازها، خاصّة أنّ أيّ عرضٍ مُبتسَر لأحداث الرواية سيكون غير ذي فائدة بسبب ضخامة تلك الأحداث والزيادة التي حرص المؤلّف عليها من خلال زجّ أعداد كثيرة من الشخصيّات، المركزيّة والثانويّة، في خضم تفاعلات الرواية.
ربّما إضاءة علاقة الزمن بالسرد الروائي قد تُضيء ما توصّل إليه أمجد توفيق في روايته من دمج وتقاطع وتماثل وتوازي ومقارنة لأنواع الزمان التي استخدمها.
يتّفق النقّاد الروائيّون على وجود ثلاثة أنواع من الزمن ترتبط بالحدث السردي، حسب الدكتور عبد الملك مرتاض وهي:
1. زمن الحكاية أو الزمن المحكي.
2. زمن الكتابة ويتّصل به زمن السرد مثل سرد حكاية شعبيّة ما، فنّ هذا المسعى يشابه فعل الكتابة، وإفراغ النصّ السردي على ” الورق ” لا يختلف عن إفراغ الخطاب الحكائي، والشفوي، على الآذان المتلقّية.
3. زمن القراءة، وهو الزمن الذي يصاحب القارئ وهو يقرأ العمل السردي.
هنا نجد مستويين زمنيّين لهما علاقة وثيقة بالسرد، الأوّل: مخطوطة الجدّ (سلمان) التي عثرتْ عليها الفتاة (بهار) في مخزن بيت العائلة القديم وتسليمها إلى حفيده (سعد) وتطوّرات قراءة المخطوطة ومحاولة فكّ رموزها وعمق تأثير المعلومات الواردة فيها عن أصول ذلك الجدّ عرقيًّا ودينيًّا، والثاني: رواية (الراوي العليم) للأحداث والذي هو كاتب الرواية نفسه، الذي أكّد في مدخل روايته: ((أنا الراوي العليم الذي قرّر أن يكشفَ عن وجهه، ويتخلّى عن مساحيق التجميل، ويمزّق الستارة التي يختفي وراءها)).
المعضلة التي واجهها ((الراوي العليم)) هي أنّ المخطوطة كُتِبتْ في زمنٍ ماضٍ، وروايته هو، تمّت كتابتها في زمنٍ آخر، لكن المفارقة أنّ خيوطًا تأريخيّة تربط ما بين الروايتين / المستويين السرديّين.
المخطوطة كُتِبت في زمن أزمة وعالجتْ أحداثًا راح ضحيّتها بشر وممتلكات وأرض ومعتقدات، والرواية الثانوية التي رواها ((الراوي العليم))، تمّت روايتها أيضًا في ظروف مشابهة وكانت الضحايا والخسارات أشدّ وأقسى وربّما أكثر إيلامًا.
الخبر الجميل في تلك المفارقة أنّ مخطوطة الجدّ تمّ اكتشافها في زمن القرن الواحد والعشرين الميلادي وهو زمن كتابة رواية ((الراوي العليم)) !!.
صدقًا، قرأتُ الرواية مرّتين، بتركيز وانتباه عاليين، وجدتُ أنّ الكاتب أجادَ رسم شخصيّاته واستثمر لعبة الزمن بطريقة ذكيّة ومحترفة، واستطاع أن يستثمر ” خدعة ” (الراوي العليم) الفنّيّة بشكل حاذق ويوزّع الأدوار والمسافات والمهام بطريقة متوازنة، مع إعطاء (سيف إبراهيم الأصيل) دورًا فيه الكثير من صفات وطبائع جدّه (سلمان) خاصّةً في حبّه للحياة وفعل الخير وبحثه عن (معنى) الأشياء، ولكن دون شكٍّ كان كلّ واحد منهما يبحث عن (المعنى) بطريقته الخاصّة بحكم اختلاف الظروف التأريخيّة والسياسيّة والاختلافات الشخصيّة والثقافيّة بالرغم من وجود أواصر جينيّة بينهما.

3. ” الفنّ السردي ” و ” التأريخ ” :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتّفق العديد من الباحثين على أنّ (الفنّ والتأريخ) هما قطبان متناقضان، وإنْ كان كلٌّ منهما معنيًّا بعلاقة التواصل مع الواقع بوساطة اللغة، إلّا أنّهما سياقان مختلفان، كما تقول الباحثة شيماء عبد الحسين إبراهيم من جامعة الكوفة في بحثها (أنماط السيرة الذاتيّة).
من هنا أصبح التفريق بين (الحقيقة السرديّة) و(الحقيقة التأريخيّة) أمرًا واجب التنفيذ، وهذه من المعضلات التي درسها النقّاد الروائيّون: إنّ السارد الروائي ليس مؤرّخًا اجتماعيًّا ولا كاتبًا يتناول مشاكل المجتمع بالبحث والتقصّي واقتراح الحلول والمعالجات، ولا هو كاتب (مذكّرات) يُعنى فيها بتصوير الأحداث التأريخيّة أكثر من عنايته بتصوير واقعه الذاتي، ولا هو من كتبة (الذكريات)، التي يُعنى فيها صاحبها بتصوير البيئة والمجتمع والمشاهدات أكثر من عنايته بتصوير ذاته، ولا تلك التي يكتبها البعض على شكل (يوميّات)، تبدو فيها الأحداث على نحو متقطّع غير مستمر بانتظام. (المصدر السابق / بتصرّف / أنماط السيرة الذاتيّة / شيماء عبد الحسين إبراهيم). بل هو كاتب يحرص على توفير الابداع والمتعة والجمال للقرّاء من خلال سرده الروائي مستفيدًا من التأريخ.
في ضوء هذا الفهم للعلاقة بين السرد الروائي والتأريخ، نجحتْ (الساخر العظيم) بالنأي بنفسها عن الرتابة التأريخيّة التوثيقيّة إلى حد كبير عبر ذكاء الكاتب ولغته الإيحائيّة التأمّليّة التي سعى من خلالها إلى الخلاص من التقريريّة والوصفيّة الكلاسيكيّة، قدر الإمكان، خاصّةً أنّ زخم الأحداث في الموصل واحتلالها من قبل (داعش) كان يفرض تأثيره على وجوب وصف مجريات الأمور بطريقة أخرى، إلّا أنَّ معرفة (الراوي العليم) بالمدينة وتأريخها وثقافتها، إضافة لموهبته وثقافته اللغويّة العميقة، ساعدته على ذلك كثيرًا، وصدق تعامله مع نفسه في تحقيق عمل أدبي إبداعي يستفيد من التأريخ ولا يقع أسيرًا له، قد أسهم في الخروج من هذه المعضلة.

4. ” عناصر السرد وأشكاله وتقنيّاته في (الساخر العظيم) “:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقول الدكتور محمّد عبد المطّلب في كتابه (بلاغة السرد):
(إنّ النصّ يطالب الناقد بأن يعامله بما فيه من خواصّ، لا بما يختزنه في ذاكرته من إجراءات محفوظة.)، إذ أنّ النقد التطبيقي يكون معتمدًا بالدرجة الأساس على المساحة السرديّة التي يمنحها النصّ للمتلقي، لأنّ للنصّ أحكامه وقوانينه التي تفرض على الناقد أن يتعامل بها معه.
ومن أجل تأصيل هذا المفهوم، معرفيًّا، لابدّ من العودة قليلًا إلى جذور السرد المعرفيّة وأصوله. فالسرد Narrative))، بحسب ما جاء في (معجم المصطلحات العربيّة في اللغة والأدب / مجدي وهبة وكامل المهندس)، هو ((المصطلح العام الذي يشتمل على قصّ حدثٍ أو أحداثٍ أو خبر أو أخبار سواءً كان ذلك من صميم الحقيقة أم من ابتكار الخيال))، والسرد يشترك مع (القصّ Narration) في ملتقيات ومتوازيات ومشتركات كثيرة، إذ أنَّ القصّ يأتي أيضًا ((ضمن سردٍ طويل كالقصّة أو الرواية أو ضمن حوار المسرحيّة)).
ولعلَّ العالم اللغوي (ابن منظور المتوفّي سنة 711 هجريّة) في كتابه (لسان العرب) يفيدنا كثيرًا في تأصيل مفهوم السرد، حيث يورد في باب سَرَدَ: ((السَّرْدُ في اللغة: تقدمةُ شيءٍ إلى شيءٍ نأتي به منسّقًا بعضه في إثر بعضٍ متتابعًا)). ويضيف سَرَدَ) الحديثَ ونحوهُ يسردُهُ سردًا إذا تابعَهُ. وفلانٌ سَرَدَ الحديثَ سرْدًا إذا كان جيّدَ السياق له)).
يتّضح من ذلك، أنّ للسرد عنصرين أساسيين هما: (الزمان) و(المكان)، إذ يُسهِما في تشكيل بيئة السرد وإطاره العام، من خلال الاستناد إلى تقنيّات محدّدة معتمدة في السرد الروائي، أهمّها: الحدث، الشخصيّة، الوصف، وغيرها من تقنيّات السرد.
إنّ مشكلة (الزمن) في السرد الروائي، ربّما، تعود إلى ((الفرق بين زمن الحكاية وزمن القول، فبينما يسير زمن القول في خط طولي مستقيم في معظم الأحيان، نجد أنّ زمن الحكاية متعدّد الأبعاد)) ــ حسب الدكتور صلاح فضل / نظريّة البنائيّة في النقد الأدبي ــ.
في حين أنّ عنصر (المكان) أو (الحيّز) يُعَدُّ مجالًا حيويًّا في الخطاب السردي بشكل عام والروائي منه خاصّةً. إنّ عنصر (المكان)، كان وما زالَ يشكّل جزءًا أساسيًّا من البيئة السرديّة للعمل الروائي من خلال علاقته مع عنصر الزمان، وبقيّة تقنيّات السرد الأخرى من وصفٍ وشخصيّةٍ وحدثٍ وحوارٍ وغيرها.
وبعبارة أخرى، كما يقول (كمال أبو ديب في كتابه ” في الشِعريّة “: أنَّ أيًّا من هذه العناصر في وجوده النظري المجرّد عاجزٌ عن منح اللغة طبيعة دون أخرى، ولا يؤدّي مثل هذا الدور إلّا حين يندرج ضمن شبكة من العلاقات المتشابكة في بُنية كلّيّة، والبُنية الكلّيّة هي وحدها القادرة على امتلاك طبيعة متميّزة إزاء بُنية أخرى مغايرة لها.).
من التقنيّات الأخرى الوارد استخدامها في السرد الروائي هي (الشخصيّة)، وهي واحدة من التقنيّات المركزيّة في العمل الروائي، إذ أنّ البُنية السردية في الرواية، يتم فيها تسخير(الشخصيّة)، ((لإنجاز الحدث الذي وَكّلَ الكاتب إليها إنجازه، وهي تخضع في ذلك لصرامة الكاتب وتقنيّات إجراءاته، وتصوّراته وآيديولوجيته: أيّ فلسفته في الحياة)) حسب الدكتور عبد الملك مرتاض.
ولتقنيّة (الحدث) أهمّيّة خاصّة في الخطاب السردي عامّةً لأنّ علاقته بـ (الزمن) تكون أفقيّة وعموديّة بالوقت نفسه: أفقيّة بوصف الحدث ممتدًّا في الحاضر وحاصلًا فيه ومتأثّرًا به، وعموديّة عَبرَ علاقة الحدث بزمنَيّ الماضي والمستقبل.
إنّ الحركة السرديّة في الرواية تعتمد اعتمادًا مركزيًّا على دور الحدث في تنمية هذه الحركة ورصد اتّجاهاتها وضبط نهاياتها وتوجيه شخصيّاتها بالطريقة التي تخدم هدف السارد وفلسفته، كما أنّ تطوّر حركة الحدث نفسه يعتمد بالوقت نفسه على عمق علاقته، رؤيةً وجمالًا، بطاقة الصراع المتولّدة من عناصر وتقنيّات السرد الأخرى.
قبل أن أنتقل إلى (أشكال السرد) أجدُ من الضروري الإشارة إلى تقنيّة سرديّة مهمّة مستخدمة بشكل كبير في (الساخر العظيم) ألا وهي (الحوار Dialogue ) بأشكاله المتعدّدة ليُضاف بوصفه تقنيّة سرديّة لها أهمّيّتها في بناء النص وحركة شخصيّاته وأحداث وطريقة الوصف المستخدم فيه، المختلفة باختلاف اتّجاهات الشخصيّات المتحاورة في رواية السارد.
يتّفق معظم نقّاد الرواية والمهتمّين بشؤون السرد بصنوفه كافّة على أنّ الأصل في أشكال السرد المستخدمة هو استخدام الضمائر في الخطاب السردي وهي ضمير الغائب (هو) الذي يحتلّ المرتبة الأولى في الاستخدام، ويأتي بعده ضمير المتكلّم (أنا)، وأخيرًا ضمير المخاطَب (أنت).
دون شكٍّ هناك إحالة إلى (الذات) عند استخدام السارد ضمير المتكلّم (أنا)، في حين أنّ ضمير الغائب (هو) إحالة إلى الموضوع، حسب الدكتور (مرتاض)، من جهة أخرى إنّ لجوء السارد إلى استعمال ضمير المخاطب (أنت) بصيغته المفردة أو الجمع (أنتم) إنّما يأتي لتشكيل علاقة بين السارد والمسرود له عبر استخدامات لغويّة وتقنيّات سرديّة سواءً في عنوان النصّ أو متنهِ، بهدف تحقيق الحضور الفاعل في ذهن المتلقّي، غالبًا، من خلال إنجاز وظيفة جماليّة ونفسيّة.
وذلك يأتي من خلال تضييق المسافة النصّية وتعميقها بين عناصر (الخطاب Discores) الأساسيّة: المرسل، الرسالة، المرسل إليه. وفي هذا الصدد يشير الدكتور عبد الناصر هلال في كتابه (آليّات السرد في الشعر العربي المعاصر): ((إنّ ضمير المخاطب ينقل السرد من المستوى الامتدادي الأفقي إلى ما يمكن أن نسمّيه السرد الرأسي الذي ينشأ في ظل تماهي صوتين يتحرّكان معًا ويتقاطعان ويتوازيان، صوت الراوي من جهة وصوت الشخصيّة المخاطبة (بفتح الطاء) من جهة أخرى، كما أنّ ضمير المخاطب يمنح الراوي / السارد فرصة المواجهة مع الذات / الشخصيّة ومحاصرتها وتأمّلها وكشف أبعادها ووعيها)).
إنّ صناعة آفاق سرديّة في النصّ الروائي من خلال استعمالات أشكال السرد يبقى مرتبطًا بإمكانات الكاتب / السارد، وتمكّنه من أدواته في خلق حركة تداخل بين عناصر السرد وتقنيّاته وأشكاله مجتمعةً، لأن النصّ السردي وحدة متكاملة ذات علاقات بنائيّة ولغويّة وسرديّة متكاملة، أيّ انفراطٍ أو تقصيرٍ في تكيل أيّ منها سينعكس حتمًا على نسيج النص السردي.
من خلال قراءتي المتمعّنة لرواية ” الساخر العظيم “، وجدتُ الكاتب حاذقًا وواعيًا لمهمّات ووظائف عناصر السرد وتقنيّاته وأشكاله بشكل محترف، ولعلّ استخدامه آليّة (الراوي العليم) واحدة من الأدلّة على ذلك، إذ أنّه استطاع بذلك الاستخدام أن يجمعَ بين كلّ أشكال السرد بطريقة موحية وفاعلة وتصبّ في النهاية لصالح هدفه في البحث عن (المعنى) في كلّ الأحداث التي رواها والشخصيّات التي نقلها من الواقع أو خلقها من خياله أو استدعاها من ذاكرة تأريخ المدينة وشخوصها.
كان لـ (الحوار) بوصفه تقنيّة سرديّة دورٌ حاسمٌ في ربط أجزاء الرواية، خاصّةً أنّه كان مكتوبًا بلغة رصينة، رشيقة، لا زوائد فيها، معبّرة وموحية، بالرغم من أنّ بعض مقاطع الحوارات لا تنسجم (فخامة اللغة) المستخدمة فيها مع صفات بعض الشخصيّات المتحدّثة وبنائها النفسي، خاصّةً بعض الشخصيّات النسويّة في الرواية.
بناء الشخصيّات، غالبًا، كان متوازنًا، موضوعيًّا إلى حد كبير، ومنسجمًا مع نسيج البناء الروائي بمجملهِ.

5. المكان (الموصل) في رواية ” الساخر العظيم “:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تتكوّن رواية الساخر العظيم من مدخلٍ قصيرٍ و58 فصلاً بواقع 646 صفحة عدا مقال (سيف إبراهيم الأصيل) المعنون (السلطة بـ (16) صفحة)، كلّ فصول الرواية والمقال الصحفي المرفق بها كان لمدينة الموصل كمكان حضورٌ واضحٌ ومؤثرٌ، إنساناً وحدثاً وشخوصاً وجغرافية شوارع وحارات وأزقّة وساحات.
لقد أوضحتُ سلفًا أهمّية عنصر (المكان) في السرد الروائي، وهنا أريد الإشارة إلى أنّ الكثير من النقّاد رصدوا ظاهرة غياب عنصر المكان في العديد من الروايات العراقية أو أنّه، على الاقل يبقى غائمًا وعائمًا وملتبسًا، وربّما تكون حجّة بعض الكتّاب في اعتماد هذا الأمر، (وهي حجّة مردودة أصلًا): ” البحث عن الحداثة” و” تجاوز المحلية ” والتجريب ” والتعبير عن قسوة المكان (العراق) بتجاوزه ” و ” التغريب ” وإلى غير ذلك من المقولات التي لا تصمد أمام وعي الناقد الحصيف، لكن السبب الحقيقي، في تقديري المتواضع، افتقار بعض أولئك الكتّاب إلى شروط الكتابة الروائيّة وهضم وتمثيل شروطها أو ضعف وعيهم بها، ناهيك عن قصور في أدواتهم الفنّية اللازمة لكتابة السرد الروائي أو عدم نضجها.
كانت الأماكن التي حصلت فيها الأحداث وتفاعلت معها الشخصيّات هي بشكل رئيس: بيت الحاج شهاب الأصيل الذي سكنه ولداه سعد وجلال بعد هجرته إلى اسطنبول هربًا من احتلال (داعش) للمدينة وممارسات تلك الجماعة الظلاميّة المتمثّلة بالقتل والسرقة والابتزاز وفرض سلوكيّات لا تّتفق مع روح مدينة (الموصل)، والآخر بيت العائلة الكبير المهجور حيث وجدت الفتاة (بهار) مخطوطة الجدّ (سلمان) في مخزنه، إضافة إلى مقر شركة الأخوين (سعد وجلال) الواقع وسط مدينة الموصل في منطقة الدوّاسة. كلّ الأماكن الأخرى مثل منزل العائلة في إسطنبول، مقر الفضائيّة حيث عمل (سيف)، ومقر إقامته في بغداد في منطقة القادسيّة، وزياراته إلى بيوت عشيقاته في بغداد واسطنبول وبيروت وباريس وغيرها، ما هي إلّا تنويعات أو ظلال للأمكنة التي أشرت إليها، لأن الحديث في كلّ تلك الاماكن، بالرغم من التفاصيل الكثيرة فيه التي نهضت بها الشخصيات المحورية والثانوية، يبقى مركزه ومحوره (الموصل) وناسها وقضيّتها ………
استطاع (الراوي العليم) ضمن مسارات جماليّة مسبقة، تمّ التحضير لها بدقّة وحرفيّة، ومن خلال لغة طغى عليها الجانب التأمّلي والذاتي، أن يجعل من (مدينة الموصل) في ظلّ محنتها وشعبها مع احتلال (داعش) لها، شخصيّة معنويّة حاضرة بشكل قويّ في متن النسيج الروائي وأحداثه.
ومما يؤكّد هذا الأمر أنّ (سعدًا) لم يتحدّث عن الكنز والوديعة التي عرف بهما من خلال مخطوطة جدّه (سلمان) وحرصه على عدم البوح بتفاصيلها سواء إلى أخيه (جلال) أو ابن عمّه (سيف) أو لوالده (شهاب) وعمّه (إبراهيم) ، إلّا بعد أن حصل بجهد ذاتيّ على مفاتيح الرسالة المرفقة مع الكنز والوديعة وربط كلّ ذلك مع ارتباطه بـ (بهار) وتحرير (الموصل) وهذا يؤكّد أنّ قيام (الراوي العليم) بتقسيم روايته على هذا النحو شديد الصرامة والرصانة في طريقة البناء الروائي ، أنّ قصده وتأكيده على البحث عن (المعنى) دائمًا ، هو أنّ المدينة (الموصل) وتحريرها و (بهار) الإيزيدية والحصول على (الكنز والوديعة)، جميعها معادلات موضوعيّة لفكرة (المعنى) وهي تعني دون شك أنّ مدينة الموصل ليست أرضًا فقط بل هي أيضًا إنسان وتأريخ وتراث ووطن ، ولا تحلّ مشاكلها ومعاناتها إلّا بتحرير إنسانها وتاريخها وتراثها والوطن الذي تنتمي اليه .
لقد حرص (الراوي العليم) على ذكر تفاصيل وجزئيّات تُعَدُّ إرثاً خاصاً للمدينة، سواءً سلباً أو إيجاباً، حتى وإن كان يخصّ شخصيّات هامشيّة مثل :(سامي) الشاب الموصلي ابن أشهر قوّادة في (شارع حلب) في المدينة، و(أبو هاشم الأعمى) السكّير المخمور دائمًا صاحب الشتائم اللاذعة التي لم تسلم منها حتى عائلة شهاب الأصيل وأولاده: (يا أولاد شهاب الأصيل، يا من لا أصل لكم … أيّها الجبناء، المدينة تموت وأنتم تجمعون الأموال، اذهبوا واسألوا أمّكم عن أبيكم الحقيقي، يا أولاد الزنا) !! ومع ذلك، كان كرم تلك العائلة استثنائيًّا معه في ظلّ سيطرة (داعش) على المدينة، إذ تمّ تكليف الداعشي (سامي) ابن القوّادة وصاحب السوابق، بحكم مواقف ودالّات سابقة لهم عليه، بتوفير الخمر والدخان لأبي هاشم الأعمى في ظلّ تلك الظروف القاسية. هذا مثال آخر على حرص وصدق (الراوي العليم) على جعل مدينته (الموصل) هي محور الأحداث والشخصيّات حتى وإن كانت تلك الشخصيّات من قاع المدينة السفلي.
قبل أن أنتقل إلى محور (السيرة الذاتيّة في الساخر العظيم) وجدتُ مفيداً الإشارة العرضيّة والمقارنة المحدودة بين رواية أمجد توفيق موضوعة البحث ورواية الكاتبة العراقيّة السيّدة (لطفيّة الدليمي) الموسومة (سيّدات زحل) الصادرة طبعتها الثانية عام 2012 عن دار (فضاءات) الأردنية. تتناول الإشارة والمقارنة، نقطتين فقط، وبشكل مختصر جدًّا، هما: موضوعة استخدام آليّة أو “خدعة” المخطوطة أو الرسائل في تخطيط الرواية واعتماد (الراوي العليم) كراوٍ محوري لنسيج السرد الروائي وبنائه.
دون شكٍّ لكلِّ رواية منهما شخصيّتها وأحداثها ومكانها وأجواؤها الخاصّة وفكرتها وفلسفتها الخاصّة التي سعى كلُّ كاتبٍ منهما التأكيد عليها والترويج لها.
في (سيّدات زحل)، كان (السرداب) الذي فيه مذكّرات الجدّ الأعلى للعائلة والموجودة عند (العمّ الشيخ قيدار البابلي) الذي لا أحد يعرف مصيره، وهناك أمل في حضوره، مع وجود تداخل شديد في الأعراق والأصول يشبه إلى حدٍّ بعيد التداخل الذي رواه (الجدّ سلمان) في مخطوطته التي وجدتها (بهار) الإيزيديّة في (مخزن) أو (قبو) في بيت عائلة الحاج (شهاب الأصيل) القديم المهجور أثناء هروبها من قريتها الإيزيديّة ولجوئها إلى ذلك (المخزن) بواسطة (سعد) أثناء فترة احتلال (داعش) للموصل نجد نفس الأمر ، أن (حياة البابلي) أو (آسيا كنعان) وهذا اسمها المستعار المثبّت في جواز سفرها (بطلة سيّدات زحل) ، تلجأ إلى (سرداب) بيت أبيها وحيدة خوفًا من القصف ومن مداهمات تنظيم القاعدة التكفيري الذي سيطر على العديد من أحياء بغداد ليلًا، المكان الرئيس لأحداث (سيّدات زحل ) هو بغداد العاصمة وغربها ومركزها إضافة إلى أحداث إضافيّة في أماكن أخرى خارج بغداد والعراق.
استخدمت السيّدة (لطفيّة الدليمي) نفس تقنيّة (الراوي العليم) مركّزةً على أحداث جرت في فترتي الحصار وسيطرة تنظيم داعش على بعض الأماكن في بغداد.
كما أنّ رواية (الساخر العظيم) عندي هي (سيرة ناس ومدينة)، مدينة (الموصل) والناس هم مواطنوها الأصلاء في ظلّ سيطرة داعش عليها، كذلك فإن (سيّدات زحل)، كما ثبّتت كاتبتها في الصفحة الثانية العنوان كالآتي: (سيّدات زحل / رواية / سيرة ناس ومدينة)، ولا يحتاج الأمر التأكيد على أن المدينة هي بغداد والناس هم مواطنوها في ظلّ وجود عناصر تنظيم القاعدة في فترة كتابة الرواية.
أحبّ التأكيد على إن إشارتي للروايتين في السياق الذي جاءت فيه، لا تعني مطلقًا أنّ هناك (تناصًّا – Intertextuality ) حصل بين الروايتين، ولا استفادة إحداهما من الأخرى من حيث الفكرة أو الأسلوب أو اللغة، بل إنّ الظرف الموضوعي الذي عالجته كل منهما في تشابهات تاريخية ربما استدعت استخدام تقنيّات سرد متشابهة أو قريبة من بعضهما.
وممّا يؤكّد وجود سمات خاصّة لكلّ رواية منهما هو اللغة الخاصّة لكلّ كاتب، إذ أنّ لغة السيّدة لطفيّة الدليمي تميل أكثر إلى استخدام الجمل ذات الطبيعة الشِعريّة القريبة من اللغة الصوفيّة وتهويماتها، بينما لغة الأستاذ أمجد توفيق الروائيّة ذات نزعة تأمّليّة فيها أحيانًا خيط من السخرية الناجمة عن نسيج الفكرة نفسها وطريقة التعبير عنها.

6. السيرة الذاتيّة في ” الساخر العظيم “:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ربّما لا يتّفق معي البعض حول الآراء التي سأحاول توضيحها في هذا المحور من الدراسة. دون شكٍّ يلجأ الكثير من كتّاب الرواية إلى تصدير رواياتهم بعبارة مكرّرة دائمًا مضمونها: ” إن أيّ تشابه بين أحداث الرواية أو شخصيّاتها مع أحداث وشخصيّات واقعيّة هو من قبيل المصادفة ليس إلّا “، وفي ظنّي شبه الثابت أنّ سبب اللجوء إلى مثل هذا التصدير هو تجنّب أيّة مسائلة قانونيّة تتبع نشر الرواية من قبل أشخاص أو هيئات او مؤسّسات لديهم ما يقاضون به الكاتب بسبب ورود أحداث أو شخصيّات أساءت لهم شخصيًّا أو عائليًّا او تأريخيًّا تصريحًا أو تلميحًا.
دون شكٍّ، أنا لا أدّعي أنّ كلّ الشخصيّات الواردة في (الساخر العظيم) هي جزء من شخصيّة (الراوي العليم) وسيرته الذاتيّة لأنّ مثل هذا الادّعاء فيه ظلم كبير للرواية نفسها أوّلًا ولكاتبها ثانيًا.
أقول كما يؤكّد العديد من الباحثين أنّ هناك تلاقحًا بين جنس السيرة الذاتيّة وغيره من الأجناس الأدبيّة من رواية وقصّة وقصّة قصيرة وغيرها، (شيماء عبد الحسين إبراهيم/ أنماط السيرة الذاتيّة / جامعة الكوفة)، لا يكون هناك ضرر كبير أو صغير إنِ استعان السارد الروائي بجزء من أحداث سيرته الذاتيّة ووظّفها في روايته المكتوبة كجنس أدبيّ له شروطه وتقنيّاته، بل أحيانًا تلك الاستعانة تصبح واجبة إذا كان موضوع الرواية قريبًا، بهذه الدرجة أو تلك، من سيرة الكاتب الشخصيّة في مرحلة معيّنة بذاتها.
من هنا، أجد أن جزءًا من شخصيّة (سيف إبراهيم الأصيل) التي ظهرت في (الساخر العظيم) في فصلها السابع لأوّل مرّة وهو يزور قناة (فهد الجاسر) الفضائيّة بهدف الاتّفاق على منصبه الجديد كمدير عام لتلك القناة، هو قريب أو يشبه في بعض تفاصيل حياته شخصيّة (الراوي العليم)، خاصّةً في الجانب الإعلامي.
لم أتِ بجديد في قولي أعلاه، فقد سبقني في مثل هذا الاتّجاه (ماهر حسن فهمي في كتابه السيرة الذاتية تأريخ وفنّ، الصادر عام 1970) عندما عزل (العنصر السير ذاتي) وتحقّق منه في بعض الروايات المصريّة الشهيرة مثل: (زينب) لمحمد حسين هيكل، و(سارة) للعقّاد، و(أديب) لطه حسين، و(عودة الروح) لتوفيق الحكيم، و(إبراهيم الكاتب) للمازني، وثلاثيّة نجيب محفوظ. (نقلًا عن شيماء عبد الحسين / جامعة الكوفة / مصدر سابق).
الأمر الذي أودّ التأكيد عليه، أنّ (الساخر العظيم) فيها مساحات وعناصر قريبة من السيرة الذاتيّة خاصّةً المتعلّقة بعمل الصحفي (سيف) ودائرة علاقاته أثناء عمله في القناة الفضائية بعد 2003 وهذا سياق ليس فيه عيب على الروائي السارد أو على بنية العمل السردي نفسه، لأنّه من حق الكاتب أن يستثمر ويستدعي ويتخيّل كلّ العناصر، بما فيها المرتبطة بسيرته الذاتيّة، بهذا القدر أو ذاك، بما يخدم الهدف النهائي من كتابته للرواية وبما ينسجم مع رؤاه الفنّيّة ومعتقده الذي يسعى الى تثبيته أو توضيحه أو الترويج له.
تبقى ملاحظة هامشيّة وجدتُ أهمّية الإشارة إليها لكي يُستفاد منها عند طباعة الرواية طبعة جديدة مستقبلًا وهي أنّ الرواية بالرغم من ضخامة حجمها 662 صفحة، إلّا أنّها كانت خالية من الأخطاء النحويّة أو الاسلوبيّة أو الطباعيّة عدا ما يلي:
في السطر الأول من الصفحة 117، وفي السطر الثاني من الفقرة الثالثة صفحة 229 ورد اسم (سعد) خطأ والمقصود الصحيح هو (سيف).
في السطر 11 من الصفحة 263 ورد اسم (سيف) خطأ والمقصود الصحيح (سعد).
أظنّ أنّ السبب في ذلك إما يعود إلى اندفاع كتابي من قبل الكاتب في أصل مسودّة الكتابة وجعله يخلط بين الاسمين، أو الأمر جاء بسبب خطأ طباعي، وهذا ما أميل الى ترجيحه، لاشتراك (سعد) و(سيف) بالحرف الأوّل من اسميهما.
أكرّر القول، هذه الملاحظة عابرة وغير ذات قيمة عدا أنّها تنبيه للاستفادة منها مستقبلًا في حالة إعادة طبع الرواية طبعات جديدة، وهي ملاحظة حرص ليس إلّا.

7. خاتمة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لقد استمتعتُ بقراءتي رواية (الساخر العظيم)، وأتمنى أن أكون قد غطّيت بدراستي هذه، وعبر محاورها، أهمّ الأفكار التي حرصتْ الرواية على تقديمها للقارئ وفي الوقت نفسه أرجو أن أكون قد نجحتُ في محاولتي تشريح العمل فنّيًا، وموضوعيًّا، قدر المستطاع، من خلال عرض آليّات السرد فيه من حيث مفهوم الزمن فلسفيًّا وسرديًّا، وعلاقة السرد بالتأريخ ، وتوضيح عناصر السرد وأشكاله وتقنيّاته المستخدمة في الرواية ، وأهمّية (الموصل) كعنصر (مكاني) مهم فيها، والاجابة عن سؤال: ماهي عناصر (السيرة الذاتيّة) في (الساخر العظيم)؟.
(الساخر العظيم) إضافة نوعيّة للسرد العراقي والعربي، متمنّيًا أن يضيف كاتبها إبداعات جديدة في هذا المضمار.

المصادر:

أمجد توفيق: الساخر العظيم / دار فضاءات / الأردن 2018
د. عبد الملك مرتاض: في نظريّة الرواية / بحث في تقنيّات السرد / سلسلة عالم المعرفة / الكويت كانون الثاني 1998
محمد عبد المطلب: بلاغة السرد. القاهرة 2001
د. عبد الناصر هلال: آليّات السرد في الشعر العربي المعاصر / القاهرة 2006
ابن منظور: لسان العرب الجزء الثالث / دار صادر 1994
د. صلاح فضل: نظرية البنائيّة في النقد الأدبي / وزارة الثقافة والإعلام / بغداد 1987
شيماء عبد الحسين إبراهيم: أنماط السيرة الذاتيّة – دراسة وتحليل / بحث منشور في مجلة مركز دراسات الكوفة / جامعة الكوفة / المجلّد الأوّل / العدد 29 لسنة 2013
عبد الحسين صنگور: السرد والصورة في الخطاب الشعري / بغداد 2017
كمال ديب: في الشعرية / مؤسسة الأبحاث العربية / بيروت 1987
مجدي وهبة وكامل المهندس: معجم المصطلحات العربيّة في اللغة والادب ط2 / مكتبة لبنان 1984
لطفيّة الدليمي: سيّدات زحل / ط2 دار فضاءات / الأردن 2012
ماهر حسن فهمي: السيرة الذاتيّة تاريخ وفن / مكتبة النهضة المصريّة / ط1 1970 (نقلًا عن شيماء عبد الحسين إبراهيم)

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب