مسرحية “وليمة عيد” ليوسف مسلم .. الجنون في مواجهة الواقع

مسرحية “وليمة عيد” ليوسف مسلم .. الجنون في مواجهة الواقع

خاص: كتب- محسن الميرغني:

يسّعى المبدع المسرحي دائمًا وأبدًا لمواجهة جمهوره بإبداعه المكتوب أو المؤدى ليعرف حقيقة مكانته الفنية، ويُدّرك على أي درجة من درجات سُلم الإبداع تقف قدماه، فالمسرح لا يعيش بدون جمهور – خصوصًا في الوقت الراهن – على الرُغم من  قدر التطور التقني الهائل غير المسّبوق الذي وصلت إليه البشرية في السنوات الأخيرة في مجالات الفنون، إلا أن المسرح يظل ويبقى هو الفن الأكثر تعقيدًا بامتياز دون بقية الفنون الأخرى، ذلك أنه يعتمد بالأساس على أعقد وأغرب وحدة كونية عرفها العالم ألا وهي الإنسان نفسه والمسرح يعتمد على الإنسان في كافة مراحله فلا تتم عمليات بث وتوصيل واستقبال الرسالة/ الفكرة التي يتم عرضها بين أطراف اللعبة المسرحية إلا بوجود العنصر البشري.

المسرح إذن فن مواجهة وهنا تبزغ جرأة وبراعة المبدع المسرحي الذي يدخل في مواجهة مباشرة مع عالمه ومجتمعه، فيتصدى لتبديل عقلية التقاليد السّائدة لدى الجمهورلصالح فنه وإبداعه، هكذا علمتنا تواريخ وتجارب المسرحيين طوال قرنين من الزمان،- أو ربما هكذا تعلمنا من أساتذة هذا الفن في مقاعد الدرس-.

فمنذ أطلق “ألفريد جاري” صرخته الخالدة “خراء” في وجه مشاهديه، وصولًا إلى العروض المسرحية التي تتخذ من فعل ممارسة الحب حبكة فنية لها في محاولة استرجاع الفعل “الباخوسي” الأول للنشأة المسرحية، وحتى يومنا هذا كان المسرح الصادم وسيظل هو المحرك الساخن للوعي الراكد، وهو باب من أبواب النجاح الأكيد في رحلة إيقاظ العقل من سبَّاته، ذلك لأن المسرح فن الذي يحتاج من صنَّاعه جرأة وموهبة وصدقًا إنسانيًا وشجاعة مع قدرة على مواجهة السّائد من المألوف المكبَّل بالقيود والتقاليد الفنية، وربما كان هذا سر صمود المسرح في وجه تقلبات الزمن الواقعي المتسَّارعة وأمزجة جمهوره المتناقص.

يُعتبر نص (وليمة عيد) لـ (يوسف مسلم) هو العمل الثالث في مسّار تجربته الإبداعية ككاتب مسرحي محترف، قدم قبله نصين، كلاهما نُشرا بشكلٍ حكومي رسمي، الأول نص (الحارس) حصل على المركز الأول في مسابقة (تيمور) المسرحية لعام 2006م، والنص الثاني (الشبيهان) حصل على جائزة (كتاب الجمهورية) لعام 2009م. والعملين يتصديان لأفكار عزلة المثقف في عالمه المحيط به، وكيفية مواجهة هذه العزلة أو الهروب منها بشكلٍ مختلف. وهي التيمة التي سيّطورها يوسف مسلم لاحقًا في أجمل أعماله وأكثرها قربًا من واقعنا ثالث نصوصه المنشورة (وليمة عيد).

في مسرحية (الحارس) رؤية مصرية للصراع بين اليقين والوهم في سبع لوحات، تبدأ الأحداث بحضور شاب تائه يبحث عن طريق الوصول إلى المدينة، لكنه يُصادف (فضاء صحراوي بالقرب من قرية مهجورة) يحرسه رجل كهل خمسيني العمر يؤدي عمله بإخلاص وتفانٍ وهو حراسة القرية من غُزاة قادمين.

ويُمثل قدوم الشاب إلى المكان المهجور بداية الصراع بين الشخصيتين، ونحن لا نعرف هذا الشاب قادم من أي مدينة، تمامًا كما لا نعرف اسمًا للقرية التي يُشير إليها المؤلف في إرشادة النص الأولى، وهو ما يُضّفي على الأجواء نوعًا من التجريد والغموض ينعكس على الزمن في فضاء المسرحية، فالزمن مجرد ويتحدّد فقط بتغيَّرات مكثفة لا توضح زمن وقوع المسرحية ويمكن القول أنه زمن فانتازي، فالحارس يجلس منذ خمسين عامًا في مهمته.

والحارس يؤمن أنه يقوم بعمل مهم وجاد له قيمة كبرى في الدفاع عن القرية وقبورها، بينما يرى الشاب أن ما يفعله العجوز شكلًا من أشكال الجنون والخلل العقلي، وعندما يُصارح الشاب الحارس العجوز بحقيقة الأمر عن كونه حارس قبور ويهم بالمغادرة، يُهدّده العجوز بسلاحه ويأسره في عالمه الموحش ونتيجة لخوف الشاب من الموت رميًا بالرصاص في بداية الأحداث، ثم خوفه من الموت في الصحراء وخطر مواجهة الذئاب، يضطر أن يخضع للحارس العجوز ويقبل الوقوع في أسره، وهو ما يؤدي إلى استسلامه نهائيًا لمجاراة الحارس في تهويماته وتخيلاته الجنونية عن مهمته، ونحن نُلاحظ التغيّر على الشاب بوضوح فنراه في بداية الأمر مضطرًا للدخول في عالم الحارس العجوز والعيش معه في حياته اليومية العبثية الهدف تحت وطأة الخوف، ثم يختار مشاركة الحارس بعض طقوسه كالنوم الطويل بعد وجبة دسمة من لحم ابن آوى، تكون محورًا لتصاعد الصراع وصولُا لذروة المسرحية في تحول الشاب واستغراقه في اللعبة التي بدأ يتَّقن تفاصيلها، وخصوصًا بعد موت العجوز ليحتل الشاب موقعه ويُصبح هو حارس القرية الجديد أو حارس الموت الأبدي.

أما في (وليمة عيد) تتضح رؤية الأزمة وتتكثف في جُملة بسيطة من التطورات الدرامية، فمشكلة (عيد) في الحياة هي أنه إنسان طبيعي لا يُريد منها “سوى منطقها” ومنطق الحياة في النص يختلف عن منطقنا الواقعي فالصورة الأساسية التي يرسمها لنا المؤلف في إشارته للاستعراض الأول ترسَّخ حالة البطل المنكسر/ مسّلوب الإرادة، الذي يواجه عالمًا خياليًا خارجًا عن المألوف، من هنا يرسم المؤلف في لوحاته عالمًا مغايرًا في منطقه الفني، عالم يرى عملية التبول في الشارع شيئًا عاديًا وطبيعيًا، بينما من غير اللائق التبول في المرحاض، ويرى في قدم الإنسان أهمية وفائدة أكثر من رأسه، لذا فالأفضل أن يجلس الناس واضعين رؤوسهم على الأرض وأقدامهم فوق الكراسي، في إشارة واضحة إلى حالة الانقلاب القيمّي لمعايير هذا العالم المحيَّط بـ (عيد)، وهو السر الرئيسي وراء وصفه بالجنون، وربما وراء رضوخه لانكساره أمام الجميع (زوجته وابنته وابنه).

الجميل في هذا النص أنه بالرغم من استعارات المؤلف الكثيرة لأفعال كـ (التبول، التغوط، الاغتصاب الجنسي) إلا أنك لا تشعر بالتقزز أو الاستياء من استخدام هذه المفردات العنيفة في إطار حبكة النص، لأن فرضية قلب منطق العالم، التي يُؤسَس لها في لوحة الضابط مع أسرة (عيد)، تمنح المسرحية مبَّررًا فنيًا يسمح لنا كمشاهدين وقُراء باستيعاب المهزلة اللا منطقية التي تُرسّخ في عقولنا فكرة غربة الإنسان المهزوم في واقعه اليومي المتكرر السخيف، وهي ترصد حياته اليومية التي يعيشها مسلوب الإرادة لا يقوى على الاعتراض أو الرفض لما يدور حوله، بل إن خضوعه يتسم بالمهاودة والرضوخ رغم محاولات صموده الخائرة في وجه ما يحدث، فابنة (عيد) عندما تدعوه لمشاهدة إحدى القنوات الجنسية لتهدئة أعصابه، ثم تصَّر على أنها لم تُعدّ طفلة لأنها اغتصبت (67) مرة وضاجعت (73) رجلًا. تضع أسماعنا وأذهاننا في معارضة فنية لرؤية الهزيمة داخل عقل (عيد) المواطن المصري سليل انكسارات يونيو 67، وانتصارات أكتوبر 73.  فالهزيمة هنا تستّند إلى الماضي بشفرته الرقمية الحاضرة في الواقع الأسود المحيط بالبطل، والذي هيأ لابنه سلب فرشاة أسنان والده، من أجل أن ينظف بها أصابع قدميه لأنه يراها أهم من عينه ورأسه، إننا نبَّصر مجتمعًا يضع رأسه على الأرض وقدمه فوق الكرسي، مجتمع يرى في لاعب الكرة نجمًا جذابًا فيما يهيَّن أصحاب الرؤوس والمقصود بهم هنا المثقفين:

“الولد : في حين أن القدم تدَّر على صاحبها أموالًا طائلة… ملايين…

الفتاة : أذكر أنه قد اغتصبني ذات مرة لاعب كرة وكان ذلك داخل سيارته الجاجوار الأتوماتيك.

الولد : أسمعت جاجوار.. هل عرفت واحدًا من أصحاب الرءوس الذين تقرأ عنهم يمتلك سيارة بالأساس.

((إظلام مفاجيء))”

النص يتكيء بقوة على فكرة قلب المنطق المألوف، لإحداث صدمة في وعي المتفرج/ القاريء  عبر مفارقات الكوميديا السوداء المتفجرة نتيجة عملية القلب (أسهل أدوات الإضحاك)، فالبطل يُربك العالم المحيَّط به – فقط – لأنه يسعى لقضاء حاجته في المرحاض، بينما ترى الزوجة والأبناء أن هذا الفعل محض جنون مطبَّق، ونحن منذ اللوحة الثالثة نعرف على لسان (عيد) سر جنونه، وكيف شاهد زوجته في حضن مدير المدرسة، فأصيب بالجنون المبَّرر، لكن هزمه الجنون المدَّبر من قبل زوجته وبقية أفراد الأسرة، وهو الجنون الذي يُحيلنا لأحلام وهواجس هاملتيه، تحمل صراعًا نفسيًا ضاريًا يتطور من داخله بقوة، لا يُعادلها في القوة والعنف سوى عنف الألفاظ المستَّخدمة على ألسنة الشخصيات بكل صراحة ووضوح، وهي ألفاظ  تحمل مشروعية استخدامها فنيًا، وجواز مرورها للمشهد المسرحي دون أي خروج عن صلب اللعبة الفنية، أو أي تقليل من اقتناعنا نحن قُراء ومشاهدين بحقيقة انحطاط وسفالة واقع هذا (المنطق المقلوب)، مع إدراكنا أن استعارة المؤلف لرموزه ومعالمه الفجة، لا تُفصّح إلا عن جزء بسيّط من واقع مهتريء مدنس غير مقنع للعقل المفكر المتأمل لعبثية المشهد.

من هنا لا يُصبّح الترابط والمنطق هما مفتاح تأويل النص وتفسّيره، بل الجنون هو المدخل المناسب لقراءة مسرحية (وليمة عيد). فبالرغم من أن المسرحية تبدو واقعية بشخوصها ومكانها وزمانها، وتصوير الشخصيات لا يلتقط غير فكرها وردود أفعالها الواعية وحركاتها الإرادية، بما يبرز تفاهتها وسطحيتها في مواجهة موقف البطل (عيد) الرافض/ الراضخ – في ذات الوقت – لقوة العالم المقلوب المحيط به، وسنلاحظ أن شخصيات هذه المسرحية ستفقد قيمتها الدرامية والإنسانية حال غياب (عيد) عن الحدث والموقف الدرامي، من ثم نرى (عيد) بحضوره السلبي في كل مشاهد المسرحية لأن هذا – في رأيي – هو ما أراد أن يسَّلط عليه (مؤلف النص) كشافه الساطع، إنها حالة تخاذل المثقف واستسلامه لشروط عالمه المقلوبة وعجزه عن مقاومتها وتغييّرها، وهو ما يجعل منه مجنونًا ويجعل من الآخرين عقلاء في المشهد المقلوب، لا لشيء إلا لأنهم يستسلمون لواقعهم بفضائحه وعوراته النفسية والاجتماعية.

تبقى الإشارة إلى ملحوظة صغيرة تتعلق بهذا النص شديد العذوبة والقسوة، وهي صعوبة ظهوره للنور في ظل النظام الإداري الراهن للمسرح المصرى، لأن النص يسَّلط إضاءته ويُركزها في وجوه عميان وخفافيش لازالت تحكم هذا الواقع المقلوب، وتُسيطر على مقاليد الحكم والسلطة وهم – وللأسف – من بأياديهم مفاتيح إضاءة النور.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة