يكتبها: محمد فيض خالد
أصبح مرآه أكثر شيء يغمني، المعادلة سهلة، اجعل نفسك مكاني، واستقبل يومك بهذه السحنة، لازلت أتذكر ذلك الصباح الذي انشقت الأرض عنه فجأة، لأجدني وجها لوجه مع مارد مغبر الوجه، حافي القدمين، تلمع في رقبته سلسلة عريضة، تظهر لون جلده العنابي، دارت لحظتها عيناه في محجريهما بشكل مريع، وكأن لهبا يندلع منهما، امتلأت رأسي بالطنين، في خفة مرق من أمامي تكسو وجهه ابتسامة مشعة لامعنى لها، صمت كل شيء في المكان، إلا ثورة أنفاسي المتلاحقة في اضطراب.
يأت هؤلاء لبلاد النفط جنة عدن التي وعد المتقون في ضمور ،أشهر قليلة، وتبرد أكبادهم، تشبع بطونهم بالخبز، وتكسهم النعمة، جميعهم، يتوارون عن الأنظار لسنوات طويلة، في جحور تحت الأرض، ينبشون عن أقواتهم، هنا ملاذهم الوحيد من كرب العيش وغمض الفاقة ودنيا العدم، في مسكننا أشكال مريبة لم اشاهد مثيلها من قبل، لا اتحدث عن السكارى، الذين اتلفت الخمر محلية الصنع أعصابهم، فتهاووا في خوار، يتمرغون في التراب تفور أفواههم برغوة مقززة كالثيران المذبوحة، في بلادهم يأكلون من خشاش الأرض.
أما هنا فجميع هؤلاء يتحولون بقدرة قادر لكائنات مفترسة، لا تعرف غير نهش اللحم، يقضي الواحد منهم سحابة نهاره أمام الموقد، اسأل نفسي مرات: “كيف لإنسان في عصرنا أن يتلخص يومه بين أواني الطبخ ؟!”، هنا تتأجج الرغبة في البقاء في احتضان الحياة والعراك معها، حتى جارنا المارد الأحمر، يتبدى عليه الظمأ، تتمشى الرغبة في أوصاله أمام ثلاجة المرطبات، يحتضن في ونس زجاجة الكولا، تدغدغ البرودة أوصاله، تطورت العلاقة بيننا، هو الآن أقدر على أن يوقفني أمامه، بلكنة أسيوية معروفة يطلقها في هدوء: “صديق”، يمد ناحيتي طبق أحمر تكسرت حوافه، التقط مبتسما حبة التمر ، هي نظيفة، لكن رائحة التوابل الحريفة تلدغ أنفي.
يوما ما قررت مغادرة هذا الجحر اللعين، في الخارج استند جارنا على جذع شجرة قديم، يلتهم طعامه بشهية ويقظة، يراقب المارة بعين بليدة، اتجه إلى بوجه تغمره نظرة استجداء، وكأنما يطلب مني البقاء، في منطقة بعيدة استقر بي المقام، لكن رائحة التوابل تتعقبني، تخترق الجدران، تلطخ الملابس، تثقل أنفاسي، تستفز أنفي وتسيله، سألت صديقي ذات ليلة: “ألا تشم رائحة التوابل؟!”، مط بوزه بغير اكتراث ولم يجب، ليدفن وجهه في صفحة حاسوبه.