قصة الحضارة (201): قامت حضارة اليونان بفضل المهاجرين

قصة الحضارة (201): قامت حضارة اليونان بفضل المهاجرين

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن  الحضارة اليونانية. وكيف بناها المهاجرون الذين استغرقت هجراتهم مائة عام. وذلك في الحلقة الواحدة بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الهجرة الكبرى..

يواصل الكتاب الحكي عن الحضارة اليونانية: “إن مدن بلاد اليونان الأصلية كانت أقدم من المستعمرات اليونانية في بحر إيجة وفي جزائر أيونيان، وإن هذه هي التي أنشأت في كثير من الحالات المستعمرات، ولكن عدداً من هذه المستعمرات أضحى بما حدث من انقلاب مربك في سياق الحوادث السوي أعظم شأنا من المدن التي أنشأتها وسبقتها في ثروتها وفنونها، وبذلك لم يكن الذين أوجدوا الثقافة اليونانية بحق هم اليونان أهل البلاد التي نسميها الآن بلاد اليونان، بل كانوا هم الذين فروا أمام الدوريين الفاتحين وحاربوا ليثبتوا أقدامهم على السواحل الأجنبية، وأنشأوا بفضل ذكرياتهم الميسينية وجهودهم العجيبة العلوم والفنون، والفلسفة والشعر، التي جعلت لهم قبل مرثون بزمن طويل المقام الأول في العالم الغربي؛ ثم أورثت المستعمرات أمهاتها من المدائن الأصلية الحضارة اليونانية.

وليس شيء في تاريخ اليونان أدل على حيويتهم من انتشارهم السريع في جميع بلاد البحر المتوسط . لقد كانوا قبل أيام هومر شعبا بدويا متنقلا، وكانت شبه جزيرة البلقان كلها تضطرب بحركاتهم، ولكن أهم العوامل التي أثارت الموجات اليونانية المتتابعة التي طغت على جزائر بحر إيجة وعلى السواحل الغربية للقارة الآسيوية كانت غزوات الدوريين. فقد خرج الناس على أثرها من جميع أنحاء هيلاس يبحثون عن الموطن وينشدون الحرية بعيدين عن قبضة الفاتحين المستعبدين؛ وكان من العوامل الأخرى التي بعثت على هذه الهجرة ما في الدول القديمة من انقسامات سياسية ومنازعات بين الأسر؛ فكان المغلوبون يختارون النفي من البلاد أحيانا، وكان الغالبون يشجعونهم على الخروج منها أعظم تشجيع”.

مزايا الاستعمار..

ويكمل الكتاب: ” يضاف إلى هذا أن بعض من بقي على قيد الحياة من اليونان الذين اشتركوا في حرب طروادة فضلوا البقاء في آسية؛ واستقر غيرهم في جزائر بحر إيجة حباً في المغامرات أو عجزاً عن العودة إلى وطنهم بعد أن تحطمت بهم السفن التي كانت تقلهم، ووجد غيرهم حين عادوا إلى أوطانهم بعد أسفارهم الطويلة التي تعرضوا فيها لأشد الأخطار، أن عروشهم قد ثُلّت وأن زوجاتهم قد احتضنهن غيرهم، فعادوا إلى سفنهم ليُنشئوا لهم أوطاناً جديدة ويجمعوا ثروات جديدة في خارج بلادهم.

وعاد الاستعمار على بلاد اليونان الأصلية، كما عاد صنوه على أوربا الحديثة، بمزايا عظيمة من عدة وجوه. فلقد كان منفذاً للزائدين على طاقة الأرض من السكان وللمغامرين منهم، وكان بمثابة صمام الأمان من التذمر الزراعي، وبفضله نشأت أسواق أجنبية لغلات البلاد الأصلية، ومستودعات حصينة في مراكز منيعة للواردات من الطعام والمعادن. وأوجد الاستعمار في آخر الأمر إمبراطورية تجارية كان ما فيها من تبادل السلع، والفنون، وأساليب الحياة، والأفكار؛ من أقوى العوامل في نشأة حضارة اليونان المعقدة”.

الهجرات..

ويفصل اكتر الكتاب عن الهجرات: “وسارت الهجرات في خمسة خطوط رئيسية  إيولية، أيونية، دورية، يكسينية، إيطالية.. وبدأت أقدمها في الدويلات الشمالية من أرض اليونان الأصيلة، وهي التي لاقت أولى الغزوات من الشمال والغرب. فقد سارت على مهل جحافل من المهاجرين من تساليا، وثيوتس، وبؤوتية، وإيتوليا، لم تنقطع طوال القرنين الثاني عشر والحادي عشر، مخترقة بحر إيجة، وزحفت على الأصقاع المحيطة بطروادة، وأنشأت فيها المدائن الاثنتي عشرة التي تألف منها الحلف الإيولي.

ويبدأ الخط الثاني من خطوط الهجرة في البلوبونيز حيث فر آلاف من الميسينيين والآخيين على أثر “عودة الهرقليين”، واستقر بعضهم في أتكا والبعض الآخر في عوبية، وخرج الكثيرون منهم إلى جزائر سكلديس، وجازفوا باختراق بحر إيجة، وأسسوا في غربي آسية الصغرى المدائن الاثنتي عشرة التي تألف منها الحلف الأيوني الاثنى عشري.

وسار في الخط الثالث من خطوط الهجرة الدوريين الذين فاضت بهم أرض البلوبونيز، فاستقروا في جزائر سكلديس، وفتحوا كريت وسيريني، وأنشأوا حلفاً من ست مدن دورية حول جزيرة رودس.

وبدأ الخط الرابع في مكان ما من بلاد اليونان واستقر من ساروا فيه على سواحل تراقية، وأنشأوا مائة مدينة على شواطئ الدردنيل، والبروبنتس (بحر مرمرة) والبحر اليكسيني (البحر الأسود). واتجه الخط الخامس نحو الغرب إلى الجزائر التي أسماها اليونان الجزائر الأيونية، ثم اخترق إيطاليا وصقلية حتى بلغ آخر الأمر غالة وأسبانيا”.

طويلة المدى..

وعن طبيعة تلك الهجرات: “وليس في وسع إنسان ما أن يتصور ما قام من العقبات في سبيل هذه الهجرة الطويلة المدى التي دامت مائة عام، أو كيف ذللت، إلا إذا كان عطوفاً واسع الخيال أو كان قوي الذاكرة لم ينسَ ما لقيناه نحن الأمريكيين في تاريخنا الاستعماري. لقد كان في مغادرة الأرض التي خلعت عليها شعائر القداسة قبور الآباء والأجداد، والتي يحرسها الأرباب القدامى، والخروج إلى أصقاع غريبة لا تحميها في أكبر الظن آلهة بلاد اليونان، لقد كان في هذا وذاك مغامرة خطيرة الشأن، ومن أجل هذا أخذ المستعمرون معهم حفنات التراب من بلادهم الأصيلة لينثروها فوق أرض الأقاليم الأجنبية.

وحملوا في جد ووقار قبساً من النار من المذابح العامة في مدافنهم الأولى ليشعلوا به النار في مواقد المدن التي أنشئوها في مستعمراتهم الجديدة. وكانوا يختارون مواضع هذه المدن على شاطئ البحر أو قريبة منه، حيث يمكن أن تكون السفن  وهي الموطن الثاني لنصف اليونان  ملجأ يعصمهم من هجمات الأعداء برا؛ وكان خيرا من هذا الوضع عندهم أن تقام فوق سهل ساحلي تحميها الجبال التي تصد المغيرين من ورائها، أو على تل يكون حصينا منيعا في داخل المدينة نفسها، أو أن تكون ذات ميناء في البحر يحميه لسان بارز منه.

وخير من هذا وذاك أن يكون هذا الميناء الأمين على طريق تجاري، أو قريبا من مصب نهر تصل إليه السفن حاملة الغلات من داخل البلاد لتصدر أو يستبدل بها غيرها من الغلات، فتنتعش ويعمها الرخاء عاجلا كان ذلك أو آجلا. وكانوا لا يكادون يجدون موقعا صالحا إلا احتلوه، واستولوا عليه بالحيلة إن أفلحت، فإن لم تفلح سلكوا إليه سبيل القوة. ولم يكن اليونان في هذه الظروف يرعون مبادئ أخلاقية أرقى مما نرعاه نحن الآن ، فكان الفاتحون في بعض الأحيان يستعبدون السكان الأولين بنفس الدعاوى المضحكة الباطلة التي ادعاها الحجاج المهاجرون طلبا للحرية. وكان أكثر من هذا حدوثاً أن يتودد المهاجرون الجدد إلى السكان الأولين بما يحملونه إليهم من الهدايا، ويخلبوا لبهم بثقافتهم الراقية، ومغازلة نسائهم، وعبادة آلهتهم”.

نقاء الدم..

ويتابع الكتاب: “ولم يكن اليونان المستعمرون يعنون بنقاء الدم. وكان في وسعهم على الدوام أن يجدوا في مجتمع آلهتهم الكثيرة إلها شبيها بإله الموطن الجديد شبها ييسر لهم التوفيق بين الإلهين. وأهم من هذا كله أن المستعمرين كانوا يعرضون ما صنعته أيديهم من سلع يونانية على السكان الأصليين، ويستبدلون بها الحبوب والماشية أو المعادن، ويصدرون هذه الغلات إلى بلاد البحر المتوسط، ويفضلون من هذه البلاد أمهم التي هاجروا منها، والتي لا تنفك قلوبهم تنطوي لها مدى القرون على حب وولاء يبلغ حد التقديس.

وأخذت هذه المستعمرات واحدة بعد أخرى تتشكل وتتخذ صورة المدائن اليونانية حتى لم تعد بلاد اليونان مقصورة على شبه الجزيرة الضيقة التي كان يطلق عليها هذا الاسم في أيام هومر، بل أضحت طائفة من المدن المستقلة مرتبطة بعضها مع بعض برباط غير متين، ومنتشرة من أفريقية إلى تراقية، ومن جبل طارق إلى الطرف الشرقي من البحر الأسود. وكان هذا العهد من أهم العهود في تاريخ نساء اليونان، فلسنا نجدهن على الدوام أكثر استعدادا مما كن في ذلك الوقت لإنجاب الأبناء. وبفضل هذه المراكز التي تفيض جدا وحيوية وذكاء نشر اليونان في جميع أنحاء أوربا الجنوبية بذور ذلك الترف المزعزع الدال على الحذق والدهاء الذي يُطلق علية اسم الحضارة، والذي لولاه لما كان للحياة جمال ولا للتاريخ معنى”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة