6 أبريل، 2024 9:35 م
Search
Close this search box.

رغيف العيش في الثورات الشعبية المصرية !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : دراسة تاريخية يكتبها – محمد عبدالله :

عندما تلتقط طرف هذا الخيط الممتد لقرون طويلة قبل الميلاد وحتى يومنا هذا تجد شعبًا؛ هو الوحيد في العالم الذي يربط بين رغيف الخبز والحياة.. فأطلق عليه أغلى ما يملك وهو: “العيش” أي من العيشة.. وقبل ذلك بآلاف السنين قدسه المصريون وجعلوا للقمح إلهًا عبدوه؛ أطلقوا عليه: “نبر”.. بل إن الفراعنة خصصوا إدارة عُليا للشون تخضع مباشرة للوزير نائب الفرعون؛ وذلك في عهد الأسرة الخامسة..

وهذا المصري الذي خرجت أمثاله تُعبر عن شخصية ترضى بالقليل؛ فها هو يقول: “العيش مخبوز.. والميه في الكوز”، وهو أعلى ما يحلم به رغيف خبز وكوب ماء؛ يعني بالنسبة له الستر..

ذلك الشعب الذي خرجت من ثنايا كمونه وصبره أول ثورة اجتماعية في التاريخ تهتف ضد الظلم والفساد وغياب عقل الحاكم؛ وقبل ذلك من أجل رغيف العيش.

لوحة تتقاطع فيها مشاهد الخنوع بالانتفاض ومشاعل الرفض بمشاعر الحذر وعبادة الفرعون والدعاء للسلطان بطول العمر !!

نعم تفجرت أول ثورة اجتماعية في التاريخ.. ثورة قام بها شعب رأى بلاده تضيع أمام عينيه.. فالملك “بيبي الثاني”؛ أحد ملوك الأسرة السادسة، كان رجلاً مسنًا ظل يحكم البلاد لمدة (94 عامًا)؛ تعرضت فيها “مصر” لإغارات البدو وضعفت الإدارة المركزية وتم تشريد الموظفين وانعدم الأمن وانتشر الفساد؛ وكان الفلاح يذهب إلى الحقل في حراسة أو حاملاً درعه وأسلحته.. وأمتنع المزارعون عن حرث الأرض نظرًا للأخطار التي كانت تُحدق بهم.. فعدمت البلاد غلتها.

ويصف الحكيم، “إيبور”، حال المصريين وقتها؛ قائلاً: “أتلفت المحاصيل.. وأصبح القوم يأكلون الحشائش ولم تُعد هناك فاكهة ولا أعشاب تُقدم للطيور.. وانعدمت الغلال”، وهذه الكلمات البسيطة للحكيم، “إيبور”، تُلخص وضعًا مثاليًا كان يجب معه أن يثور الشعب من أجل رغيف العيش الذي كان يُمثل جزءًا أساسيًا من رواتب الموظفين والعمال. ولخطورة “القمح”؛ كمحصول إستراتيجي؛ فقد خصص ملوك الفراعنة إدارة عُليا (للشون)، وكانت تخضع للوزير مباشرة.. كما خصص، “بيبي الأول”؛ إدارة حكومية خاصة بالخبز.. تكون مهمتها مراقبة إنتاج وتوفير الدقيق ومنع احتكاره أو غشه.

ومنذ قديم الزمن والمصري يصبر كثيرًا على الظلم؛ إلا أنه ينفجر دون استئذان.. حتى لو كانت هناك أجهزة أمنية تراقبه وتكتب تقاريرها.. ففي عصر الملك “رمسيس الثالث”، وفي السنة التاسعة والعشرين من حكمه، أي عام 1213 ق. م؛ قام العمال بالإضراب والثورة لمدة شهرين بسبب قلة: “الجرايات”، التي كانت تُصرف لهم من جانب إدارة معبد دير المدينة بـ”الأقصر”.. ورغم قدسية المهمة التي كان العمال يؤدونها.. حيث يعملون في بناء معبد الفرعون.. إلا أن ذلك لم يمنعهم من الثورة.. فالخبز هو مصدر الغذاء الرئيس لهؤلاء العمال؛ الذين كانوا يعملون في قطع الأحجار.. ومع كل مرة ينقطع فيها صرف الخبز كان العمال يثورون ويتظاهرون ويتوقفون عن العمل وكانوا يقولون: “ليس لدينا ملابس ولا زيت ولا سمك ولا خضر؛ أرسلوا إلى الفرعون العظيم بخصوص هذه الأشياء.. وكذلك أرسلوا للوزير حتى يمدنا بالخبز الذي نعيش به..”.

ورغم تكرار هذه الشكاوى والإضرابات بسبب رغيف العيش؛ إلا أن المسؤولين لم يقدموا حلولاً.. بل إن الفساد الذي انتشر أواخر حكم “رمسيس الثالث”؛ حول هذه الثورات التي بدأت بسبب رغيف العيش إلى حركة سياسية تطالب بالإصلاح السياسي.. فتذكر البرديات أن العمال قالوا للمفتش المشرف على معابد الملك: “إننا لم نُضرب عن العمل بسبب الجوع، ولكننا فعلنا ذلك لأن لدينا اتهامات خطيرة نُريد توجيهها.. هناك فساد شديد بذلك الموقع الخاص بالفرعون”.

ثار العمال وجاهروا بكشف الفساد والمفسدين لينبهوا الفرعون الذي انشغل بالحديث عن انتصاراته العسكرية؛ وأنه صاحب الإنجازات الاقتصادية، ثاروا رغم وجود جهاز قوي لأمن الدولة.. نعم.. فقد كان الحراس الذين يقومون بالخدمة في دير المدينة يقسمون على الإبلاغ الفوري عن أي حركة تمرد والإبلاغ عن أي عامل يهاجم الفرعون أو السلطة أو يخطط لمظاهرات.. أو يشارك في تنظيم لقلب نظام الحكم..

وفي عصر الأخشيديين؛ وقعت عدة ثورات، إلا أن أقواها كان يحدث عندما يشتد الغلاء وينتشر الوباء ويعز وجود القمح؛ فيقبل الناس على نهب الضياع والإغارة على المزارع، وكان أشدها عام: (352 هـ / 963 م)؛ واستمر تسع سنوات متتالية بسبب نقص مياه “النيل”؛ مما أدى إلى اختفاء “القمح” واضطربت الأحوال وكثرت الفتن، ويقول “المقريزي”: “ومات الناس في مصر بسبب السعر.. فدخلوا الجامع العتيق بالفسطاط في يوم جمعة وأزدحموا عند المحراب، فمات رجل وامرأة ولتصل الجمعة هذه اليوم”.. وإزدادت الأحوال سوءًا بموت “كافور الأخشيد”؛ فكثرت الفتن والحروب الداخلية وأحرقت أماكن كثيرة واختفت الأقوات من الأسواق حتى بيعت “ويبة” القمح بدينار.. وهو سعر مرتفع جدًا في ذلك الوقت.. وظل عامة الشعب من الفقراء يدفعون ثمن هذه الخلافات حتى دخل الفاطميون “مصر”.. وبعد أن فرغ القائد، “جوهر الصقلي”، من بناء “القاهرة”؛ بدأ ينظر في أمر ارتفاع الأسعار، وخاصة الخبز، الغذاء الأساس لهؤلاء العامة.. ورأى، “جوهر”، أن هيبة النظام أصبحت محل اختبار؛ فإما يخضع لضغوط “لوبي” تجار وسماسرة الغلال أو يؤكد قوة الدولة.. فقام بجمع الطحانين وضرب جماعة منهم وطاف بهم وجرٌسهم؛ وكذلك فعل بسماسرة الغلال.. فجمعهم بمكان واحد وأمر ألا يُباع القمح إلا هناك؛ وجعل لهذا المكان طريقًا واحدًا فكان لا يخرج قدح من القمح إلا ويسجله، “سليمان بن عزة”، المحتسب..

وفي بعض الأحيان يستغل التجار إنشغال الدولة بإحدي الأزمات للتربح.. ففي عام: (395 هـ / 1004 م)، استغل الخبازون نقص مياه “النيل” وقلة محصول “القمح”؛ فرفعوا الأسعار بل وقاموا بغش الخبز وبله بالماء حتى يزيد وزنه؛ فأمر “الحاكم بأمر الله”؛ بضرب عدد من الطحانين والخبازين بالسياط والتشهير بهم، وبعد ذلك بثلاث سنوات حدث غلاء شديد فتظاهر العامة وثاروا وهتفوا ضد الحاكم واجتمعوا بين القصرين وسألوا، “الحاكم بأمر الله”، أن يحل هذه الأزمة.. فركب حماره وخرج من “باب البحر” ووقف وقال: “أنا ماضي إلى جامع راشده.. فاقسم بالله لئن عدت فوجدت في الطريق موضعًا يطؤه حماري مكشوفًا من القمح لأضربن رقبة كل من يُقال إن عنده شيئًا منه ولأحرقن داره وأنهبن ماله”.. واستجاب “لوبي المصالح”، لهذا التهديد، فما بقي أحد من أهل “القاهرة” وفي داره غلة حتى حملها إلى الطرقات. ويذكر “ابن عبيدالله المسبحي”؛ أنه في عام: (415 هـ / 1024 م)؛ وفي عهد “الظاهر لإعزاز دين الله” الفاطمي؛ أشتد أمر الغلاء بـ”مصر”؛ وارتفعت أسعار “القمح” والدقيق وعز وجود الخبز في الأسواق وأشتد الجوع بالناس حتي أنهم قطعوا الطريق على الخليفة وصرخوا في وجهه: “الجوع يا أمير المؤمنين.. الجوع.. لم يصنع بنا هكذا أبوك ولا جدك..”، فأرتج البلد بالضجيج.. وتزايد أمر الغلاء ونزل “دواس بن يعقوب”، المحتسب، برجاله وختموا على أكثر من: 150 مخزنًا لـ”القمح” ومنعوا بيع الغلال منها فتزايد الغلاء والقحط وأشتد الصياح.. الجوع.. الجوع.. ولم يظهر خبز ولا دقيق..

ووسط هذه الأزمة لم يجد الخليفة الظاهر طريقة لحل الأزمة سوى استدعاء المحتسب، “دواس بن يعقوب”، وتوبيخه واتهامه بالتسبب في هذه المجاعة بسوء تصرفه.. فما كان منه إلا أن نزل وأطلق “القمح” من المخازن التي ختم عليها وفرض تسعيرة جبرية لـ”القمح” والخبز.. ورغم أن السعر لم يختلف عن ذروة الأزمة؛ إلا أن الناس هدأت لأنها وجدت الخبز رغم ارتفاع سعره.

إلا أن أعنف أزمة في الغذاء تعرضت لها “مصر”، بعد الفتح العربي؛ هي: “الشدة المستنصرية”، والتي يُضرب بها المثل في تأثيرها الاقتصادي والسياسي والإخلاقي.. فقد استمرت سبع سنين من عهد الخليفة الفاطمي، “المنتصر بالله”، الذي أفلت زمام البلاد منه وضعفت السلطنة بسبب استيلاء الأمراء على الدولة واستمرار الفتن بين العربان.. ويُلخص لنا “المقريزي” المقدمات السياسية لأكبر أزمة اقتصادية عرفتها “مصر” في تاريخها، فيقول: “كثر صرف الوزراء والقضاة وولاتهم لكثرة مخالطة الرعاع للخليفة؛ وتقدم الأراذل، بحيث كان يصل إليه كل يوم ثمانمائة رقعة فيها المرافعات والسعايات، فتشابهت عليه الأمور وتناقضت الأحوال ووقع الاختلاف بين عبيد الدولة وضعفت قوى الوزراء عن التدبير”. ومع بداية عام (457 هـ / 1064 م)، كان المصريون ينتظرون قدوم الفيضان؛ إلا أنه لم يأت ونقص “النيل” بصورة كبيرة فتزايد الغلاء وصحبه وباء شديد كاد يفتك بالمئات مع الارتفاع الشديد في الأسعار وتعطلت الزراعة وانتشر الخوف بين المصريين وتعذر على الناس السفر بدون حراسة كبيرة؛ ووسط هذه الأجواء انتشر الجوع حتى أن رغيف الخبز كان يُباع في مدينة “الفسطاط”: بخمسة عشر دينارًا؛ وتزايدت الشدة حتى كان الكلب أو القط يُباع للأكل بخمسة دنانير، وأشتدت الأزمة أكثر ووصل الأمر إلى أن أكل الناس بعضهم البعض، حيث كانوا يجلسون أعلى البيوت ليصطادوا المارة بالكلاليب ويشرحوا لحمهم ويأكلوه.. والأنكى من ذلك أن الأب والأم كانا يأكلان لحم صغارهما.. ومع بشاعة هذه الصورة.. كانت النساء تخرجن ناشرات شعورهن وتصرخن: “الجوع.. الجوع”.. ومن عجائب ما روى المؤرخون، خلال “الشدة المستنصرية”؛ أن امرأة من أرباب البيوتات أخذت عقدًا لها قيمته: ألف دينار؛ وعرضته على الناس في مقابل بعض من الدقيق فرفض الجميع.. إلا أن البعض أشفق عليها وباعوها مقدارًا من الدقيق في مقابل العقد فاستأجرت من يحميه حتى وصلوا بها إلى “باب زويلة” وتسلمته منهم ومشت قليلاً بدون حراسة؛ فاجتمع الناس عليها وتخطفوا الدقيق حتى لم يتبق لها سوى حفنة عجنتها وشوتها فلما صارت قرصة أخذتها وذهبت إلى قصر “المسنتصر” ووقفت على مكان عالٍ أمام أحد الأبواب وصاحت: “يا أهل القاهرة.. إدعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى تقومت على هذه القرصة بألف دينار”.. والأغرب من ذلك أن يتم بيع حارة بطبق خبز، حيث كان نصيب كل بيت رغيف واحدًا، وعرفت فيما بعد بـ”حارة طبق”.

ومع أن “مصر” كانت تمر بهذه الظروف السيئة؛ إلا أن المؤرخين يذكرون أن الدولة لا تعدم الوسيلة في فرض هيبتها، إذا هي أرادت أن تتصدى لجماعات المصالح والمتاجرين بأقوات الشعوب.. فقد قام الوالي.. في عهد “المستنصر”، (صاحب الشدة)، بإخراج مجموعة من المساجين، محكوم عليهم بالإعدام، وألبسهم ملابس الطحانين وتجار الغلال والخبازين وعقد مجلسًا عظيمًا وأمر بإحضار أحد هؤلاء التجار المزيفين حتى إذا وقف بين يديه؛ قال له: “ويلك ما كفاك أنك خنت السلطان واستوليت على مال الديوان إلى أن أخربت الأعمال ومحقت الغلال؛ فأدى ذلك إلى إختلال الدولة وهلاك الرعية.. أضرب رقبته”.. فقام السياف بقطع رقبته ثم أحضر آخر منهم؛ وقال له: “كيف جسرت على مخالفة الأمر بالنهي عن احتكار الغلة وتماديت على ارتكاب ما نهيت عنه، حتى تشبه به سواك فهلك الناس.. أضرب رقبته”، ونفذ السياف الأمر.. فاستدعي رجلاً ثالثًا.. فقام إليه الحاضرون من رؤساء تجار الغلة والطحانين والخبازين وقالوا له: “أيها الأمير.. في بعض ما جرى كفاية.. نحن نُخرج الغلة ونُدير الطواحين ونُعمر الأسواق بالخبز ونُرخص الأسعار على الناس ونبيع الخبز رطلاً بدرهم.. فقال الوالي.. ما يقنع الناس بذلك فقالوا رطلين فرفض وبعد توسل.. وافق.. وانتهت الأزمة. وهناك واقعة أخرى تؤكد إمكانية تدخل الدولة لحفظ الأسعار؛ ففي خلافة “الآمر بأحكام الله”، (495 هـ / 1101 م)، ووزارة “الأفضل”؛ حدثت أزمة في “القمح” ووصل سعر المئة أردب من “القمح”: بمئة وثلاثين دينارًا وتذمر الشعب وثار ضد التجار الذين يحتكرون بيع الغلال فاستدعى الخليفة، القائد “أبا عبدالله بن فاتك”، الملقب بـ”المأمون البطائحي”؛ وأمره أن ينهي هذه الأزمة، فقام بختم مخازن الغلال، وهو ما نُسميه اليوم بـ”التشميع”، وأحضر أصحاب هذه المخازن وخيٌرهم بين أن تبقى غلالهم تحت الختم إلى أن يصل المحصول الجديد أو يُفرج عنها وتُباع بثلاثين دينارًا لكل مئة أردب؛ فمن رضي بذلك باع ومن لم يرض ظلت الأختام على مخازنه إلى أن أتى المحصول الجديد، فاضطر الكثيرون إلى بيعها بالسعر المحدد خشية أن يأكلها السوس.

وشهدت “مصر”، في عهد الدولة الأيوبية وسلطنة “العادل أبي بكر أيوب”، (596 هـ / 1199 م)؛ أزمة غذائية لا تقل في شدتها عن المجاعة الكبرى في عهد “المستنصر” الفاطمي، فقد هجر الناس القرى من شدة الجوع وانتشر الوباء مع عدم مجيء الفيضان وانخفاض منسوب “النيل” لأدنى حد.. كل هذه الظروف السيئة جعلت المصريين يأكلون بعضهم.. وهلك كثير من أهالي القرى، بحيث إن القرية التي كان بها: 500 شخص، لم يبق فيها سوى ثلاثة أو أربعة.. ويأتي التناقض من أن الإنسان لا يكون له سعر في أجواء الأزمة وتصير الأخلاق في هذه الظروف كأخلاق الطائرة المختطفة. فبينما كانت البنت البكر تُباع بخمسة دنانير؛ كانت البقرة تُباع بسبعين دينارًا.. وهذه المقارنة لا نعتقد أنها اختلفت كثيرًا في زماننا هذا، فسعر الإنسان المصري عند حكومته هو: 500 جنيه، بينما وصل سعر الحمار إلى: 5000 جنيه.. المهم أن من تبقى من المصريين قاموا بثورة من أجل البقاء.. واستمرت هذه الانتفاضة تشتعل وتخمد مع ارتفاع أسعار الغذاء.. وبمقارنة أسعار الخبز، عام (587 هـ / 1191 م)، إلى عام (597 هـ / 1200 م)، نجد أن السعر تضاعف: 36 مرة.. وهذه الزيادة في الأسعار، مقارنة بأجور الشعب المصري محدود الدخل؛ تُعتبر باهظة، فعامل البناء كان يتسلم في اليوم خمسة دراهم ووجبة غذائية؛ قيمتها: 1.25 درهم.. بينما كان الصبي يحصل على: 1.5 إلى: 1.75 درهم، بدون وجبة غذائية.. وبمقارنة احتياجات الأسرة من الخبز بالأسعار نجد أن الأسرة المكونة من 04 أفراد تستهلك: 04 أرطال يوميًا، بلغت أسعارها، في عام (597 هـ / 1200 م)، ما يقرب من: 06 دراهم يوميًا، وهو ما يتجاوز أجر العامل محدود الدخل شهريًا؛ إذا قدر له أن يعمل الشهر بأكمله.

أي أن العامل لن يستطيع أن يوفي احتياجات أسرته من الخبز فقط..

وفي العام الثالث من حكم “العادل كتبغا”، (696 هـ / 1296 م)، أحد سلاطين المماليك البحرية؛ حدثت مجاعة شديدة وصل معها سعر أردب “القمح”؛ إلى: 190 دينارًا، ويصف “المقريزي”، هذه الأزمة بقوله: “.. فتزايد السعر وساءت الأحوال وكثر الشُح وضاقت الأرزاق وأشتد البكاء وعظم ضجيج الناس في الأسواق من شدة الغلاء”، وبسبب هذه الأحوال حدثت الاضطرابات بين المواطنين وقاموا بالثورة ونهبوا الخبز من الأفران والحوانيت حتى كان العجين لا يخرج إلا ومعه حراس يحمونه بالعصي خشية خطفه فكان كثير من الناس يلقي بنفسه على الخبز دون اهتمام بالضرب المُبرح لشدة ما نزل به من الجوع، ويذكر المؤرخون بُعدًا سياسيًا لهذه الأزمة الاقتصادية، فقد تفشت الرشوة والبرطلة واختلاس الموظفين للأموال العامة، في زمن “العادل كتبغا”، ووزيره “فخرالدين عمر بن عبدالعزيز الخليلي”، واغتصب أهل الحكم أموال وأملاك الشعب بحجة مواجهة هذه الأزمة.. يعني: “موت وخراب ديار”.

وفي عام (709 هـ / 1309 م)؛ وفي نهاية حكم السلطان “ركن الدين بيبرس الجاشنكير”؛ توقفت زيادة “النيل”؛ فارتفعت أسعار الغلال والخبز واضطربت الأحوال وضج الناس وتشاءم المصريون بقدوم السلطان “بيبرس”، فاجتمعوا وهم يغنون:

“سلطاننا ركين.. ونائبه دقين.. يجينا الماء من أين يجيبوا لنا الأعرج.. يجي الماء يدحرج”. وهذه السخرية من الحاكم في مواجهة الأزمة هي أكثر طرق المقاومة السلمية.. فالسلطان “ركن الدين بيبرس”؛ تحول إلى (ركين)؛ وهي تصغير وتحقير ونائبه الأمير، “سلار”، أطلقوا عليه اسم: “دقين”، فقد كان من التتار، وكان أجرد وفي حنكه بعض شعيرات.. أما الأعرج فهو: “الناصر محمد بن قلاوون”، الذي مرت البلاد أثناء فترة حكمه بعدد من الأزمات.. ولما بلغ السلطان “بيبرس” أن العامة ساخطون ويهاجمونه ويسخرون منه بهذا الكلام؛ أمر بالقبض عليهم.. وبالفعل قبضوا على: 300، فضربوا بعضهم بالمقارع وقطعوا ألسنة البعض الآخر.. وفيما يبدو أن الحاشية أفهمته أنها: “انتفاضة حرامية”.

وفي ذروة الفساد الإداري، الذي مارسه المماليك، الذين كان شراء المناصب في عهدهم شيئًا عاديًا؛ وكانت الرشوة هي دستور الحياة وانقسام الحكم بين أجنحة متعددة تتحكم فيها جماعات المصالح، وقعت أزمة كبيرة في عهد السلطان “الناصر محمد بن قلاوون”، الذي عُزل عن السلطنة وعاد مرتين؛ كانت آخرهما في الفترة من: (709 هـ / 1309 م) إلى: (741 هـ / 1340 م).. فوصل سعر “القمح” إلى خمسين درهمًا للأردب فأمتنع الأمراء الذين كانوا يتحكمون في نقل واستيراد “القمح” عن توريده للطحانين؛ فخاف السلطان عاقبة ذلك على المواطنين فطلب، “نجم الدين الأسعردي”، المحتسب، وشد عليه في الحديث.. وأرسل معه والي “القاهرة”، الذي كان ظلومًا غشومًا، فبدلاً من أن يواجه الأمراء المحتكرين.. قام بضرب الطحانين والخبازين بالمقارع، فأغلقوا الدكاكين وأشتدت الأزمة واختفى الخبز من السوق.. وفي هذه الظروف كان السلطان، “الناصر محمد بن قلاوون”، يعلم أن الشعب قد يتحمل ظلم الأمراء وتعسفهم وجورهم واحتكارهم للسلطة.. وأن الشعب أيضًا لا يهمه أن يقوم “الناصر” بتوريث الحكم لأحد أبنائه، ولكن عندما يقترب أحد من لقمة العيش فهذا هو الخط الأحمر.. وقد استوعب السلطان الدرس وهو ألا يدع أخطر محصول في يد جهة واحدة.. فقام بتنويع مصادر استيراد “القمح” من: “عزة” و”الكرك”.. و”دمشق والشوبك” وأصدر أوامره بأن من باع أردب “القمح” بأكثر من ثلاثين درهمًا نٌهب ماله… إلا أن هؤلاء الأمراء الذين كانوا يحتكرون استيراد وتوريد الغلال؛ امتنعوا عن البيع.. واستغل السماسرة هذه الأجواء وباعوا أردب “القمح” بسبعين درهم، وعندما زاد تهديد السلطان “الناصر بن قلاوون”، للأمراء، زاد تحايلهم فكانوا يخرقون قرار السلطان ويخرجون الغلال من الشون على أنها جراية لمخاديمهم.. ولم تهدأ هذه الأزمة إلا بأمر السلطان للولاة بالخروج بأنفسهم لمتابعة ونهب مخازن الغلال، التي كان يخزنها قواد الجيش وكبار رجال الدولة.

وأيضًا قام المصريون بثورة ضد المحتسب الموالي للتجار، والذي يعمل ضد مصلحة العامة، ففي عام (749 هـ / 1348 م)؛ رجمت العامة، “ابن الأطروش”، المحتسب، بسبب ارتفاع سعر الخبز؛ فبلغ ستة أرطال أو سبعة أرطال بدرهم، وعندما قام أحد الخبازين بخفض سعر الخبز، حيث باع ثمانية أرطال بدرهم طلبه، “ابن الأطروش”، وضربه بسبب ذلك، فثارت العامة ورجموا باب داره.

وكان العامة يعتبرون المحتسب مسؤولاً عن حدوث ارتفاع الأسعار؛ نتيجة تساهله مع التجار والباعة الجشعين وإهماله في الإشراف على الأسواق، ولذلك كثرت ثورات الشعب من أجل عزل بعض المحتسبين وتولية آخرين، عندما ارتفع سعر الغلال ولجأ كثير من الناس إلى تخزينها طمعًا في ارتفاع سعرها فتزداد أرباحهم فثارت العامة وطالبوا بعزل المحتسب، “محمد الدميري”، وتعيين، “محمود بن العجمي”، بدلاً منه.

وحتى نعلم خطورة وظيفة المحتسب؛ أو ما يمكن أن نسميه “وزير التموين والتجارة” في العصر الحديث، وأهميتها لدى الناس، ما يذكره، “محمد بن أحمد بن الأخوة”، في (معالم القربة في أحكام الحسبة)، بأن على المحتسب: “أن يكون ملازمًا للأسواق يركب في كل وقت ويدور على السوقة والباعة… ويتفقد معايشهم وأطعمتهم وما يغشونه، ويفعل ذلك في الليل والنهار وفي أوقات مختلفة وذلك على غفلة منهم”.

ولأن شخصية المحتسب، أو “وزير التموين”، كانت تنعكس على أحوال الأسواق؛ فإن عامة الناس كانت تفرح باختيار شخصية تتصف بالنزاهة والعدل.. وهو ما حدث عندما أعيد، “جمال الدين العجمي”، إلى حسبة “القاهرة”؛ ففرح العامة فرحًا زائدًا لدرجة أنهم حملوا بغلته وهو يركب فوقها، وذلك لأن الخبز قد ندر وجوده بالأسواق عدة أيام فكان كما ظنوا.. ورخص سعر الغلة وتوافر الخبز بالأسواق.

وفي عام (796 هـ / 1393 م)، وفي سلطنة “الظاهر برقوق”؛ تظاهر المصريون مظاهرة سلمية عبروا عن غضبهم فيها بالكلام، وانتهت الثورة بعزل المحتسب، “البهاء البرجي”، وتولية، “ابن الطبلاوي”، الحسبة، والذي اتخذ بعض الإجراءات لمواجهة هذه الأزمة ففتح شون الأمراء ومنع التجار المحتكرين من احتكار الغلال.

وفيما يبدو أن سياسة كبش الفداء هي منهج أصيل في السياسة المصرية؛ منذ أقدم العصور.. فالمحتسب هو أقرب شخص تتم الإطاحة به لتهدئة الرأي العام.. ليظهر السلطان وكأنه “المهدي المنتظر”.. وهو ما تكرر أيضًا، في عام (798 هـ / 1395 م)، وفي حكم السلطان “برقوق”؛ حدث غلاء شديد في سعر الخبز وندر وجوده في السوق فوقف العامة، للسطان “برقوق”، وصرخوا من الجوع وكانوا يتخاطفون الخبز من رءوس الحمالين.. فما كان من السلطان إلا أن عزل المحتسب لتهدئة ثورة الناس وتعيين شخص آخر مكانه.. بل وحدد سعرًا إجباريًا لبيع الرغيف بربع درهم؛ وأخذ الناس في الإنهماك عل طلب الخبز وخطفه من الأفران وقتال بعضهم البعض بسببه، ووصل سعر الأردب إلى: 120 درهمًا.. وعلى حد وصف “المقريزي”.. فإنها “كانت أيامًا شنعة”.

وفي عهد السلطان “المؤيد شيخ المحمودي”، (818 هـ / 1415 م)، وقع غلاء شديد في الأسعار كانت بدايته غريبة، فلم يكن لهذا الغلاء أي مقدمات بل كانت هناك وفرة في الغلال وزيادة في الماء والزرع، فكان أردب “القمح”، ذو الجودة العالية، لا يتجاوز نصف الدينار والأقل جودة؛ كان يباع ثلاثة أرداب بدينار واحد، إلا أن كثرة الفتن وثورات العربان في أنحاء البلاد وإرسال الحملات العسكرية إليهم؛ كانت تتسبب في فساد المزروعات وإتلافها، ولا يتم حصاد الغلال.. وما زاد من هذه الأزمة أن المسؤولين الذين كانوا يحكمون “مصر”، في غياب الملك “المؤيد”، احتكروا تجارة “القمح”.. فكان أصحاب النفوذ يهددون المستوردين بعدم بيع “القمح” لغيرهم.. فاختفى “القمح” من الأسواق شيئًا فشيئًا وتوقفت دكاكين الخبازين عن البيع وقفز سعر أردب “القمح” فجأة من دينار واحد إلى ثلاثمائة دينار للأردب.

فتزاحم الناس على الأفران إلى أن أغلقت أبوابها وتحولوا إلى بيعه من أسطح المنازل.. وتزايد الزحام على الأفران وزادت الأسعار حتى ثار الأهالي وخطفوا الخبز من الدكاكين والأفران وأنشغل الناس في انتظار المراكب في “ميناء بولاق”؛ طلبًا لـ”القمح”، وكانوا يذهبون إلى الأفران في منتصف الليل.. ومات جماعة من الناس من الزحام لشراء الخبز فضج الناس وثاروا.. ولم ينقذهم من هذه المحنة سوى ما يملكه المصريون من قدرة على التحايل على الأزمات.. فاستعاضوا عن “القمح”، بـ”الذرة والأرز والخضراوات”.

ويذكر “المقريزي”؛ أنه في سنة (831 هـ / 1427 م)، وصل سعر أردب “القمح” إلى أكثر من: 400 درهم، رغم زيادة “النيل”، وكان السبب أن الأمراء والأعيان شرهوا في الفوائد وشاركوا من دونهم في إدخار الغلال طلبًا للفائدة؛ فعز وجود الغلال وارتفع سعرها وفقد الخبز من الأسواق أحيانًا وصارت ولاة الأمور بعيدة عن طرق المصالح.. فإن غاية مقاصدهم، إنما هي أخذ المال على كل وجه أمكن أخذه.. فلهذا اختلت الأموال وضاعت المصالح.

وفي سلطنة “الأشرف برسباي”، عام (839 هـ / 1435 م)؛ حدث ارتفاع شديد في أسعار “القمح”؛ حتى وصل سعر الأردب إلى: 360 درهمًا، فضجت العامة واستغاثوا من قلة الخبز في الأسواق مع كثرة وجوده في الشون.. ووقف العوام للسلطان وأخبروه بعدم وجود الخبز مع كثرة “القمح”، فلم يلتفت إليهم والواقع أن السلطان لم يكن ليفعل شيئًا، لأنه ببساطة كان يحتكر تجارة “القمح” وغيرها من السلع الإستراتيجية، وكان يتبع سياسة طرح البضائع فهو يشتريها من الفلاحين بأسعار زهيدة ثم يبيعها للشعب بأسعار مرتفعة.. والشعب كعادته مُرغم على الشراء ومطلوب منه أن يهتف بحياة السلطان.. وقدرته على مواجهة الأزمات رغم أنه رأس الفساد.

ووسط هذه الظروف السيئة وانتشار المجاعات وانخفاض مستوى “النيل” واختفاء الخبز من الأسواق؛ خرج المصريون عن صمتهم في عهد “الظاهر جقمق العلائي”، عام (854 هـ / 1450 م) ليثوروا على هذه الأوضاع، ولكن بطريقة عليها بصمة المصريين.. فكيف يواجهون استبداد الحاكم وفساد المسؤولين والأمراء والوزراء ؟!

إنها السخرية من كل هؤلاء.. فكانت الطبقات الشعبية تخرج في الشوارع تنشد العديد من الأغاني التي تزخر بالنقد اللاذع للسلطان وحاشيته.

ولم ينس المصريون أهم ما يميزهم.. وهو القدرة على استخدام التورية للإستهزاء بمن يتاجرون بأقواتهم.. فقد أطلقوا العديد من الألقاب التي تُشير إلى التهكم والسخرية.

فالأمير “سيف الدين مكتمر الناصري”؛ أطلقوا عليه: “الدم الأسود”، والأمير “ناصر الدين”، أطلقوا عليه: “فار السقوف”، والأمير “طشتمر البدري”، كان الاسم الحركي له: “حمص أخضر”.. وقد أطلق المصريون علي الأمير “قطلوبغا الفخري”، لقب: “فول مقشر”.

أما عام (873 هـ / 1468 م)؛ وفي عهد “الأشرف قايتباي”؛ شهدت الأسعار ارتفاعًا كبيرًا وعبثًا حاولت السلطات تسعير المواد الغذائية فسعرت “القمح”، بمبلغ: 400 درهم للأردب، ولكن السماسرة نجحوا في بيعه في “السوق السوداء”؛ بأكثر من: 750 درهمًا للأردب، وذلك لدخول كثير من الأمراء في مجال التجارة وتحكمهم في الأسعار، فثار الشعب وأهان السلطان.. والغريب في الأمر أن السلطة حاولت تسعير “القمح”، ليس من أجل عيون الشعب الجائع المتذمر، ولكن لينتقموا من أحد التجار، وهو “ابن عمر الهواري”، لأنه أرسل كمية كبيرة من “القمح” لبيعها في “القاهرة”، الأمر الذي كان سيؤدي إلى خفض أسعار الحبوب، وهو ما سيؤدي بدوره إلى خسائر فادحة للأمراء.. وهي قضية ما زلنا نعاني منها، وهي تزاوج السلطة والمال.. وإنشغال المسؤولين بشركاتهم والبيزنس الخاص الذي يعتمد على استنزاف الفقراء !

وفي كثير من الأحيان كان الباشوات يستغلون أزمة نقص القمح للتربح، ففي عهد “علي باشا السلحدار”، وفي سنة (1010 هـ / 1601 م)؛ حينما أشتدت الأزمة وضاقت الأحوال بالناس فثاروا واضطروا إلى خطف العجين من المواجير والخبز من الأسواق، حاول الباشا ودون النظر إلى حالة المواطنين أن يبيع “قمح العنبر الشريف” إلي الأوروبيين في أكياس على أنها “بهار” مستغلاً الظروف للحصول على مكاسب من السوق السوداء لدرجة أن العسكر ثارت ضده؛ وقالوا له: “كيف تبيع القمح للأفرنج، وقد أكلت الناس بعضها بعضًا من الغلاء ؟”، واضطر الباشا إلى الإمتناع عن بيع “القمح”.. لأنه أحس أن موقعه مهدد وأن الجنود يمكن أن يقوموا بانقلاب عسكري ضده.. فالكرسي يستحق التضحية بالمال، ولو مؤقتًا، حتى تُمر الأزمة.

وعندما لم يجد الشعب لنداءاته السلمية صدى؛ كان يقوم باستخدام القوة، كما حدث عام (1107 هـ / 1695 م)، عندما أشتدت وطأة الأزمة على الفقراء؛ فاجتمعوا وطلعوا إلى الديوان يشكون ما حل بهم وصاحوا ونادوا: “متنا من الجوع وشدة الغلاء”، فلما لم يجدوا لنداءاتهم رد فعل أخذوا الحجارة ورجموا جميع من في الديوان؛ فضربهم الوالي جميعًا وطردهم فنزلوا إلى “الرميلة”؛ فنهبوا جميع الغلال التي كانت في المخازن وإزدادت الأسعار حتى أن أهل الأرياف والبلاد جاءوا إلى “القاهرة” وأمتلأت أزقة “مصر” وحواريها وأسواقها بالبشر وأشتد الكرب والبلاء وأكلت الناس الجيف.. وأفتقر الأغنياء.. وتهتكت الأحرار.. وهجت الناس جوعًا، بحيث أن الأزقة والحارات أمتلأت بالأموات وصار الفقراء يخطفون الخبز من الأسواق والعجين وهو في طريقه للأفران.

ولأن الفقراء هم دائمًا الذين يدفعون ثمن الخلافات السياسية، فقد شهدت سنة (1198 هـ / 1784 م)؛ خلافًا دمويًا بين “مراد بك” و”إبراهيم بك”؛ وانعكست هذه الفتنة على أحوال الفقراء الاقتصادية، فقد أفحش “مراد بك”، في السلب والنهب وأكل جنوده مزروعات “الجيزة”؛ ولم يتركوا على وجه الأرض عودًا أخضر.. وإزدادت الإتاوات والضرائب التي كان يفرضها الأمراء وأتباعهم.. حتى طفش الناس من بيوتهم وهجروها.. وتحول “مساتير” الناس ­ على حد وصف “الجبرتي” ­ إلى فقراء.. وزادت الأسعار.. وحل بالناس ما لا يوصف فتغيرت القلوب والطباع وكثر الحسد والحقد وعربدت أولاد الحرام وفقد الأمن ورحلت الفلاحون عن بلادهم وانتشروا في المدينة بأولادهم، وهم يصيحون من الجوع وأكلوا ما كان يتساقط في الشوارع من قشور البطيخ وغيره؛ فلا يجد الزبال شيئًا يكنسه.. وأكلوا الحمير الميتة ومات كثير من الفقراء من شدة الجوع وعز الدرهم والدينار في أيدي الناس.

وكما كان “الأزهر” محركًا لثورات سياسية كثيرة؛ فقد كان محركًا لثورات الجوعى، ففي يوم الجمعة 20 صفر 1200 هـ / 23 ديسمبر 1785 م.. قام مجاورو “الأزهر” بثورة بسبب توقف صرف جرايتهم من الخبز وأغلقوا أبواب الجامع.. فحضر إليهم “سليم أغا”؛ فشكوا إليه وإلتزم لهم بحل المشكلة في الصباح فسكنوا وفتحوا الجامع وانتظروا.. إلا أن “سليم أغا”؛ لم ينفذ ما وعد به فأغلقوا الجامع “الأزهر” مرة ثانية وصعدوا إلى المنارات وأخذوا يصيحون ويهتفون ضد الوالي والباشا، فحضر “سليم” ومعه كمية من الخبز، فهدأت ثورتهم، إلا أن هذه الكمية لم تكن كافية فعادوا للثورة، وكان ذلك المشهد يتكرر مرارًا.

فقبل هذا الموقف بشهور قليلة ثار فقراء المجاورين والقاطنين بـ”الأزهر” وقفلوا الأبواب ومنعوا صلاة الجمعة، وأغلقوا مسجد “المشهد الحسيني”، وخرج المجاورون والعميان يرمحون بالأسواق ويخطفون ما يجدونه من الخبز، وغيره وكان سبب ذلك قطع رواتبهم من الخبز.

وفي عام (1218 هـ / 1803 م)؛ حدث نقصان شديد في مياه “النيل” وأشتدت أزمة الغلال وشح وجود “القمح”، في يد الشعب، بينما كان الأمراء يقومون بحجز مراكب “القمح”، وهي في “النيل” بالقوة وقل الخبز في الأسواق مع كثرة الضرائب والغرامات والإتاوات التي كانت مفروضة علي فقراء المصريين فكان الناس يذهبون إلي “ساحل بولاق” ينتظرون قدوم “القمح” بلا فائدة؛ فكانوا يعودون وهم يصرخون، وإزداد الفساد الإداري بالدولة؛ فكان الأمراء يفرضون تسعيرة جبرية لبيع “القمح” ثم يحصلون على رشاوي ضخمة لإعفاء البعض منها.. بل إنهم كانوا يشترون “القمح” من أصحابه بأبخس الأسعار ثم يبيعونه للشعب بالغلاء.

ومن أبشع مظاهر هذا الفساد أن المحتسب، الذي كان مفترضًا أن يراقب الأسواق.. كان هو الفاسد الأكبر.. حيث كان يأخذ: 200 أردب حصة الخبازين؛ فلا يوزع عليهم سوى: 50 أردبًا.. فأدى ذلك إلى حدوث أزمة طاحنة في الخبز.

ولأهمية الخبز؛ فإن المصريين كانوا حريصين على عدم غشه، ويروي الرحالة، “جوزيف بتس”، أو “الحاج يوسف”، الذي زار “مصر”، عام (1092 هـ / 1680 م)، عن عقاب غش الخبز قائلاً: “ومع أن أهل القاهرة مولعون بغش الغرباء، فإنهم يعاقبون بصرامة من يطفف الكيل والميزان، فالخبز يتم فحصه، فإذا ثبت أن وزنه أقل من الوزن القانوني تم سحبه ­ أي الخبز ­ وتوزيعه على الفقراء ومعاقبة الخباز بضربه بالفلقة على قدميه العاريتين بشدة.. لذا فإن بعض الخبازين يتركون خبزهم إن كانوا يعلمون أن وزنه أقل من الوزن القانوني ويفرون هاربين لتجنب العقاب البدني”.

ومن الطريف أن مشكلة تحايل أصحاب الأفران على رجال التموين ببيع الدقيق في السوق السوداء بدلاً من صنع الخبز منه مشكلة قديمة جدًا.. فجريدة (الوقائع المصرية)، في العدد (164)، بتاريخ 20/07/1830 م تذكر بصورة تفصيلية وزن الخبز.

وطالبت في نفس الأمر بالتنبيه على الستة والأربعين خبازًا، الذين يعملون في “القاهرة”؛ بأن لا يطمعوا في الغلال التي يأخذونها من الشونة وألا يبيعوها.. بل يخبزوها حكم المعدل من غير أن يظهر نقص في الميزان.. كما طالبت من هؤلاء الخبازين بالذهاب إلى المحتسب وإلى “عمر أغا”، ناظر شونة الغلال، للتفاهم بشأن ذلك.. مما يُبين أن التعامل مع هذه الطائفة غير سهل، وأنها في عملها تؤرق من يتعامل معها.

وكذلك تذكر (الوقائع المصرية)، أن “محمد علي” أمر بالتنبيه على جماعة المحتسب؛ بأنهم إذا وجدوا خبزًا ناقصًا: “أو غير مستوفٍ فإن عليهم أن يضربوا صاحب الفرن مائتي كرباج وأن يغلقوا فرنه.. وإن وجدوا خبزه ناقصًا مرة أخرى وغير مستوٍ أن يُرسل إلى اللومان وفقًا للقوانين، وأن ينبه على الخبازين من مشايخهم باتخاذ ذلك دستورًا للعمل”.. ومن الواضح أن هذه الطائفة قد أرهقت المحتسب، “عمر أغا”، لدرجة أنه أجتهد لوضع ما أسماه دستورًا للتعامل معهم.

إذاً لم تكن تلك الأصوات الهادرة التي انطلقت، يومي: 18، 19 (كانون ثان) يناير 1977، رافضة لزيادة أسعار رغيف العيش بمعزل عن السياق التاريخي لفكرة الرفض والمقاومة في العقل المصري، تلك الأحداث التي أطلق عليها حملة المباخر في عصر “السادات”: “انتفاضة حرامية”.. ذلك المصطلح الذي لم يكن غريبًا هو الآخر عن السياق التاريخي الكامن في عقل، “الهليبة”، وتجار الدماء والمتلاعبين بأقوات الشعب.. وكان التفسير الدائم لأي حركة يقوم بها الشعب للدفاع عن القوت هي أنها حركة حرامية !.

والغريب أنك عندما تفتش في ثنايا أحداث التاريخ تجد زخمًا نضاليًا مقاومًا يتعارض مع السلبية والخنوع والرضاب القليل الذي يبديه هذا الشعب في رحلته عبر آلاف السنين. فقد تكيف مثلاً مع ظلم الفاطميين وأزمات الأيوبيين بقوله: “حاكم غشوم ولا فتنة تدوم”.

شعب تحمل المجاعات، وتكيف مع الحكام الظالمين عبر تركيبة غريبة وكيمياء يصعب على علماء الإنثروبولوجي التوصل إلى سرها وفك طلاسمها.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب