4 مارس، 2024 2:33 م
Search
Close this search box.

ثنائية التضادّ في رواية (بغداد مالبورو) للكاتب والروائي نجم والي

Facebook
Twitter
LinkedIn
كتب : علي جبار عطية

ينقلك الروائي والكاتب نجم والي إلى أعلى مواقف التضادّ في معالجته للمحنة العراقية المستمرة في روايته المثيرة (بغداد مالبورو)، تلك المحنة التي لخصها بقوله: (طالما هناك عراقٌ، ستكون هناك حروبٌ) ص٢٨٤
أهدى الكاتب روايته إلى الجندي الأمريكي الشجاع (برادلي مانينك) الذي حُوكم بسبب تسريبه وثائق سرية إلى موقع ويكليكس.


أول ما يلفت الانتباه في هذه الرواية عنوانها الذي يشير للوهلة الأولى إلى مكانين معروفين، لكنَّ الاستغراق في التفاصيل يظهر أنَّ الكاتب استخدم بمهارةٍ اسمين لسيجارتين هما :سيجارة (بغداد) التي طواها الزمن، وسيجارة (مالبورو) الشهيرة التي أنتجها فيليب موريس في بريطانيا سنة ١٩٠٢م ثمَّ افتتح مصنعاً لها في نيويورك سنة ١٩٩٢م ليبقى اسمها الذي هو اسم شارع في بريطانيا.
وبينما يتوقف إنتاج سيجارة بغداد مع بدء الحصار الاقتصادي على العراق مطلع التسعينيات تزدهر صناعة سيجارة مالبورو لتصبح عام ١٩٩٢م العلامة التجارية الأولى في العالم وتباع في (١٨٠) دولة من دول العالم وتبلغ قيمتها السوقية (٣٢) مليار دولار ولديها ٣٨٪ من حصة السوق الأمريكية وفي المركز العاشر من حيث القيمة الإجمالية لمنتجات العالم (يراجع موسوعة  ويكيبيديا الحرة).
إذنْ لم يستخدم الكاتب عنوان روايته جزافاً، بل فيه إشارةٌ واضحةٌ إلى سيادة عصرٍ أمريكيٍّ بامتيازٍ على عالمٍ صار وحيد القرن بعد أن كان متعدد الأقطاب!!
وثمة إشارةٌ أخرى للكناية بالسيجارتين هي: أنَّهما يشتركان بخاصية الاحتراق برغم اختلافهما النوعي وحين يرتبط  بطل الرواية الشاعر (سلمان ماضي) بصداقةٍ مع الجندي الأمريكي دافييد باربيرو يتبادلان سجائرهما .. يقول أحدهما للآخر: (أنا مالبورو وأنتَ بغداد) ص٣١٠.
يخفي الراوي العليم اسمه برغم تكفله بسرد مصائر الشخصيات، وهو سردٌ ممتعٌ وشائقٌ، فهو طبيبٌ بيطريٌّ توكل إليه في الوحدة العسكرية مهمة العناية بالحمير، والبغال، ويكون مسؤولاً عن فحص الحمير المناسبة للسير في حقل الألغام، أما البغال التي كانت أكثر وعياً من كثيرٍ من الناس فكان من ضمن مسؤولياته إيقاف انتحارها!!
يبحث الطبيب البيطري عن صديقٍ له في وحدته العسكرية خلال الحرب العراقية الإيرانية فيجد الشاعر سلمان ماضي نديمه وصديقه الذي ترتكز عليه أحداث الرواية المثيرة.
تظل هذه الصداقة صامدةً على مدى أكثر من ربع قرن نتعرف من خلالها على أبرز شخصيات الرواية وهو الجندي الأمريكي (دانييل بروكس)، أو الرجل المبتسم ـ كما يُطلق عليه زملاؤه هذه الصفة ـ وهو أسمر البشرة يؤدي عمله بإخلاصٍ وتفانٍ في القاعدة الأمريكية في السعودية برغم مايعانيه من تمييزٍ عنصريٍّ.
هذا الجندي يرتبط بعلاقة صداقةٍ مع الشاعر سلمان ماضي خاصةً حين يجد في إحدى مناطق الاشتباك بين الجيش الأمريكي وبقايا الجيش العراقي في منطقة الخفجي دفتراً دوَّن فيه الشاعر سلمان ماضي أسماء جنود كتيبته التي قرر جنرالٌ  أمريكيٌّ في غفلةٍ من الضمير دفنهم أحياء.
هذه الحادثة لها نظيرٌ في الجانب العراقي حيث أمر ضابطٌ عراقيٌّ بقتل نحو ثلاثين أسيراً أمريكياً قام أحد ضباطهم وهو في الأسر بقتل جنديٍّ عراقيٍّ اعترض على قتلهم بوصفهم أسرى فكان جزاؤه أن يقتل على يد الضابط الأمريكي وهو يحاول الهرب من الأسر.
هاتان الحادثتان تظهران مدى وحشية الحرب التي يصير فيها المشتركون مجرد منفذين لأوامر قادتهم. يحاول الجندي (دانييل بروكس) التكفير عن ذنبه لاشتراكه بقتل الأسرى العراقيين، فيقوم بجمع التبرعات من الكنائس والقدوم إلى بغداد، والبحث عن ذوي الضحايا، وهو موقفٌ انسانيٌّ نبيلٌ بينما نجد الشاعر سلمان ماضي الذي اشترك بقتل الأسرى الأمريكيين يتخذ موقفاً سلبياً بترك عائلته والسكن في منطقة الميدان ببغداد ، والإدمان على المسكرات والاكتفاء بالتعليق على الأحداث وكأنَّه في عالمٍ آخر.
تمتلىء الرواية بالألغاز ابتداءً من مستهلها حين يبحث الجندي الأمريكي دانييل بروكس عن  الطبيب البيطري الذي صار مقاولاً ناجحاً بعد التغيير النيساني سنة ٢٠٠٣ م ليعطيه دفتر الشاعر سلمان ماضي مع المبلغ الذي جمعه لعوائل الضحايا، فإذا به يجد نفسه مخطوفاً من قبل إحدى الفصائل التي ترفع راية الجهاد وتدَّعي مقاومة الأمريكان في العلن وتتفاوض معهم سراً على فديةٍ كبيرةٍ . وبينما يجد الطبيب البيطري والمقاول نفسه في محنةٍ إثر مقتل زوجته (أزهار) مع أربعة وعشرين فرداً من عائلتها بقريةٍ على ضفاف الفرات في قصف أمريكي يتعرض لامتحانّ آخر أقسى فالخاطفون الملثمون احتلوا بيته الذي يقع في منطقةٍ راقيةٍ في بغداد ثمَّ استدعوه ليطلبوا منه أن يقتل الجندي الأمريكي دانييل بروكس نفسه، ولا خيار أمامه أما أن يكون قاتلاً، وأما أن يكون قتيلاً!
يذكر فلسفته بوضوحٍ أنَّ المهم هو بقاؤه حياً.. يقول ص ٧٨ :(لقد جمعت قواي كلها من أجل مشروعي الكبير الرئيس البقاء على قيد الحياة رغم أنَّ ذلك  وحده انجازٌ كبيرٌ في بلاد مثل هذه التي نعيش فيها)، وللتخلص من هذا الامتحان يقرر الهرب باتجاه مدينة العمارة ليجد الترحاب هناك مع أنَّه من المنطقة الغربية ومحسوبٌ على النظام السابق.
يظل الطبيب البيطري والمقاول هارباً نحو سنتين ، ثمَّ يقرر العودة إلى بغداد بعد قراءته تحقيقاً عن مقتل قاضٍ رفيع يدعى ( ألف.ش) على يد مجنونةٍ تُدعى (أحلام) بتحريض من الشاعر سلمان ماضي الذي يلقى حتفه بعد اعتقاله. وقصة أحلام مثيرةٌ هي الأخرى؛ فقد تعرف عليها الشاعر سلمان ماضي في كركوك، وأحبها وكانت  تبحث عن هذا القاضي الذي رُشح  إلى منصبٍ كبيرٍ في الجهاز الحكومي، ورأته في التلفزيون يتحدث عن العدالة، وضرورة تطبيقها، فأرادت تطبيق العدالة فيه؛ لأنَّه عندما كان شاباً خدعها، ووعدها بالزواج فلما أخذ منها أعز ما تملكه تركها نهباً لرجال السلطة فظلت تنتظر   خمس عشرة سنة حتى ظفرت بالقاضي وهو يستعد لدخول المسجد ظهيرة الجمعة، وأمطرته بالرصاص!
ثمة شخصياتٌ مؤثرةٌ أُخرى برغم قصر مساحة دورها كشخصية(ميعاد) الفتاة المتحررة التي رفضت الزواج من ابن عمها فكان جزاؤها القتل طعناً بالسكين وكان جزاؤه السجن ستة أشهر بدعوى غسل العار ليظهر فيما بعد في الفضائية العراقية مرشحاً لأحد المناصب الوزارية!!
وهناك شخصية ( نخيل) المدرّسة زوجة الشاعر سلمان ماضي التي يقرر الطبيب البيطري والمقاول الارتباط بها بعد مقتل زوجها، والسفر إلى أمريكا بوصفها المحطة الآمنة التي يلجأ إليها بعد اليأس من عودة السلام إلى الوطن.
أما كاتب الرواية نفسه  فيرد ذكره  باسم الروائي (هارون والي)،الذي له أعمالٌ روائيةٌ هي ذاتها أعمال الروائي نجم والي ربما لكسر الايهام ! وهو صديقٌ مشتركٌ للشاعر سلمان ماضي، وللراوي والطبيب البيطري والمقاول الذي يظل اسمه مجهولاً برغم دوره المحوري الكبير، وصنعه للأحداث !
وكما بدأت الرواية بقوةٍ كانت نهايتها قويةً، فالراوي  يقرر بعد مقتل صديقه الشاعر سلمان ماضي أن يتخلى عن سلميته، وكراهيته للقتل بعد التأكد من قطع رأس الرهينة (دانييل بروكس) الذي أسلم وصار اسمه (دانييل حسين) وتزوج من المدرّسة التونسية (كنزة)، وقد قام الخاطفون الملثمون بقطع رأسه، فيقرر الراوي الانتقام منهم فيرسم سيناريو قتلهم بالدخول إلى بيته خلسةً والإجهاز عليهم وهم سبعةٌ ملثمون، وكان له ما أراد، ثمَّ يكتشف أنَّ شخصين من القتلة من ذوي رحمه، أحدهما أخوه، والآخر ابن أخيه!
لقد كان الكاتب أميناً في توثيق ماحدث طوال سبع وعشرين سنة هي مدة احتدام الصراع في المنطقة الساخنة في الخليج وتحديداً منذ سنة ١٩٨٤م وحتى سنة ٢٠١١م بالتفصيل الشائق للجحيم العراقي معتمداً على كمٍ هائلٍ من الوثائق صاغها بمهارةٍ ليكون الكاتب العراقي والعربي الأبرز المنطلق بقوةٍ نحو العالمية بما عبَّر عنه من همومٍ إنسانيةٍ تظل متشابهةً برغم الاختلافات الجغرافية والقومية، والأثنية .
كاتبٌ بمثل هذه اللغة المنسابة المتدفقة يستحق كل ثناء لأنَّه قدم وثيقةً أدبيةً نابضةً بالحياة تدين كل أنواع الظلم البشري.

* (بغداد مالبورو- من أجل برادلي مانينك) رواية للكاتب والروائي نجم والي.
الطبعة الأولى ٢٠١٨م دار الرافدين- بيروت عدد الصفحات ٣٦٤ صفحةً من القطع المتوسط.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب