11 مارس، 2024 9:00 م
Search
Close this search box.

التصوف في إفريقيا الغربية والإعلام: خطاب قديم بوسائل عصرية

Facebook
Twitter
LinkedIn

إعداد/ عبيد إميجن- باحث مهتم بالشأن الإفريقي
تحاول الدراسة رصد وتتبع ما أصبح يُعرف بـ”الإعلام الصوفي” في منطقة غرب إفريقيا؛ حيث تسعى الطرق الصوفية في هذه المنطقة إلى التمكين لنفسها وتوسيع دائرة نفوذها وتوصيل خطابها عبر مختلف وسائط الإعلام التقليدية والحديثة.
على مـرِّ الأزمان، أرست الطرق الصوفية في أغلب مناطق غرب إفريقيا قـواعد تعاونية مناسبة وملائمة لمواجهة مصاعب الحياة وتعقيداتها، كما واكبت تلك الطرق التطـورات والأحداث دُون أنْ تُرَغِّبُ أتباعـها في الاستسلام للعُزلة والانطوائية داخل الزوايا أو من حول المقامات، بيد أن انتشار التصوف وانتعاشـه في الوقت الحاضـر قـد مكَّنَ من مواجهة انعـدام اليقيـن الذي خلَّفه نشاط المدارس الفكرية والمذهبية الطارئة على المنطقة بما في ذلك ظاهرة الإسلام المتشدد والمجموعات الجهادية المرتبطة به. وبِحكم مُيول الغالبية الساحقة من الشعوب الإفريقية إلى الارتباط بالطرق الصوفية وشيوخها وازدرائهم المُتأصِّل لكل ما يخالف تعاليـم “مُرَابِط الزاوية”؛ حيث بات ذلك المرابط ملجأهم الآمن لممارسة شعائرهم الدينية في زمـن الظمأ الـروحي واستشراء التشدد الديني.

إلـى جانب هـذه العوامل، لا يقتـصر الطـابع الصوفـي ومظاهـره العملية في غرب إفريقيا على المواسـم الثقافية والمـزارات، بل إن التدين الشعبي ومتانة أتباع التقاليد الصوفية أسهما في مسايـرة واقـع المجتمعات المعاصر رُوحًا وممارسـة؛ حيث أبـدى أتباع الطرق الصوفية تجاوبًا متزايدًا مع التنظيمات الاجتماعية والنقابية ليكون أفرادها أبعـد ما يكونون عـن حياة التقشف والـزهد ولبـس الصوف والجلوس في الخلوة، حتى اشتُهر عنهم قولهم: “الصُّوفي ابن وقته”(1). وبالإضافة إلى العلاقة القائمة بين القيم الصوفية ومؤسسات المجتمع اتجهت الصفْوَةُ المتعلمة من أتباع الطرق الصوفية في غرب إفريقيا على نحو تدريجي إلى استغلال وسائل الإعلام لتمرير خطاباتها، بل وإلى التسابُق على صناديق الاقتـراع كلما تم تنظيم استحقاق انتخابي حيث نجد الطرق الصوفية في غرب إفريقيا في واجهة المشهد الانتخابي، وهو نهج عـَّزز مـن تمسك الصوفـي الإفريقي بالحياة دون أن يُعلِّـق قلبه بها أو يميـل إلى مُغرياتها؛ مما يعني رسُوخ القيم الإسلامية الصوفية في نفوس الأفارقة.

تحتاج الأوسـاط الشعبية دائمًا إلى دليل يرشدها سَوَاءَ السبيل وهو ما تجسده شخصية مُرابِط الطريقة وشيخها (2)، لذلك تتبارى وسائل الإعلام من صحف وقنوات في إضفاء حالة من الاحترام والتودد على مثل هذه الشخصيات الدينية، بل إنها اعتـادت أيضًا على رفْـد ووسْم رجال التصوف؛ صغارًا وكبارًا، بحالة من المهابة والـوقار اللائـق بالمكانة الرُّوحية التي يحتلونها في نفوس أتباعهم ومريديهم. ومن منظور أكثر تجريبية فإن التشابك والحَذَر، والتحدي أحيانًا، هما أبرز مظاهر علاقـة هاتين السلطتين (التصوف والإعلام) ببعضهما البعض؛ فمنذ تسعينات القرن العشريـن لعبت الصحافة المُستقلة الدور الأكبر في زعزعـة الثقـة لدى أتباع الطـرق الصوفية بشيوخهم. ولأن وسائل الإعلام بشتى أشكالها تبقى مجرد انعكاس لتعارضات المجتمع السياسية والدينية أو حتى الأخلاقية فـإنه من ضمن الإشكالات التي قد تتبادر إلى ذهن المتابع يندرج التساؤل التالي: إلى أي مـدى يمكن قياس الحضـور الإعلامي للطرق الصوفية في منطقة الغرب الإفريقي؟ وكيف تتفاعل العلاقـة بيـن ما هو ديني وإعلامـي فـي هذه المنطقة؟ وهل تضمن الطرق الصوفية تسويق خطابها إعلاميًّا؟ وأي بديـل إعلامـي تتخذه الطرق الصـوفية بجمهوريتي مالي والسنغال باعتبار هاتين الدولتين نماذج لمحتوى هذه الدراسـة، مع الإشارة إلى موريتانيا في بعض السياقات؟

الصوفية تَعْرضُ ذاتها في جمهورية السنغال

شكَّلت المؤسسة الدينية والصوفية من خلال لاعبيها الأسس الرئيسية للذهنيات في المجتمعات الإفريقية وذلك بفعل قدرتها على ممارسة التوجيـه الروحي والأيديولوجي. وفي الأغلب الأعم سعى شيوخ الطرق الصوفية إلى إظهار أنفسهم على أنهم المدافعون الحقيقيـون عـن المعتقدات والشعائـر واللغات والأعراف الإفريقية الأصليـة أمام غـزو الثقافات والقيم الوافدة، وأنهم بذلك يُمثِّلون سلطة عليا مقدسة، وظل الخروج عليهم يُعَدُّ من المحرمات والمنكرات حتى وإن زجوا بأنفسهم في مياه السياسة العكرة، ويبدو أن هذا هو المبدأ الذي يقوم عليه كثير من الطرق الصوفية في غرب إفريقيا حتى اليوم.

في أحوال كهذه؛ فإن تنامي مستويات الثقافة السياسية والمبادرة الفردية داخل الأوساط الشعبية قـد يسهم في نشـوء التمرد والنفور من السلوكيات السائدة والمظاهر المُعتادة دون أن يحرم أتباع السلط الروحية والصوفية من استلهام الأشكال التعبيريـة التـي تتيحها إفرازات المدنية ومُجتمعات الحداثـة بما في ذلك وسائل الإعلام (الصحف، والإذاعات، والتليفزيونات، والإعلام الجديد) وحتى قبل ظهور الفضائيات بسنين طويلة وظف أتباع الطرق الصوفية المواد المطبوعة وأشرطة الكاسيت في مختلف المناسبات. وفي الواقع، يبـدو أن الخارطة الإعلامية المعاصرة تضمن نشـر تعاليـم الزعماء الروحيين وحماية صورتهم الورديـة لدى الجماهير بدول غرب إفريقيا وفي الخارج إلى جانب التصـدي للمناوئين من “الأغيار” كالسلفية، وحركة الإخوان المسلمين، وحتى الأديان الأخرى كالمسيحية مثلًا. وفي هذه الحالـة، فقد أسست الطرق الصوفية لإعلام يتلاحـم مع خياراتها التكتيكية والثقافية والسياسية ويتداول تفاسيـرها ومواقفها من الشأن الوطني والإقليمي؛ لكنـها خطوة جاءت لتختلط بأنماط الوعي الاجتماعي الأخرى وخاصة المتأثرة منها بالثقافـة الديمقراطية وقيم العلمانية ضمـن انتماءات وولاءات وهويات مدنية مستحدثة.

وحتى إذا تجاهلنا الروابط المدنية والمبادرات الإعلامية القائمة على خيار الأفراد الأحرار وغيرهم من الفاعلين في الحيـز العام؛ فإن انفتاح بعض التلامـذة المتحمسين في كثير من الحالات على الوسائل الحديثة للاتصال أو لجوءهم إلى خلـق مـؤسسات إعلامية بديلة بهدف السيطـرة على صـورة زعماء الطرق الصوفية وإعادة تهذيب سلوكيات الإسلام الشعبي وربما المحافظة على التكامل بين الأفراد والأتباع، من خلال هذه النظرة تأْمَلُ الصوفية أن تعكس عروضُ القنوات الإعلامية المختلفـة وشاشاتها ما ترغب فيه الطريقة، وأن تتغاضى في نفس الوقت عـن الصـور الهزيلة والمعلومات غيـر المُشرفـة وغيرها من المظاهر المُحال إلى الإعلام الحر معالجتها والتحقيق فيها في إطار الاستغراب أو الفضول والمقارنة مع الحضارات الأخرى.

ومن المثيـر للاهتمام تنـامي أدوار المرجعيات الصوفية وتـزايد سلطتها في الفضاء العام بكل من جمهورية مالي والسنغال وموريتانيا؛ تنظيـرًا وتوظيفًا واستثـمارًا، مع أهمية مراعاة الاختلاف الواضح في كيفية تسويق الخطاب الصوفي بين النماذج الثلاثة والتفاوت الجلي على صعيـد توظيف الأدوات الديمقراطية والوسائل المدنية ولواحقهما. بيْد أن التحولات الاجتماعية والديمقراطية في المنطقة قد مكَّنت من إيجاد العديد من المبادئ المهمة، ومن أبرزها: “وجود نظام حـزبي تنافسي، وبناء مجتمع مدني، وتبنِّي نموذج اقتصاد السوق باعتباره الطريق الوحيد المؤدي للديمقراطية والسلام”(3).

وعمليًّا، فإن مناخ الديمقراطية والتعددية السياسية بجمهورية السنغال قد عجَّل نحو دفع الحكومة الاشتراكية سنة 1998 إلى إنشاء أول سلطـة تُعنـى بضبط وتنظيم وسائل الإعلام تحت تسمية “المجلس الأعلى للسمعيات البصرية”، منهية بذلك احتكار الدولة للمنشورات الصحفية، بالتزامن مع هذه التجربـة، أطلـق رجل الأعمال السنغالي سيدي لَامِينْ أنْياسْ إذاعـة “والْفَجْرِ”، التي جعلت بشكل غير مسبوق معارضة خيارات النظام الاشتراكـي والتشكيك في مسارها عقيـدة لها، في تلك الفترة كسرت هـذه المحطة التي تتـبع لمجموعة “وَالْفَجْرِ” (Walfadjri) (4) السمة المُميـزة للصحافة المحلية حيث يُنظَر إليها، باعتبارها دعامة أساسية في هزيمة رئيس السنغال الأسبـق، عبدو ضيوف، إبَّان انتخابات 2000.

وفي الوقت الراهـن، تحافظ الطـرق الصوفية بالسنغال على حضورها الإعلامي وتأثيرها الشعبي في ظـل نموذج الإسلام الوُلْفِي(5) الـذي يشكِّل الأساس الثقافي للاستثناء السنغالي. ويُعَدُّ هذا النموذج بمثابة الرافـد الفكري والإطار المرجعي للمشاريع الإعلامية الطرُقية التي يحاول عبرها إعلاميون أو رجال أعمال ملء الفراغ المتروك للصحافة المستقلة، والتي باتت توجهاتها الليبرالية، في ضوء العديد من التجارب، عبئًا على القيم الصوفية وتحديًا لها. إن المتابع الحذر لهـذا السيـاق لن يعدم أمثلة التوتر بين السلطة الرابعة والسلطة الدينية في السنغال، والتي ربما يكون آخرها ما أفْـردتْه المواقع الإلكترونية السنغالية، طيلة شهر نوفمبـر/تشرين الثاني 2017، من مناقشات كُتَّاب المقالات والأعمدة وعنـاوين الصحف وتغريدات المدونين التي أعقبت اتهام الخليفة العام للطريقة التجانية، سِيرِينْ امْبَايْ سِي منصور، للصحافة حول تعمُّدها تحريف تصريحات أوردها في سياق حملات الانتخابات الرئاسية (6).

تفتش الصحافة المُستقلة في النوايا وتتسقط وتتتبع أغلاط كبار المسؤولين وزلات الزعماء الدينيين، وقد لا تغفـر للمتجاوزين تبعًا لمبدأ حرية التعبيـر التي أوجـدتها أصلًا. وخـلال عقـد من الزمن جرى إطلاق قنوات صوفية بديلة بعضها عبر الإنترنت كحالة قناة تيفاوان (Tivaouane) على خدمة اليوتيوب (7)، والتي تُعرِّف نفسها على أنها قنـاة حاضرة التجانية بالسنغال، وأنها تختص بتسليـط الضوء على البُعد التربوي والثقافي لتعاليم الحاج مالك سـي (8). وفـي نفـس المجال، أطلـق زعيـم حاضرة تِيوَاوِين سِيـرِين مُصطفى سِي عبر الأقمار الاصطناعية قناة المُرشـد (Mourchid TV) التابعـة لمجموعته الإعلامية، وذلك بغَرض الترويج لرسالة الحاجْ مَالَكْ سِـي التربوية وطريقته التجانية، وعلى هـذا المنوال تكثر إذاعيًّا وإلكترونيًّا نماذج “الإعلام المُتصوف” والتي حددت مهمتها الأساسية في حدود بث جلسات الأوراد وصيـاغـة الأحداث والأخبار وفقًا لرؤيـة تقتصر على “عـرض الذات الصوفية”.

التوتر بين الإعلام والقادة الصوفيين: الطـريقة المريدية نموذجًا

مما لا جدال فيه بين الدارسين والباحثين أن دخول الإسلام إلى بلاد السنغال وانتشاره فيها، أو بالأحـرى “أسلمتها”، قد تمت بطريقة سلمية خلافًا لكثير من مناطق العالم الإسلامي، وهي “أسْلَمَة” تمت -كما يقول معظـم الباحثين والدارسين السنغاليين- بفضل جهود مشتركة مترامية الأطراف بين الرحَّالين والتجار المسلمين من العرب وغيرهم من ساكنة المجال الصحراوي، فكان من بين هؤلاء من جاء بخلفيته الصوفية على اختلاف طرقها وفلسفاتها وأورادها.

جيلٌ بعد جيل يوجد لـدى القبائل السنغالية انجـذاب أصيـل إلى الأشعرية عقيدةً، والمذهب المالكي فقهًا، وميل قوي لنشر الصوفية المُمارساتية، كما طوَّر مشايخُ أهْـلِ هذه الأرض تاريخيًّا وابتكـروا لأنفسهم من المدارس والمناهج والطرائـق المحلية في التصوف ما يروي ظمأ مجتمعاتهم الإيماني ويوسـع من إسهاماتهم في مواجهة التحديات التاريخية والثقافية في مناطق غـرب إفريقيا. ومن بيـن المدارس السنغالية المعروفـة في التصوف يجري ذكر اللَايِينِيَةُ (layêniyya) التي أرسى قـواعدها سِيدْنَا إيمامو الله ثِيَاو (1843- 1909)، والمُريدِيـة (Mourides) التـي أسسها الشيْخ أحمَدُو بَمْبا أمْباكَيه (1853-1927)، وكجزء من هـذه الورقة؛ سَنُركِزُ على الحضور الإعلامي للأخيرة باعتبارها إحدى أهم وأشهـر الطرق الصوفية “المحلية” التي نشأت بالسنغال دون أن تكون متأتيـة أو متفرعة عـن طريقة من الطرق الصوفية المعروفـة كما يشيع عند الباحثين السنغاليين.

لا يمكن الحديث عن المُريدية في السنغال دون الوقوف على الأدوار الوطنية الكبرى لمؤسسها الشيخ أحمَدُو بَمْبَا أمْباكيه وخاصـة ما يتعلـق منها بمواجهة الاستعـمار الفرنسي وإرساليات الكنيسة الكاثُوليكية حيث تُشيـر الباحثة أدَرْيَانَا بَيْغَا إلى أنه يعود له الفضل في وضع “الأسس الثقافية لمقاومة أيديولوجية بحتة” في السنغال بعدما أطلق على نفسـه لقب “خادم الإسلام”(9) ومن الطبيعي أن يتصدى بقوة للحكم الفرنسي وتياراته الثقافية الاستعمارية، فالشيخ أحمدو بمبا إلى جانب البعد الروحي كان يُجسد رَمـزية متزايدة في مواجهـة “.. السلطـة الاستعمارية في كل مكان وكـان معلمًا بارزًا ضـد خَطَر التغْريب..” المُـحْدِقِ حينها بالمجتمع السنغالي بحسب الباحثة أدَرْيَانَا. وبإمكان الباحث المنصف أن يرى أثر تعاليـم خلفاء الطريقـة من حيث قوة الآصرة التي تجمع الأتباع والمؤمنين والذين تشكِّل الأوساط الوُلْفيَة عمودهم الفقـري بالنظر إلى كونها المجموعة العرقية الرئيسية في السنغال.

ومن أجل رفع منسوب الشعور الوطني لدى أهم مكونات الشعب السنغالي، بادَرت الحكُومات منذ قيام الدولة إلى الاستلهام من شخصية الشيخ أحمَدُو بَمْبَا أمْبَاكيه، فقد كان رئيس الجمهوريـة، ليوبُولْد سيـدار سينْغُور (مسيحي كاثوليكي)، قد قرر حينذاك أن يأخذ مبادرة التقرب من البقاع الصوفية المُقدسـة لدى مُسلمي السنغال وخاصـة في مدينة طُوبَا، وقد رحَّب به مُزارعو الفُول السُوداني وتلامـذة الشيخ أحمَدو بمبا بحماس. في أعقاب تلك الخطوة، زادت تغذية العلاقة القائمة بين الدولة العلمانية الوليدة وبين الطرق الصوفية في السنغال وتنافس رؤساء الجمهورية على استعطاف شيوخ وأتباع الطريقة المُريدِية، وبذلك أرسى هؤلاء أعرافًا وتقاليـدَ بروتوكولية حرصوا من خلالها على المشاركة في زيارة موسم “مَاكالْ طُوبَا” (Magal de Touba) الذي يكرِّس الاحتفال بذكرى عودة الشيخ أحمد بمبا من منفاه في الغابون التي كانت في 18 من صفر من كل سنة قمرية. وينغرس الاعتقـاد لدى أتباع هذه الطريقة المريدية بوُجود طاقة روحية وصوفية للشيخ أحمَدُو بَمْبا لا تفارق ضريحه بمدينة طُوبَا. ومما يسترعي الانتباه أن مؤسس المُريدية ظل يتعبـد في هذه البقعة ويربي تلامذته قبـل تعرضه للنفي والإبعاد إلى الغابـون سنة 1895 بقرار إداري اتخذته السلطات الاستعمارية الفرنسية ضده، وحتى اللحظة لم يفرط أتباعه في القواعد الروحية التي أرساها الشيخ أحمدو بمبا انطلاقًا من مدينة طُوبا والتي يَقْصُـدها ما بين أربعة إلى خَمسة ملايين زائر مُـريدِي كل عام للمشاركة في موسم ” مَاكالْ طُوبَا” باعتباره أحد أهم المواسم الصوفية في العالم الإسلامي ، وفي خضم هذه الأجواء تتحول المُريدية إلى صانعة لأكبـر حدث إخباري تترصده عدسات القنوات وأقلام قادة الرأي(10).

خلال هذه الحقبة الطويلة وما يميزها من استثمار مفيـدٍ وصالحٍ ومريحٍ لكلا الطرفين، زاد رصـد وسائل الإعلام لتأثير المُريدِية والطرق الصوفية بعامة في المشهد السياسي السنغالي وفـق ديناميكية متوارثـة من خليفة إلى آخر، ومن جسم سياسي إلى الذي يخلفه، وكانت بالأحرى علاقة تؤطـِّر الهيـاج الديني لدى الشباب السنغالي وتوجهه بعيدًا وفق ملامح إعلامية تتميز بتلقيـن الناس بما يريده قادتهم.

بعـد القانون رقـم 57/1992 الصادر بتاريخ الثالث من سبتمبـر/أيلـول 1992 والقاضـي بتوسيع مساحة وسائل الإعلام والتحول إلى البث الرقمي ودعـم وتعزيز التعددية السمعية البصريـة في السنغال، كان لافتًا ومتوقعًا أن تتعرض السياسات الإعلامية السابقة للاختبار، وأن تمهد إجازة هذا النص القانوني لتسليط الضوء على عمليات الاستقطاب من قبل الزعماء الدينيين، ومقارنة ذلك بالواقـع الاجتماعي من قبل لاعبين جدد في وسائل الإعلام المُستقلة. وإذا كان من النادر الإصغاء إلى الأثر الذي تركته الأصوات النقديـة والاعتراضية في أوقات سابقة فإن بُروز هيئات صحفية تدَّعي الاستقلالية قـد ساعـد على صياغة العديد من النقاشات بشأن المدى الحقيقي لحـرية التعبير في السنغال، وذلك على ضوء العديد من مظاهر التـوتر القائمة مـع القادة وأتباع الطـرق الصوفية مما جعلنا نتساءل عن معنى وأثـر سلطة القانون في بلد يقوم فيه الزعماء الدينيون بإنصاف أنفسهم. وهل الصحفي المستقل جاهز للاختيار بين حرية الإعلام والموضوعية والحقيقة التي تمليها أخلاقيات المهنة، أو التوافـقات الاجتماعية التي تحافظ المرجعيات الدينية على عدم المساس بها؟ وهل يستطيع إرثُ التقاليـد ووطأتُها أن يفرضا على الصحافة الانحناء أمامها؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة من شأنها تسليط الضوء على حقيـقة الطيف الإعلامي العابر للحدود في جمهورية السنغال كنموذج.

عمليًّا، أسهمت الأجندة التحريرية لكل حالة إعلامية في رفع منسوب التوتر مع المتحمسين من أتباع الطرق الصوفية؛ وتحديدًا المُريدين منهم، غير ذلك تتعدد وتتباين الاختلافات العميقة بين كل حالة عـن الأخرى، وعلى ذات المنوال انفردت صحيفة “سيد كوتيديان” بمقالة افتتاحية وقَّعها رئيـس التحرير، في 19 سبتمبر/أيلول 1996، ليتساءل ضمنها عـن الأساس القانوني الذي يدفع الخليفة العام للطريقة المُريدية في طوبا لإغـلاق 35 مدرسـة عُمومية “علمانية” بحجة أنها لا تتناسب والطابع الديني لمدينة طوبا؛ وهكذا أخذ الصحفي على عاتقه مسؤولية فتـح الموضوع للنقاش معيدًا التساؤل عمَّا إذا كانت مدينة طوبا خارج دائرة مسـؤولية الدولة والتقطيع الإداري للسنغال(11). ومن الجدير ذكره أن العواقب الناجمة عن عدم انصياع كُتَّاب الافتتاحيات أو المقالات أو محرري التقارير الإذاعية لسلطة الخليفة العام أو المُرَابط المرجعي قـد لا تجد مسوغًا إيجابيًّا لدى المتعصبين من الأتباع؛ ففي أغسطس/آب 1999، قام هـؤلاء بحـرق منـزل صحفي يعمل مع صحيفة “لوماتان” (Le Matin)، (وهو سياسي سنغالي ومُنتخب حاليًّا) بسبب مقال عنونه بــ”المُرَابِط الدنيوي” حيث لم يكتفِ هؤلاء بالهجوم على المعني بل إنهم اختطفوا شقيقه واتخذوه رهينة مقابل الاعتذار. وهنا، تظهر هشاشـة التضامن داخل الجسم الصحفي، فخوفًا من الانتقام المُحتمل لم تتجرأ سوى صحيفة واحدة على إعلان تضامنها المُحتشم، وذلك على ضوء استغراب مُحررها لما جـرى تحت عنوان “في أي بلد نحن حقًّا؟”(12). وفي أحيان كثيـرة، تسهم المُناكفات والمزاحمة بين الطرق الصوفية ذاتها في تعرض الصحافة المتصوفة أو الهجينة -كما يجب أن يقال- للمضايقة وكان ذلك قـد حدث في سبتمبر/أيلول 2009 مع صحيفة ولفجر (Walfadjri) السابق ذكرها.

لا نستطيع أن نتـكلم عن الإعلام والمُريدية؛ من دون أن نقول: إن السنغال بتركيبته الإثنية، والدينية والمذهبية، يعتبر منذ عقـود نموذجًا رائدًا في مجال التعددية في إفريقيا، ومن الطبيعي في سياقات سيـاسية كهذه أن تتمكـن الطرق المريدية من عرض ذاتها وتقديم ما ترغبُ مرجعياتها في مشاهدته أو سماعه من الأحداث والمتابعات وحلقات الذكـر الديني. في الحالة المُريدية يعتمـد الإعلام المتصوف على عنصـرين أساسيين؛ أولهما: تجميل الذات إلى أبعد حد ممكن، وثانيهما: السعي إلى تحطيم المنافسة والتقليل من التوتر مع الإعلاميين، وبهذا المنطق فإعلام المُريدية بشتى أشكاله من قنوات فضائية ومن مواقع إلكترونية، يسهم من جانبه في التعبير عن ميلاد “إعلام مُتصَوف” كما ذكرنا سابقًا.

ومن المهم فهم أسباب ظهور القنوات التليفزيونية التي أنشأها أتباع المُريدية وما إذا كانت تعبيـرًا عن حاجة ماسَّـة لمنابر تعكس أصداء الطريقة وتنشر تعاليمها أم أن السياق الديمقراطي المفتوح يفرض وجودًا إعلاميًّا موازيًا أم أنه تعبير عن الظـواهر المدنية الناشئة في ظل تطور إعلامي متسارع؟

تعبِّر ظاهرة القنوات الإعلامية التي أنشأها أتباع المُريدية من رجال أعمال وفنانين سنغاليين عن حالة إعلامية جديدة لها خطها الصوفي الواضح، فبالإضافـة إلى الإذاعات المحلية، مثل: “لامب فال إف إم” (LAMP FALL FM) وإذاعة جامعة الشيخ أحْمَدُو بَمْبَا (UCAB FM) التابعة لمرجعية سِيرِينْ مَامُور امْبَاكِي، وغيرهما، فإن هنالك عددًا آخر من الفضائيات مُريدية المحتوى والملكية، ومن بينها:

قناة طُوبَا (Touba TV): وقد جرى إطـلاقها يوم الجمعة، 29 ينايـر/كانون الثاني 2010، من طرف السيد امْبَاكي يُو فاي لتبدأ إرسالها عبر القمر الصناعي الإفريقي على الترددW4-12.437 14 GHz، وتستخدم اللغة الوُلْفِية أساسًا في برامجها المتنوعة بالإضافة إلى اللغة الفرنسية.
قناة لاَمْب فَالْ (Lamp Fall TV): وقد تم إطلاقها يوم الجمعة، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2011، لتُبثَّ انطلاقًا من العاصمة داكار على القمر الصناعي “كانال 53” على التردد 727، وكانت انطلاقتها تحت إشراف مباشر من الخليفة العام للمُريديَة سِيرِين سيدي المُختَار امْبَاكِي (توفي في يناير/كانون الثاني 2018)، ويديرها رجل الأعمال، السيد علي تُيُونْ.
قناة المُريدية (Al Mouridiyyah TV): وقد بدأت القناة البث في 20 أبريل/نيسان 2014 وهي تابعة لحزب الترقية، وهو في الأساس منظمة طلابية أسسها بعض طلاب جامعة داكار، في يناير/كانون الثاني 1976، وتضم الآن بضعة آلاف من الأعضاء الناشطين في جميع أنحاء السنغال.
لقد كان لظهور الفضائيات المُريدية على اختلاف ألوانها وتعدد أسمائها الأثـر البالغ في شـدِّ الأتباع إلى جوهـر وتعاليـم المُعلم الرُّوحي (المرابط)، كما عكست التقارير التليفزيونية والتصريحات الإعلامية والبرامج التربوية ميــل حاضرة طُوبا إلى رسم معالـم مجتمع مُريـدي أصيل قـائم على التـرابط الأخـوي وعلى التكافـل والتضامن الاجتماعي والسياسي.

تقاطـع السلطة الرابعـة والقـوى الصوفية

إذا كانت الفرادة حاصلـة في غرب إفريقيا فإن التباين والتقابل يبقى واردًا أيضًا كلما أمعـن الدارس في الأدوار الإعلاميـة للمدارس الصوفية بجمهوريـة مـالي المجاورة، وهـو بلـدٌ تتقلب مجتمعاته المسلمة بيـن مَحَاريب عدة مذاهب من بينها ما هو سلفي وما هو سني إلى جانب الطـرق الصوفيـة؛ حيث يتبرك الماليون بالشرفاء أو آل البيت، فضلًا عن أصحاب الدرجـة والمقام الظاهر والباطـن وخاصـة في حواضر كتمبكتو وأنْيُورْ الساحل أو غاوْ، وغيرها من الحواضر العلمية التي تسربت إليها أعداد وافـرة من المَحَاظِـِر وزوايا الشاذلية والتجانية والقادرية؛ وينبغي أن نشير هنا إلى أن الصوفيةَ لعبت أدوارًا حاسمة في تاريخ بلاد السودان (مالي حاليًّا) مما كان له بالغ الأثر في إبقاء جذوة الإسلام مُتقدة؛ ليس في هذه الربوع فحسب بل في معظم أنحاء إفريقيا جنوب الصحراء حتى اليوم. ومن الأدوار الاجتماعية الواضحة التي اضطلع بها مُريدو وأتباع شيوخ وزعماء الطرق الصوفية تأمين حصة معتبرة من المنابر الإعلامية (المرئي والمسموع والإلكتروني) في مسعى يهدف إلى بث المعارف الإسلامية واختراق الحواجز القبلية والإثنية المزيفة على حد وصف شيوخ الصوفية.

شكَّل تحرير الفضاء السمعي البصري في مالي فـرصـة، لا تُعوَّض بالنسبة لمختلف التيارات والمذاهب الإسلامية لمخاطبة القرى والأرياف إلى جانب المدن على موجات “إف إم”، ومن خلال الأقمار الصناعية، ولقد مكَّنت هذه الحرية الخاضعة للقانون من اختراق بعض الجماعات لحواجز المذهب المالكي السائد كما استهدفت المجتمعات ذات المرجعية الصوفية، وتجسد ذلك في توغل إعلام المذاهب الشيعية داخل الأوساط الشعبيـة حيث أمكن للشيخ سعيد محمـدو شُعالا بيايا حيدرة(13) إنشاء أول قناة محلية تهدف إلى نشر معارف أهل البيت وترسيخ الأسس العقدية لدى الشيعة بجمهورية مالي وهي قناة “الزهراء تي في” (Zahra TV) وإذاعتها اللتان تم إغـلاقُهما لاحقًا(14). ومع التوسع الذي عرفته وسائل الإعلام بشكـل عام في الأعوام الأخيرة، وارتفاع عدد الفضائيات إلى أكثر من 32 قناة تليفزيونية مُستقلة بما فيها بعض القنوات غيـر التجاريـة، استأثـرت القنوات المذهبية والسلفية بالقسـط الأكبر من الطيف الإعلامي المتاح، فنجد على سبيل الذكر قناة السنة (SUNA TV) وغيرها كثير من وسائل الإعلام التي تدل على الارتباط بالداعمين الماليين في الدول الإسلامية الغنية.

في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيـلول 2001، تقـوَّى اتجاه إفريقي يدعو للعودة إلى الإسلام الشعبي الصوفي مبرِّرًا رؤيته بضرورة الوقوف في وجه التشدد الإسلامي، وقد بلغ هذا الاتجاهُ أشـده بعد انهيار الدولة المالية سنة 2011 وسقوط مؤسساتها وخاصـة في تمبكتو بشمال مالي حيث اعتبرت الطرق الصوفية أن المعاهـد والمدارس السعوديـة كانت بمثابة الذراع المسؤولة عن الترويج الإعلامي لنماذج “الانحراف الفكـري والديني” هـذه وعن قيام الجماعات الإسلامية المتشددة لاحقًا بكل ما قامت به من اختطاف وتقتيل مما يعتبر سابقة في تاريخ منطقة الساحل الإفريقي.

بالنسبة للماليين، كان بروز حركـة أنصار الديـن الصوفية حافزًا للمواجهة الروحية والتربوية والثقافية مع خريجي المعاهد السلفية (الوهابية) “نظرًا لاحتواء مناهج تلك المعاهد على كلام يمس بالحركات والطرق الصوفية التي هي عماد الإسلام في إفريقيا”(15) في هذه الأثناء سيكتشف الماليون أن ثلاثيـن سنة من هشاشة الرقابة على النشاط المتشدد للحركات الجهادية قـد تكفلت بتهيئة الأرضية والبيئة العقـدية الحاضنة للفيالق التي اجتاحت المنطقـة بأسرها لاحقًا.

في ظل محاولات ومساع جديدة قامت بها الدولة لاحتواء مشايخ الزوايا والطرق الصوفية وتطويعها نرجع، مرة أخرى إلى حركـة أنصار الديـن الصوفية “المتمردة”، وهي ليست حركة أنصار الدين الجهادية، باعتبارها من أبرز الطرق الصوفية في مالي وأكثرها قبولًا في بلدان غرب إفريقيا وجنوب الصحراء وأوسعها صيتًا داخل الأوساط الشرقية والوسطى من مالي بفضل نشـاط مؤسسها، الشريف الشيخ مـداني حَيْدرَة، الذي يتمتع بنفوذ روحي وتجاري متميز سمح له بقيادة آخـر الطـرق الصوفية الناشئة في مالي و”أكثرها شعبية وإثارة للجدل على حد سواء، كما تُعَدُّ واحدة من الركائز الرئيسية للتحول الاجتماعي في مالي (..) حيث يُنظـر إليها كمنبـر أساسي للإصلاح الاجتماعي والانتقادات الموجهة للدولة، ولكنها أيضًا تقود ما يُسمى بـ”السُنَّة الإصلاحية” وتحضِّـر نفسها لتـكون بديلًا إسلاميًّا رئيسيًّا في المنطقة”(16). وكما هو معروف، فإن حركة أنصار الديـن لم تكن لتنتشـر وتتوسع في مالي لولا السند الإعلامـي الذي تضطلع بـه قنـاة “شريفلا” (Cherifla TV)، وهي قناة تليفزيونية مثيرة للاهتمام وتُبث من مدينة كوريكلو في ولاية كاتي على بعد 15 كم من العاصمة (باماكو)، وهي المملوكـة لمؤسس طريقة أنصار الدين الصوفية وهي لا تكف عن وصف أتـباع السلفية المتشددة بخوارج العصر الجدد.

وقد برَّرت السلطات المَاليـة انفتاحها الإعلامي أمام المدارس الصوفية المحلية بكونه يندرج في إطـار سد ثغرات الأمن الثقافي وإشباع الاحتياجات الروحية والقومية المتـزايدة لدى المَاليين أنفسهم وذلك “على ضوء غـزو مـئات القنوات التليفزيونية الأجنبية لبلادنا، وهو ما يوجب علينا نحن الماليين البرهنة على جدارتنا في الاحتفاظ بمكانتنا ضمن هـذا الفضاء”(17). وفي هذا التصريح تظهر طبيعة الاضطراب في الأمن الثقافي لدى الماليين، وكون الأوساط الشعبية كانت تعيش عالة على منتجات الفضائيات الأجنبية المختلفة دون أن تسهم النخبة في نشر الثقافات المحلية ووحدة الدولة في العقيدة والأخلاق والقيم والموازين وغيرها من الأدوار التي يمكن أن يبشر بها الطيف الإعلامي في جمهورية مالي إذا ما أحسن القائمون عليه استعمالها واستغلالها، وكانوا على دراية واسعة ومعرفة جيدة بالتقنيات العالية والتطور الكبير في تكنولوجيا الأقمار الصناعية. ويلاحظ أنه بخلاف النموذج السنغالي فإن الزوايا التقليدية والحواضر الصوفية في جمهورية مالي لـم تتأقلـم بعـد مع الطفرة في مجال الفضائيات والنماذج الإعلامية المتاحة بالرغـم من تحرير المجال البصري والسمعي منذ العام 2014.

على نطــاق واسع عرضت وسائل الإعلام المحلية، في يونيو/حزيران 2018، صــورة لرجل ستيني يرتدي “دَرَّاعَتَهُ” البيضاء وهو يجلس على هيئة قــرفصـاء، ثـم يضع يديـه على صدره ويطرق برأسه إطراقة قبل أن يغمض عينيه، حيث التقطت وكالات الأنباء الصورة في باحة مسجـد سانكوري (Sankoré) بمدينة تمبكتو ذات الـثلاثة وثلاثين مقامًا مباركًا ووليًّا صالحًا، وكان هذا الستينـي في لحظـة تجل واستسلام وهو في حضـرة إمام مسجد جنقريبير (Djigareyber) وإمام مسجد سانكوري ونظيرهما بمسجد الباجيندي (Badjindé)، وهـم القـادريون (طريقة المحيطين بالـزائر الـذي لـم يكن سـوى رئيـس جمهورية مالي إبراهيم بزبر كيتا المرشـح لخلافـة نفسه)(18)، وكان هؤلاء الشيوخ الظاهرون في الصورة التي انتشرت بشكل واسع يُدَوِّرُونَ سبحاتِهم ويتلون التمائم والأدعية التي أورثها إياهم الشيوخ المؤسسون حيث يسود الاعتقاد لدى مشايخ ومريدي تمبكتو بقدرة شيخ الطريقة حيًّا كان أو ميتًا على أن ينقذ ويغيث ويشفع لمن يتوسل به، وهم في ذلك المسعى يعتمدون على تلاوة أوراد الطريقة والأذكـار كما علمهم إياها الأولياء السابقون، أما إذا أُلْبِسَ الزائر عمامة المقـام الأعلـى فإن الأمل بفـوزه أمام غرمائه وحساده متوقعًا(19) .

الإذاعات الريفية تمتص حدة التوترات المذهبية

يبقى جرح مدينة تمبكتو شاهدًا على تجاوز المشاحنات الفكرية بين السلفية والصوفية إلى المواجهات المسلحة، وفي الآن ذاته تكشف الأحداث -كما جرت- عن مآلات تيارات الفكر الإسلامي في إفريقيا بشقيها؛ النقلي والعقلي، الظاهري والباطني، التصوف الطُرقي ونماذج السلفيـة الجهادية وهو ما تبدَّى في لجوء الأخيرة إلى هتك حرمات مشايخ الصوفية والهجوم على الأضرحة وتكسيـر باب جامع سيدي يحيى الكائن بالجزء الجنوبي من مدينة تمبكتو الأثريـة، كما تناقلت وكالات الأنباء مشاهـد التمْبكْتِيِّينَ وهم في لحظة انهيار وأسى على خلفية هدم أضرحة “الأولياء الصالحين” ومزارات المنطقة التي يغلب عليها الانتماء للطريقة القادرية.

ضمن هذا السياق المتشابك عقديًّا والمتأزم إثنيًّا وقبليًّا، ركـزت محطات الراديو التي سبق إسكاتها من قبل حركة أنصار الدين الجهادية الموسومة بالإرهاب على البرامج الحوارية بهدف امتصاص حـدة التوتر المجتمعي والطائفي وعلى ترويـج مـقاربـة “الأمن الثقافي” التي تلاقي دعـم زعماء الطرق الصوفية الموالين لحكومة باماكو المركـزية حيث وجـد الطرفـان أن الكلام المنقول عبر الإعلام المسموع يتيح مُميزات حيوية ويقرِّب المحتوى من متناول جميع الفئات والطبقات الاجتماعية. في هذه الأثناء، غدت الإذاعات المحلية ذات الترددات القصيرة والمتوسطة بمثابة مشاريع رائدة لمواجهة حمـلات التـأجيج العـرقي التي لا ينقطـع ضجيجها؛ وذلك على غرار إذاعـة بوكْتو (Radio Bouctou) وإذاعـة العَافية (Radio Lafia) إلى جانب إسهام إذاعـة الوحدة الحموية التجانية إف إم (Radio Unité Hamahouya Tidjaniya Fm) المقربـة من الزاوية الحموية بحـاضرة أنيورُو الساحل، وكل هذه الوسائل المسموعة تتخـذ من قـادة الرأي (زعماء الطريقة التجانية الحموية، والوجهاء والسياسيين..)، كل منهم في الإطار الذي ينشط فيـه، وسيلة للتأثير في المستمعين الذين يغلب عليهم عمومًا، الطابع الريفي.

مثَّلت حاضـرة أنيورو الساحل أحد أهم مواطن الالتقاء بين أتباع الصوفية في كلٍّ من موريتانيا ومالي وذلك نظـرًا لإرثها الحضاري المرتبط بنشأة الزاوية الحموية المتفرعة عن الطريقة التجانية، وبسبب جغرافيتها السياسية حيث تشكِّل نقطة للتلاقح الروحي والإثني بين عنـاصر مجتمع البيضان (العرب) والقبائل الزنجية المُتعايشة داخل مجـالها مُذْ برز الشيخ حماه الله جامعًا الانتماء لتلك الأعـراق مجتمعة؛ كان والـده بِيضَـانِيًّا عَـربيًّا أمَّا أمه فكانت بُولاريـة زَنجية (20).

مع ظهور الدولة الحديثة، عززت مدينة أنْيُورُو الساحل المالية تدريجيًّا من حُضورها الصوفي والسياسي في المنطقة وذلك قبل أن تظهر في الوقت الحاضر أصـداء شرعية خليفة الطريقة، الشيخ محمـدُو ولد الشيخ حمَاهُ الله، في نواكشوط (موريتانيا) قبل باماكو (مالي) حيث تتُوق وسائل الإعلام في الدولتين على نحو مستمر للتعرف على تطلعاتـه السياسية أو انحيازاته تجاه الحكوماتِ، وخياراته أثناء احتدام المعارك السياسية داخل كل بلد على حدة أو معارضته من عدمها لقادة دول المنطقة(21).

خاتمة

مـن الصحيح أن “الإعلام المُتصوف” يمكنه أن يلعب مجموعة من الأدوار التربوية والروحية وذلك على ضـوء النـماذجِ والتجاربِ الإعلامية التي يستقيها هذا التقرير من كل من جمهورية السنغال ومالي وإلى حد ما من موريتانيا حيث اتجهت الطـرق الصوفية داخل هذه المنطقة إلى الاستثمار في ورقـة الإعلام وتقنياته الحديثة بُغية التأثيـر في وجهات نظـر صنَّاع القرار والأفـراد والمجموعات السياسية والدينية الأخرى التي تؤرقها منذ عقـود.

من الصعب، بالنسبة للدارسين الحصول على معلومات حول مصادر تمويل القنوات التليفزيونية التابعة للطرق الصوفية أو الإيرادات المالية لكن شاشات القنوات تمتلئ عـادة بالعروض الإعلانية القادمة من شركات الهاتف المحمول، والإشهار والإعلان، وخصومات الإعلانات عبر البـريد الصوتي ويُعتقد أن البعض منها يركـز على تبرعات أنصار الطريق الصوفية وأتباعها فيما يتميـز البعض الآخر بالعروض التجارية شأن شركـة مالي فيزيوه (Malivision) التي تُـوزع في جمهورية مالي باقات الأقمار الصناعية مقابل الاشتراكات الشهرية التي يذهب ريعها إلى شيخ حركة أنصار الدين الصوفية؛ أما الحقيقة التي لا مراء فيها فهي أن “صناديق شيوخ الطرق” تلعب دورًا مهمًّا في تمويل “الإعلام المُتصوف” وسد الفجوة بين إنفاقه وإيراداته(22) .

أخيرًا، وبعيـدًا عـن النظريات المؤكِّـدة على علاقة وسائل الإعلام بالعملية الديمقراطية والديناميات الدينية الاجتماعية، فإن “الإعلام المُتصوف” لا يشكِّل على المدى المنظور تهديدًا لتوازن أُمَمِ غرْبِ إفريقيا ولُغات شعوبها وأعْراقها وتدفق المذاهب الفقهية إلى المنطقة، وبالدرجة الأولى فإن مسألة التكافؤ في الآراء قـد تطرح بالنسبة للمنابر الإعلامية إشكالات مُؤرِّقة على المدى البعيد نسبيًّا حيث تنبني النظم والقوانين المعمول بها في معظم بلدان المنطقة على قواعد تفـرض الإنصاف الإعلامي وتعكس الحاجة إلى تسويق خطابات الأعراق والقبائل الأصلية والمجتمع المدني على قدم المساواة، وهو ما يتناسب أيضًا ودعوات النهضة والإحياء الثقافي التي تروج لها الصفوة من أبناء الشعوب الإفريقية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*
مراجع
(1) ابن عجيبة، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، (المكتبة التوفيقية، القاهرة، 2008)، ص 80.

(2) لَمْرَابَطْ مصدرها هو المُرابطون الذين شكَّلوا الدولة المرابطية ما بين 1056-1147 للميلاد ولكن وصف أمْرَابَطْ (Marabout) أو لَمْرَابَطْ (Lemrabout) فهو مصطلح يُطلق في منطقة الغرب الإفريقي على الشيخ الذي يؤمَّل منه الاحترام والحكمة والورع أو أن يكون معلِّمًا للقرآن الكريم وعلومه، وسيلاحظ القارئ استعمالنا لهذا التعبير طيلة المقال، وتقابلها باللغة الولفية كلمة السِيرِينْ التي سيجري تناولها في المقال أيضا كلقب للزعماء الصوفية في إفريقيا.

(3) حالة التحول الديمقراطي في إفريقيا: رؤى تقويمية، موقع قراءات إفريقية، 23 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2018): https://goo.gl/J1iwcf

(4) Moustapha Sow, Médias et pouvoirs politiques au Sénégal: étude de la transition d’une presse d’État vers un pluralisme médiatique, Thèse de doctorat en sciences de l’information et de la communication, (Université de Lorraine, école doctorale Fernand-Braudel, 2016), p. 89.

(5) اللهجة الولفية هي لهجة منتشرة بغرب إفريقيا منسوبة لعرقية الولوف، ويتداولها حوالـي 80 بالمئة من السكان السنغاليين، وتهيمن الثقافة الولفية على ثقافات المجموعات العرقية السنغالية الأخرى كالفولانية والسوننكية والسيرير..إلخ.

(6) قال الخليفة العام للطريقة التجانية، اسِيرِينْ امْبَايْ سِي منصور، في كلمة موجهة إلى أتباع الطريقة التجانية: إنه لا توجد ولاية رئاسية إلا ووراءها الثانية، واعتُبِر ذلك دعمًا للرئيس السنغالي، ماكي صال، وتأكيدًا على حتمية فوزه.

Voir le site rewmi, “Deuxième mandat de Macky”: Serigne Mbaye Sy corrige, publié Le 29 novembre, 2017, vu le 26 aout 2018:

http://www.seneweb.com/news/Societe/laquo-deuxieme-mandat-de-macky-raquo-ser_n_232435.html

(7) هذا هو رابط قناة تيفاوان على اليوتيوب:https://www.youtube.com/channel/UCQz4L6by2aTz9Uvv_EI06Lg

(8) هو الشيخ السعيدي، الحاج مالك بن عثمان بن دمْبا بن شمس الدين سي، عاش ما بين (1855- 1922). تنقل في حياته ما بين موريتانيا والسنغال ولديه تآليف معروفة في التصوف والفكر الديني بصفة عامة، من بينها: “إفهام المنكر الجاني” وفيه ذود عن الطريقة الصوفية التجانية، وله العديد من الدواوين الشعرية باللغة العربية الفصحى وبالوُلفية كذلك، ويعد أحـد أهم نوابغ عصره حيث اشتُهر في السنغال وفي بقية دول إفريقيا السوداء على وجه التعميم.

(9) تذهب الباحثة أدريانا بيغا في كتابها “دكار والأوامر الصوفية” إلى أن مؤسس المُريدية يعد أحد أكبر المدافعين عن ثقافات الزنوجة “Négritude” فـي بداية حياته الحركية والعلمية، انظر:

Piga Adriana, Dakar et les ordres soufis. Processus socio-culturels et développement urbain au Sénégal contemporain, (L’Harmattan, Paris, 2002), p. 224

(10) خصص الرئيس السنغالي الحالـي، ماكي صال، يوم 30 من نوفمبر/تشرين الثاني من كل سنة عطلة مُعوَّضة في جميع أنحاء السنغال، كما سبق لغريمه السياسي والرئيس السنغالي السابق، عبد الله واد، أن أقام إلى جانب الخليفة العام للطريقة المريدية خلال الحملتين الانتخابيتين لسنتي 2007 و2012 في مسعى للاستفادة من الحجم الناخب للطائفة المريدية مستغلًّا في ذلك انتماءه لها حيث يعتبر أول رئيس مريدي يتولى سدة الحكم.

(11) Voir: “Un pur juridisme aurait voulu que la liste présentée à Touba soit déclarée irrecevable”, xalimasn, 20 mai 2014, vu le 20 Aout 2018:

[Guest-Editorial-Xalima] Un pur juridisme aurait voulu que la liste présentée à Touba soit déclarée irrecevable, Par Ndiaga Loum, professeur d’universtité (QUEBEC)

(12) Voir: Ndiaga Loum et Ibrahima Sarr, “Les médias et la confrérie mouride au Sénégal”, Revue Internationale de la Francophone, vu le 11 Aout 2018:https://revues.univ-lyon3.fr/rif/index.php?id=374

(13) التبشير الشيعي في مالي: من الذي يمول سعيد محمـدو شعالا يبايا حيدرة؟

Voir: “Mali: Promotion du Chiisme au Mali: Qui finance Seid Chouala Bayaya Haïdara”, 28 juin 2016, vu le 30 Aout 2018:

https://maliactu.net/mali-promotion-du-chiisme-au-mali-qui-finance-seid-chouala-bayaya-haidara/

(14) “La Radio et la Télévision Zahara de Chouala Bayaya fermées”, niarela, vu le 30 Aout 2018:

https://niarela.net/religion/mali-la-radio-et-la-television-zahara-de-chouala-bayaya-fermees

(15) انظر: العلوي، الحسين الشيخ، “صراع الإرادات السعودي-الإيراني في منطقة الساحل وغرب إفريقيا”، مركز الجزيرة للدراسات، 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 26 أغسطس/آب 2018):

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2015/11/20151119103417638618.html

(16) لمعرفة المزيد من التفاصيل حول هذه الطريقة التي تجمع إرث الطريقة الصوفية التجانية إلى جانب بعض الأوراد العمرية بالإضافة إلى توجهات تنموية وتربوية، انظر:

Voir: “Chérif Ousmane Madani Haïdara et l’association islamique Ançar Dine, Un réformisme malien populaire en quête d’autonomie”, Cahiers d’Études africaines, 2012, vu le 30 Aout 2018:

https://journals.openedition.org/etudesafricaines/17056

(17) تصريح لرئيس الهيئة العليا للاتصالات السيد اكْواسو أدْريبُو، يمكن قراءته عبر هذا الرابط:

Voir: “Mali : Plus de trente chaines TV privées diffusent au Mali sans autorisation”, maliactu, 3 avril 2017, vu le 30 Aout 2018:

https://maliactu.net/mali-plus-de-trente-chaines-tv-privees-diffusent-au-mali-sans-autorisation

(18) إبراهيم أبو بكر كيتا يفوز بولاية رئاسية ثانية لمدة خمس سنوات.

انظر: “مالي: إبراهيم أبو بكر كيتا يفوز بولاية رئاسية ثانية لمدة خمس سنوات”، فرانس 24، 3 أغسطس/آب 2018، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2018):https://goo.gl/njY9qD

(19) تحمل العمامة دلالة كبرى لدى متصوفة تمبكتو وتجري مراسيم وضعها على شعر الرأس مصحوبة باسم الجلالة وفق طقوس روحية متوارثة لكن الذي يستلمها يجب أن تضفي عليه معاني الإجلال والإكبار وخاصـة إذا رافقها ارتداء الجلابية البيضاء والعكاز الفخري الذي يكمل الرمزية الدينية للعمامة، كما حصـل في الصورة مـع الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا (تم تداول تلك الصورة الملتقطة، في 22 يوليو/تموز 2018، بكثرة في وسائط التواصل الاجتماعي المالية وغيرها).

(20) هو الشيخ أحمد حماه الله الملقب بأمْرَابَطْ أنْيُورُو عاش ما بين (1881 وحتى 1943). كان في حياته مناوئًا للاستعمار الفرنسي في جمهورية مالي (السودان الفرنسي) لذلك تعرض للترحيل إلى موريتانيا ثم دول إفريقية أخرى عديدة قبل أن يتم نفيه إلى فرنسا التي توفي بها رسميًّا بينما لا يزال أتباع زاويته يعتقدون بإمكانية عودته إلى أنْيُورُو الساحل.

(21) لتتبع الأثر السياسي للشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله، الخليفة العام للزاوية الحموية، يمكن النظر في النماذج التالية من عناوين الصحف الموريتانية:

الشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله يستقبل الوفد الحكومي: https://www.aqlame.com/article33491.html

رئيس مالي يستميت في استرضاء ولد الشيخ حماه الله لإنقاذ موقعه في الانتخابات الرئاسية:https://rimtoday.net/?q=node/16134

الشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله غاضب من الرئيس الموريتاني:https://www.tawassoul.net/cgi-sys/suspendedpage.cgi

شيخ الطريقة الحموية يدعم التدخل العسكري في شمال مالي:https://www.kiffainfo.net/article2684.html

(22) Les médias et la confrérie mouride au Sénégal Op cit. Paragraphe 53.

المصدر/ الجزيرة للدراسات

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب