27 يوليو، 2024 3:32 ص
Search
Close this search box.

اغتراب الكاتب/ة(9).. الشعور بالغربة يدفع الكاتب لصنع عوالم ساحرة

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: إعداد- سماح عادل

عندما يشعر الإنسان بالاغتراب، ربما يدفعه ذلك الشعور المحزن أن يسعي لخلق عوالم يشعر فيها بالألفة والأمان والسحر، ويستطيع فعل ذلك بالكتابة، برسم أجواء يعيش فيها ويتنفس، ويطير، يحب ويشعر باللذة ويلتهم التفاصيل.

هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:

  1. هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
  2. هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
  3. هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
  4. هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
  5. هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟

العزلة نصلٌ حادّ يثقب داخل النّفس..

يقول الكاتب السوري “صبري رسول”: “كان سلوكي يثير النّقمة أحياناً لدى أفراد الأسرة، كنت أستشعر ذلك في نظراتهم إليّ، أدير ظهري لهم وأقود سفينتي للإبحار في عالم الكتب.

الاتهامات المتبادلة بين طفولتي غير مروّضة وفق مقاييس المجتمع، ومحيطها الاجتماعي القاسي، أشعلت عداوة مخفية بينها وبين الآخرين الذين لم يستوعبوا مستلزماتها وحاجاتها، ولم تستطع طفولتي الانسجام مع في بيئة شعرت بأنها غريبة عنها.

كنتُ أشعر بحاجة كبيرة إلى البكاء بصوتٍ مرتفع، إلى إطلاق صرخة هائلة، مازالت خامدة في داخلي حتى الآن. صاحبني شعور بعدم الرّضا من النّاس، بعدم الرّضا من رؤيتهم للأمور، كم كانوا صغاراً في عقولهم، ولم أستطع أن أبح هذا إلى أحد، لذلك ما فارقني ألمُ الاختلاف. هل كنتُ طفلاً وصبياً سيئاً، أم هم كانوا سيئين؟ الشي الوحيد الذي أعرفه هو أنّني حافظتُ على كياني من الذّوبان في أفكارهم”.

وعن هل عامله الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة يقول: “التعطّش الدّائم إلى القراءة، دفعني إلى الابتعاد عن الأجواء الاجتماعية التي تفرض على المرءِ أشخاصاً كثيرين، من كلّ الفئات، عمال زراعيين، رعاة، فلاحين، والأهل المقربين الذين يتدخلون في الشّؤون الشّخصية كاللباس وطريقة تناول الطعام، وتحديد العلاقات.

في المرحلة الثانوية تحديداً تفتّقت قريحتي في التهام الكتب، فكنتُ أستعير عشرات الكتب في مختلف المجالات من مكتبة المدرسة، ورغم كثافة المناهج في هذه المرحلة كنتُ أقضي أوقاتاً طويلة في القراءة، ازدحمت ذخيرتي المعرفية بالفنّ السّردي الذي كان يحلّق بي إلى عوالم أخرى، فتكدّست الكُتب في كلّ أرجاء المنزل، في المطبخ، وغرفة النّوم التي تقاسمها معي إخوتي، وفي صالون الجلوس، أفراد الأسرة، الإخوة والأخوات منحوني هذه الخصوصية، أما أفراد العائلة، المتزوجون خارج المنزل، وأبناء الأعمام كانوا يتذمّرون من انعزالي.

ألوذ بزاوية تعاهدت مع الهدوء والسكون، أقرأ بنهم الجائع كتباً في الدين والفلسفة والأدب، أتفاعل مع الأحداث، أعيش حياة أبطالها، فأبحث معهم عن حلول لمشاكلهم، ومخارج لأزمات أوجدتها في طريقهم  تصاريف أقدارٍ لا قدرة لهم على مواجهتها.

أنها أوقات تلقيت بسببها زجرات قاسية لتقاعسي عن العمل في مزارع الخضرة وحقول السمسم والعدس، لكنّني كنتُ أبني عوالم خاصّة بي ومعارف تفصلني عنهم”.

وعن هل كان يفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب له ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم يقول: “كان الانعزال عن المحيط الأسري هاجساً لي، أبحث عن زاوية تأويني من نظراتهم، لأنني لا أشارك الآخرين كما يريدون، لكن كانت تجتاحني أوقات أريد العزوف عن صخب الإخوة والاختلاء بنفسي في مكانٍ هادئ، لكن الاختلاء بنفسي في المنزل لم يكن سهلا.

من الصّعب إيجاد معتزل مع عشرة أفراد من الإخوة والأخوات، وتنفرد بنفسك في زاوية من بيتٍ ريفيّ صغير، تزاحمت فيه الغلال والمحاصيل الزراعية، ومخازن البذور. وصخب الحيوانات الداجنة يملأ المكان. كنتُ أرى أنّ ضياع الوقت في أمورٍ أخرى كاللعب مع الآخرين أمر لا يمكن مسامحة نفسي عليه، وأحياناً كنت أصطحب أصدقاء الطفولة إلى ساحاتٍ قريبة لكن سرعان ما أشعر بالضّيق فأنسحب إلى المنزل، وأركض إلى كتبي.

اللحظات المثيرة التي كانت تأسرني، كانت مع روايات تأخذني إلى عوالم غريبة، يغريني الإبحار في مشاهدة غير مألوفة في روايات سليم بركات، أو تلك التي تكون مصائر أبطالها مجهولة كـ«رواية الراعي» الكردي للكاتب “عرب شمو” في بحثه عن أخته في نهاية الحرب العالمية الثانية.

أعيش مع أفراد الأسرة في الوجود الفيزيائي وأتفاعل معهم في مسارات اليوم الروتينية، وأشاركهم في النظرات الهاربة من التعبير، وأصاحب دوستويفسكي في رواياته الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف، وهمنغواي ونجيب محفوظ وسليم بركات، أصبح بطلاً لرواياته في معسكرات الأبد والرّيش والفلكيون في ثلاثاء الموت «كبد ميلاؤس وعبور البشروش»، وأعيش معاناة كازانتزاكيس  في زوربا، كنتُ أعيش تفاصيل أحداث ملحمة «مم وزين» لأحمدي خاني بينما كان أحد بيوت القرية تحترق والعويل يعلو فوقها، وأنا أتابع حريق النّصّ المثير. أعيش أحداثاً خلقوها أو تخيلوها. إنّه عالَم الإنسان الذي ينفرد خارج السرب العام”.

وعن تمني أن يتعامل معه الأهل والمحيطون بك بشكل مختلف يقول: “بكلّ تأكيد، كنتُ أتمنّى أن يفهموا ميولي في اللعب والقراءة والسلوك بشكلٍ آخر، وحدها والدتي (الضّريرة) كانت تنقش في أمنياتي وتتوقّع مني أن أكون شخصاً مختلفاً، كانت تجيد قراءة التّنبوءات بحسّها العميق، وتشجّعني على أنْ أكون كاتباً ذات يوم. لكن لم أتلقَ التّشجيع المناسب من إخوة لي، بل منهم من  لم يكن يعرف دراستي وجامعتي وتخصّصي، ولا تاريخ تخرجي. كثيراً كنتُ أسمع جملة «الدراسة لن تطعميك خبزاً» ويضربون مثلاً: «فلان أصبحَ معلّماً وراتبه لا يغطّي فواتير الكهرباء». البيئة الرّيفية كانت تنظر إلى التعليم كأمرٍ ترفيهي قبل ثلاثين سنة.

المخالطة الاجتماعية تستنزف الإبداع والوقت، وخاصة في الأرياف ذات الطابع العشائري، وفي ضجيج المدن، لذلك تفاديتُ المخالطة الواسعة في كثير من منعطفات حياتي، ورغم ذلك انخرطتُ في العمل السّياسي بعد الدراسة الجامعية، وعملتُ فترات طوال في العمل الصّحفي، كما تبوأتُ أحد مراكز القيادة السياسية في فترة الثّورة السّورية، وكانت تجربة ثريّة لكنها استنزفت مني الوقت والطّاقة. ثم عزفتُ عن العمل السّياسي، بعد اللجوء إلى دولة أوربية حيث أقيم الآن.

الغربة بوصفها حالة إنسانية، يعيش فيها الفرد خارج بيئته الاجتماعية ومحيطه الأسري، تفرض عليه جملة من الشروط الحياتية، تؤثر على إبداعه كماً ونوعاً.

أما الاغتراب، بوصفه شعوراً يعيشه المرء رغم وجوده ضمن بيئته وبين أفراد أسرته يجعل منه منزويا في زوايا لا يكشفها المسح النظري الأفراد الأسرة. إنه هروب من علامات غير مملّحة للمحيطين.

لم يبد عليّ النبوغ الكتابي المبكّر، وشكّل المحيطون بي نظرةً عني بأنّي لا أحبّ العمل الريفي، وأتهرّب من التعامل مع كائناته. في البدايات كانوا يتذمّرون من سلوكي، ويبحثون عن سبب ميلي إلى الألعاب العقلية كالعمليات الحسابية ولعبة الشّطرنج.

الاغتراب لدى المبدع يختلف عن الآخرين، فهو خاصية إبداعية تميز المبدع، تبلور شغفي بالقراءة العميقة في المرحلة المتوسطة والثانوية والجامعية، كنتُ أسترق ما تيسر لي من الوقت في قراءة الحكايات الشعبية «ألف ليلة وليلة »، والأساطير المثيرة التي كانت تجمعني بالأخرين لحظة الاستماع إلى الحكواتي الشعبي الذي يجمع حوله أهل القرية في ليالي الصيف، ويسرد فيها أساطير مشوّقة محفزة للخيال عن الغيلان والجنّ، وحكايات كُردية عن الحبّ وخطف الحبيبة.

وعن الندم علي شغفه بالكتابة والقراءة وهل كان يتخيل حياته بدون الكتابة يقول: “في السّنوات الأولى من الغربة المكانية، اللّجوء إلى المهجر الأوربي نتيجة الحرب الأهلية في سورية، وانهيار المجتمع، شعرتُ بندمٍ صقيعي لأنّني ضيعتُ سنواتٍ طوال على القراءة والكتابة، لأنّ الأيدي العاملة استطاعت أنْ تؤمّن نفسها بسرعة في أوربا، حيث مسألة العرض والطلب تقيّد سوق العمل، أما الكتابة باللّغات غير الأوربية، لن تجدي نفعاً، ولن تدرّ  للكاتب مكسباً في الحياة. لكنْ بعد الاستقرار النّسبي واكتساب اللّغة تولَّد الإحساسُ من جديد بأهمية القراءة والكتابة في صنع الإنسان من جديد في بلدانٍ تختلف ثقافاتهم ورؤاهم عنّ ثقافاتنا.

كلّما انزوى الإنسان في داخله، كلما اتّسعت دائرة اهتمامه بنفسه، لخلقِ ذاتٍ معنى لنفسه، وتشاسعت المسافات بينه وبين الآخرين، وهكذا يبني عالَماً خاصّاً به ضمن عالَمٍ عامٍ، ودفاعاته الحصينة في وجه جيوش المجتمع تكون القراءة والكتابة.

من المشاهد الصّافعة التي تحزُّ في نفس الإنسان وتجعله يشعر بعزلةٍ شديدة انهيارُ القيم الاجتماعية أمام عينيه من دون أن يستطيع القيام بشيء، الشعورُ بالعجز يُنفيه إلى داخل ذاته العميقة، يحقّق انتصاراته على ذاته، يتهرّب من الخارج إلى الداخل، يجعل هزائمه الاجتماعية، وعجزه عن تغيير محيطه انتصاراتٍ فردية يترجمها إلى نصوصٍ لا يشعر بها أحد إلا بعد فوات غبار المعركة. هذا ما يحصل لكثير من الكتّاب السوريين في الوقت الحالي.

كلّما زادَت ثقة المبدع بنفسه اتّجه إلى التفكير خارج السّرب الاجتماعي، وعاش في عزلة شديدة، فيقلّ عددُ أصدقائه. اللجوءُ إلى العزلة في بعض المراحل العمرية نصلٌ حادّ يثقب داخل النّفس، ويجسّر في الوقت نفسه الوديان العميقة والفواصل مع الكتّاب الآخرين”.

الكتابة اكتشاف..              

يقول الكاتب اليمني “الغربي عمران”: “منذ فترة الطفولة لم أعي إختلافي، لكن مع تنامي وعيي وإدراك أن من حولي دوما يخطئوني، بدأت أتساءل لما هم دوما يأتلفون مع بعضهم وليس معي، ليترسخ لدي باختلافي بعد مغادرتي مهاجرا عن وطني، وهناك وجدت بأني أختلف، وأن لكل إنسان اختلافه عمن يحيطوه ولو بنسب مختلفة، كنت مختلفا في حبي للقراءة بل وشغفي وانزوائي، وحين كتبت وجدت أن ذلك متنفسي وأنني وجدت نفسي”.

ويضيف: “ميلي للقراءة بداية جعل لي أوقاتي مع عوالم لا يعرفها من حولي، بل وبدأت تغيرات في أنشطتي التي لا تهمهم، هنا كنت في نظرهم أسير في طريق يخشونها. ولذلك أصبحت بينهم حالة مقبولة على مضض وإن راودهم خوف خاصة حين أكون مع نفسي كثيرا أو مع من يشابهني”.

ويواصل: “لم أتمن إلا أن يعاملوني حسب ميلي فقد كنت في غربة، لكن مع مرور الوقت تقبلني الجميع وأضحى لي اصدقاء لهم نفس الهم، ولم أندم يوما خاصة بعد أن تقبلني الجميع بل وأضحى الجميع يقدروني.

ويؤكد: “الكتابة حياة لو لم أكتب أظنني كنت سأكون شبه مجنون أو منبوذ، الكتابة أعادتني للجميع واكتشفني الجميع كائن جيد وليس كائن غير سوي” .

الكتابة تمرد وخلق عوالم ساحرة..

ويقول الكاتب الفلسطيني “خليل ناصيف”: “لقد نشأت في حي هادئ على أطراف مدينة رام الله  غني بالأحراش وأشجار الصنوبر والينابيع، وبينما كان أترابي يقضون وقتهم في صيد العصافير ولعب الكرة، كنت أقضي الوقت في القراءة، كنت ميالا للعزلة والمطالعة وكارها للألعاب العنيفة، شعرت بهذا الاختلاف منذ طفولتي ووعيي الأول على الحياة. كنت متفوقا في كتابة مواضيع الانشاء في حصص اللغة العربية لكن لم اخطط لأكون كاتبا، التوجه نحو الكتابة حدث في مرحلة متأخرة من شبابي. وقتها أدركت بأن مهمتي في الحياة أن أكتب وكلما قاومت ذلك بممارسة أي عمل آخر كنت أجد نفسي في نهاية الأمر كاتبا”.

وعن هل عامله الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا يشبههم وكيف كان تقبلهم لميله الى القراءة والكتابة يقول: “كان أهلي فخورين بميلي للقراءة والكتابة وكوني طفلا هادئا بعيد عن المشاكل ومتفوق في دراستي، نظروا إلي كغريب ولكن من ناحية إيجابية، لاحقا عندما توجهت إلى عالم الكتابة ظلوا فخورين بي وإن كنت من وقت لآخر قد تعرَّضت الى انتقادات من قبيل أن الكتابة لا تصلح وسيلة للعيش، ولكن أفضل طريقة للعيش برأيي أن يشتغل الإنسان بالعمل الذي يحبه أما المال فهي مسألة أرزاق”.

وعن هل كان يفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب له ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم يقول: “لم اختر العزلة ولكن العزلة اختارتني، شيئا فشيئا جذبني عالم الكتب وكونت فلسفتي الخاصة للحياة والتي لا تشبه فلسفة وعوالم المجتمع الشرقي المحيط بي، قل اختلاطي بالأسرة ونعم شعرت بالغربة، وغالبا ذلك الشعور بالغربة وعدم الرضى عن الواقع هو ما يدفع الإنسان للكتابة في محاولة منه للتغيير أو صنع عوالم مشابهة للعوالم التي يحبها.

بصفتي قارئ سأفضَّل دائما تلك الكتب التي كتبها رجال ونساء يشعرون بالغربة على الكتب التي يكتبها ناس متصالحين مع واقعهم ومجتمعهم دينيا وسياسيا واجتماعيا . الكتابة تستحق العناء عندما تكون فعل تمرد”.

وعن هل هو نادم على شغفه بالكتابة والقراءة وهل كان يتخيل حياته بدون الكتابة يقول: “لست نادما أبدا وعلى العكس في كل مرة حاولت فيها مقاومة الكتابة والتفرغ للكتابة كانت الحياة والظروف تدفعني دفعا إليها، ما كتبته وما سوف أكتبه هو جزء من روحي ولا يمكنني أبدا تخيل نفسي في مهنة غير مهنة الكتابة، باستثناء أن أكون ثائرا من أجل حرية الإنسان . إنه موضوع اختيار ولكل اختيار ثمن وأنا شخصيا دفعت وسوف أدفع ثمن اختياري الكتابة بكل رضى”.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب