خاص: إعداد- سماح عادل
“أحمد مصطفى الحاج” شاعر وقاص ودرامي وصحافي ومعد برامج مرئية ومسموعة وروائي سوداني، أحد أبرز كتاب القصة القصيرة في السودان، وأحد ممثلي جيل السبعينيات في الكتابة، كتب للأطفال، وملفاً لصحيفة (الخرطوم)، حمل عنوان (فارغة ومليانة)، وفازت روايته (كنداكيس) بجائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي العام 2014، والتي يقدمها مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي.
امرأة مدهشة..
في حوار معه اجراه “صلاح الدين مصطفى” يقول “أحمد مصطفى الحاج” عن روايته “كنداكيس ستنابت عجيل”: “هي روايتي الأولى وأرجو الله ألا تكون الأخيرة.
“كنداكيس” اسم ابتدعته أو بالأحرى اشتققته من لفظي كنداكة وبلقيس وأما “ستنابت عجيل” فهي “حبوبتي” شقيقة آمنه بت عجيل أم أمي، وكانت امرأة مدهشة ومتفردة كانت تخاطب الطير والريح والمطر وتفلح الحديد وتغزل القطن وتنسجه وترعى الغنم، وهذه صفات كان يتصف بها النبيان داؤود وابنه سليمان عليهما السلام، وما عندي ما أضيفه لأني ما تعودت على تفسير أعمالي وإنما أترك أعمالي تتحدث عن نفسها”.
ويواصل عن روايته: “أولاً ظللت أحمل عبء هذه الرواية على مدى نصف قرن من الزمان.. أذكر وأنا طفل- ست سنوات- كنت مرافقاً لجدتي ستنا في سفرية إلى شندي، وكان السفر زمان ذاك باللواري، وأذكر أن شجاراً وقع بين جدتي بت عجيل ومساعد اللوري الذي توعدها بقوله: “والله لو جا جني أنزلك إنتي وعفشك” فما كان من بت عجيل إلا ردت له بحزم:”إنت يجي جنك نحن جننا معانا”، وأذكر أن المساعد وقف مبهوتا لا يحرك ساكناً كأنه جذع نخلة منقعر..
ظلت تشكل في “جواي” حتى صارت عملاً روائياً سوياً.. ولا أخفي عليك فأنا أمارس الكتابة بأسلوب الدفقة الواحدة وهذه الرواية على الرغم من طولها فكتبتها بأسلوب الدفقة الواحدة، وظلت تواتيني على فترات استمرت لخمس سنوات.. والله وأنا بكتب في هذه الرواية كأنما يملي علي”..
ويوضح وهو يضحك: ” لا أعرف ربما تكون روح بت عجيل وربما تكون كنداكيس والله أعلم”.
وعن لغتها التي وصفتها في بيانها لجنة جائزة الطيب صالح أنها لغة باذخة وفخمة يقول: “من القرآن الكريم، أقول لك ثمة معلومة مغلوطة مفادها أن فن القصة القصيرة والرواية لم يعرفه العرب إلا في القرنين السابقين مع أن القرآن أنزل منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، أين كانت الرواية الغربية؟، بل أين كان الغربيون أنفسهم؟ في القرآن سورة يوسف عليه السلام، أنا تعلمت كتابة السيناريو من هذه السورة، هي عبارة عن فيلم سينمائي فيها كل مقومات الفيلم السينمائي، من قبل أن تكون هناك كاميرا وسينما وشاشة أسكوب.. هذا أنموذج..
القرآن كله قصص ولك أن تتخيل أن العرب والمسلمين يعرفون هذه القصص منذ “14” قرناً من الزمان، أنظر إلى سورة الفيل سورة بخمس آيات واثنتين وعشرين كلمة تحمل في طياتها فيلماً شوهد وسيشاهد إلى يوم يبعثون..
نعم تأثرت كثيراً وليس كثيراً فحسب، بل كل التأثر اخترت لغته ومن أصدق من القرآن قيلا.. حديثاً بل كان تأثيره حتى في تهذيبه فمن معجزات القرآن مثلاً لا حصراً أنه وصف ما يكون بين الذكر والانثى بـ “أفضى” و “الملامسة” و”المودة” وأنه ما ورد به شيء قبيح البتة فأنه كنى عن الشيء القبيح القذر بالشيء الجميل فقال: “كانا يأكلان الطعام” فانظر حال من يأكل الطعام ويشبع ويهضم ماذا يفعل؟”.
كنداكيس..
وقيل عن روايته “كنداكيس”: “ويجمع معنى اسم الرواية “كنداكيس” بين اسم بلقيس وكنداكة لقب ملكة النوبة، و يجب على قارئ هذه الرواية أن لا يتوقع سرداً مباشراً، وثيمات معتادة، ورموزاً سهلة التأويل؛ إذ لا محمولات بسيطة يحيل إليها ذلك الاستخدام مفتوح الدلالة للّغة عند الحاج. فمن مطلع النص، تحيلنا اللغة القرآنية الكثيفة التي تروي رحلة هدهد سليمان إلى مملكة بلقيس ـ الكنداكة، من وجهة نظر الهدهد، ثم لغة “ألف ليلة وليلة” باذخة التفاصيل، المستخدمة لوصف أحداث ما بعد تسليم الخطاب، إلى جو أسطوري بمسحة قدسية خفيفة، تكسرها من حين إلى آخر تفاصيل اليومي في حوار ستنا بت عجيل ـ في زمن آتٍ ـ مع زوجها، والنَّفَس الأسطوري للسذاجة الريفية في تجاوب ستنا مع أصوات طيور القمري. لكن سرعان ما يحملنا الراوي خارج الزمن، وبلغة ترتفع وتيرتها كلما توغلنا في القراءة، نحو مزج غرائبي شديد الوقع بين الأزمان والأحداث والشخصيات في تمثّلاتها المتعددة”.
وأيضا: “وابتداء من حادثة غرق بنتَي ستنا التوأم في النيل، أثناء طقس نوبي تلا ختانهما، ينعطف السرد نحو مقصده حثيثاً، مستصحباً معه قصة انهيار سد مأرب في اليمن وتفرّق القوم، في توظيف مغاير للتاريخ. إذ يقترح الحاج سيناريو مغايراً للأحداث التاريخية يبني عليه رحلة “خروج” للناجين من انهيار السد وصولاً إلى مستقرهم في أزمانهم المتعددة والمتداخلة في أرض السودان، مصوّراً الآثار التي بذروها على طول خط الرحلة.
رحلة تقودنا إلى المشهد المركزي في السرد، إلى الكهف الذي دخله قائد جماعة الناجين، كاتشاب، حيث يغرق في أحوالٍ تستعيد قصة “سفر التكوين” التوراتي، وقصة ألواح موسى، قبل أن تذهب الإحالات في النهاية إلى إنتاج أسطورة الروائي الخاصة التي تؤكد الأصل المشترك لسكان البلاد؛ إحالات تفضي إليها أسماء الشخوص مثل نوبو، محسة، بعانخلو. وفي أحيان أخرى، يوظّف الحاج الموروث الشعبي بأمثاله وأساطيره للغاية نفسها، وهو الموروث الذي نجده يتمدد على طول الرواية وصولاً إلى مشهد الكهف الذي تُملى فيه الوصايا على كاتشاب ويُلان له الحديد وتُسخّر له الريح”.
وأخيراً: “إن الرواية، على قلة صفحاتها (105)، تحمل عدداً كبيراً من الرسائل التي تظهر أحياناً أو تحتجب خلف كثافة الرموز والإشارات التي استدعاها الحاج من تاريخ يمتد آلاف السنين، ليقول: “كلنا واحد”.
وتنزع الرواية إلى تمثيل التاريخ السوداني القديم، واشتباك الماضي مع الحاضر، بأسطرة التاريخ، ومحاولة تدوين سيرورته الشفاهية، باسترجاع قصة الملكة بلقيس وهدهد سليمان واستلهام الأساطير الشعبية السودانية بكل فانتازياها وواقعيتها السحرية، وتحويل سبأ إلى (سوبا) القديمة، حيث اكتمل التحالف بين الفونج والعبدلاب، وبداية تشكيل حضارة سنار وسط السودان.
وفاته..
توفى “أحمد المصطفى الحاج” 21 نوفمبر 2020.