مهند النابلسيشيء واحد جعله يتقبل احتمال ما وقع، وهو ما قرأه منذ أيام في مجلة علمية وملخصه أنه إذا ما عاد الكون بعد ملايين السنين إلى الانسحاق والتقوض، فستبدأ قبل وقوع الكارثة سلسلة من الاحتمالات التي تشبه الخيال العلمي بل وتتجاوزه، مطيحة بكافة مفاهيم المنطق الفيزيائي: فالأكواب المحطمة يتجمع حطامها ويقفز بلمح البصر عن الأرض رجوعا للطاولة، وتصبح أحداث الحياة حينئذ كفيلم فيديو مرتجع.
وضحك من هذا الاحتمال، وتخيل السيارات تسير مسرعة للوراء والطائرات تعود رجوعا لمقالع انطلاقها. لا بد أن العالم سيصبح سورياليا في الأيام الأخيرة قبيل وقوع الكارثة. ولكنها كوميديا سوداء مرعبة. وماذا عن عودة مليارات الأموات إلى الحياة مبعوثين من قبورهم؟ وتذكر لوهلة آية قرآنية كريمة : “ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون” (سورة يس؛ الآية 51).
إذن فقوانين الفيزياء يمكن أن تقوض أمام كارثة كونية كاسحة، كذلك يمكن أن تخترق القوى الروحية الخفية مكامن الوعي البشري وأن تحدث تأثيرا مغناطيسيا -سحريا لا يمكن تفسيره بالمنطق الدارج: لذا لم يطلع البرفسور أحدا على خفايا قوته النفسية، بل استنكف حتى عن إخبار زوجته نورا، فقد اعتبر قدراته النفسية ملاذه الأخير وقد تعلم منذ نعومة أظفاره أن يهدئ بالإيحاء من دقات قلبه المتسارعة، ودرب نفسه مرارا على هذه المهارة،
كما اعتاد أن يلجأ أحيانا لقواه الخفية ويستخرج منها ذهنا إيجابيا ونفاذ بصيرة خارق، وأخيرا فقد اكتشف بعد ممارسة طويلة وتمرين صعب إمكانية اختراق مكامن الوعي البشري، هكذا فرح لأنه استطاع أن يسبر غور ذهن زوجته، وان يروض أحيانا مزاجها الصعب ونوبات نكدها، كما امتدت إرادته لتلمس أوتار رعبها لتسكنها بطريقة كهربائية هادئة.
إلا أن ذلك قد أدى أحيانا لاستنزافه، ولأن يشعر بتعب ذهني وإجهاد، لأنه لم يتعود طويلا على الاستخدام الدائم لعضلات إرادته الذهنية، فمنذ أن كون فريقه (البيئي) العلمي الأخير وقد سيطرت على فكره “تجربة البحيرة الإفريقية الحامضية “، وهو ينزلق لهاوية “المنطق والتحليل والموضوعية“، حتى كادت قدراته النفسية أن تستنفذ، وشعر وكأنه يدفع ثمنا غاليا لتجربته الخاصة هذه التي بدأت أيضا تضغط على أعصابه وذهنه ونمط حياته اليومي،
ثم ابتهج لفكرة قدرته على استرجاع قدراته الروحية الكامنة، فربما ستنقذه وتساعده وأهله ومساعديه للخروج سالمين من “جحر الجحيم” المرعب هذا، ثم لا لاحظ مستغربا انه بدأ تلقائيا يستخدم نفس عبارات نورا في وصفه للمكان …فحادث نفسه بتفاؤل: ومهما حدث، فقد سمحت لعقلي وروحي بالتمازج مع عقل نورا وأحاسيسها المرهفة، موصلا لها إحساسا عارما بالحب والشفقة والحنو والتعاطف، وقد نجحت لحد ما في إخراجها من قلقها وبؤس معاناتها.
وبالرغم من خطورة التجوال في هذا الدغل الأفريقي اللعين (الواقع في قلب غابة مطيرة)، إلا انه كان يمارس محتاطا رياضة المشي والهرولة مرتين يوميا، مقتنعا بمقولة الشاعر هنري ثورو “لحظة تبدأ قدماي بالتحرك، تبدأ أفكاري بالتدفق”، مبجلا مغزى أن تكون وحيدا دون أن تشعر بالوحدة.
صورة رمزيةسيطرت على نفسه فكرة “استرجاع قدراته الذهنية “، فقام في صبيحة اليوم التالي، بإجراء تجربة عشوائية على طائر جميل صغير، فسلط قواه الذهنية الحادة على عقل الطائر، تماما كما تسلط السكين الحادة على عنق الدجاجة، مما أوقعه فجأة في براثن قرد متوحش شرس، وتهيأ له وكأن الطائر المسكين يلومه قبل أن تكتسي عيناه بغشاوة الموت، ويتعرض للافتراس.
ولكنه كره فعلته بل كاد أن يندم، عندما بدا له رأس هذا القرد غريبا وبشعا، يماثل وجها طويلا مصمتا، تعلوه ثلاثة أعين حمراء، وبأسفله فم شرس تخرج منه فكان طويلان حادان. لقد كان ثمة شيء مخيف للغاية في ذلك الوجه الوحشي، شيء أشبه بالشيطان.
شعر بخوف كاسح استولى فجأة على كيانه، وقفل عائدا لمكان إقامته بـ “الكامبوس المحمي”، واستوحى من الطريق اللولبي الصاعد فكرة أنارت تلافيف دماغه، فقد قرأ ذات مرة أن فيلسوفا عظيما قال إن الطريق الصاعدة والطريق الهابطة طريق واحد.
وانكشف له فجأة مغزى هذه المقولة، فكما التراجع العكسي للأحداث محتمل قبيل نهاية الكون الكارثية، كذلك فالطريق ما بين الماضي والحاضر والمستقبل طريق واحد، ولا بد ومن وجود كاميرا “ميتافيزيائية ” داخل دهاليز الدماغ البشري، تفتح في جزء خاطف من الثانية وتطلع الإنسان الموهوب على بعض أحداث المستقبل.
وراح يتمتم مع ذاته: أجل كل شيء محتمل. كل شيء محتمل.