يقول صديق من داخل الحلقة الضيقة الممسكة، وحدها، بالحكم في العراق، إن السبب الحقيقي الكامن وراء اشتداد الضغوط، بكل أنواعها، على الدكتور حيدر العبادي من قبل أحزاب ومليشيات وتيارات مهمة وفاعلة، كثيرٌ منها مسلح، ومحمي ومدعوم من دول مؤثرة خارجية، هو يقينُها الثابت بأنها إذا ما تراخت وحنت رأسها أمام أي من الإصلاحات التي ينوي إجراءها، مدفوعا بضغط الشارع المنتفض، وتأييد المرجعية، لابد أن يُحدث ثـَلما، ولو صغيرا، لهيبتها أمام الشعب العراقي. وهي الخبيرة بمزاج الجماهير المستَفـَزة التي ما إن يتحقق لها نصرٌ، ولو أقلُ من قليل، سوف تطلب المزيد، والمزيد يجر لمزيد، حتى تصل الأمور، في النهاية، إلى ثورة كاسحة قد يعجز القضاء الحالي والبرلمان والمليشيات عن وقف هجمتها، وقد تطيح بالنظام كله، ولن ينجو من انتقامها أحد.
ويقول الصديق إن أحد كبار المعارضين لسلطة العبادي صارحه بتلك المخاوف، وحذره من التمادي في مسايرة الشارع والمرجعية، وأكد له أنه، نفسه، لن ينجو من العقاب.
وذكره بتجربة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي جامل الشارع العراقي، حين وافق على محاسبة مرتكبي مجازر الموصل وكركوك عام 1959والمتسببين فيها، فكانت خطبته في كنيسة مار يوسف شرارة أشعلت الحقل كله، وأجازت للجماهير الحاقدة أن تتولى، بنفسها، ودون انتظارٍ لحكم القضاء، مهمة التنكيل بجميع اليساريين والشيوعيين، لا فرق بين مجرم وبريء. وقد ختمت تلك الخطبة على الحزب الشيوعي بالسقوط، وإلى الأبد.
كما قص عليه حكاية عبد السلام عارف حين تحالف مع كبار القادة العسكريين البعثيين عام 1963 للتصدي لعصابات الحرس القومي (البعثي) الذي تحول إلى دولة داخل الدولة، وصار يتعالى على الجيش والحكومة، ويعتدي على الموطنين، ويختطف ويعتقل ويحاكم من يشاء متى يشاء، فكان انقلاب ما سمي يومها بـ (ردة تشرين) 1963. وفور نجاح الانقلاب غدر عبد السلام برفاقه القادة العسكريين البعثيين الذين نفذوا له الانقلاب، قبل غيرهم. وكانت تلك نهاية حكم البعث، وبداية نكبة البعثيين أجمعين.
ويستدرك الصديق قائلا، إلا أن مواقف الدعم والتأييد من أطراف أخرى، سياسية وعسكرية ودينية، عراقية ودولية، تتسارع، بالمقابل، وتتنوع، وتعِد بالوقوف معه إلى النهاية في مواجهة المعرقلين والمتآمرين، وأولُهم وأخطرهم نوري المالكي، ومعه زعماء المعسكر الإيراني العراقي الذين استحوذوا على الحشد الشعبي، وحولوه إلى قوة مسلحة يستخدمونها لتهديد
الخصوم، وكسر هيبة الحكومة، والجيش، تماما كما كان العراق أيام الحرس القومي البعثي، وأيام المقاومة الشعبية الشيوعية في الخمسينيات والستينيات.
ويؤكد الصديق أن حيدر العبادي صادق في عزمه على المضي في مسيرة الإصلاح، ومصمم على مواجهة الكارهين. ويطلب منا نحن الكتاب والإعلاميين العراقيين المؤيدين للتغير أن ندعمه ونسانده بأقصى ما نستطيع.
قد يكون هذا صحيحا، وقد نؤمن بحيدر العبادي، ولكن المشكلة أن الشعب العراقي سيبقى معلقا في الهواء، منتظرا نتائج هذه الحرب الطاحنة بين الرافضين والقابلين، على أمل أن يعود (جودو) الذي يأتي ولا يأتي.
وأول الأسئلة التي نطرحها على الصديق هو، متى تنتهي بين الفريقين، هذه المناوشات والجرجرات والمشاكسات؟، في يوم؟، في شهر؟، في سنة؟ أم ثلاث؟. وهل يتحمل العراقيون مرارة الانتظار؟
المأزق الحقيقي الذي وجد الشعب العراقي نفسه فيه يتلخص بحجم البون الشاسع بين التغيير الذي يحلم به، ويصر عليه، ولا يصلح حالُه إلا به، وبين إصلاحات العبادي الموعودة التي لم يستطيع، وقد لا يستطيع، تمريرها من بين صخور وأشواك نوري المالكي وقاسم سليماني وقادة المليشيات.
كما أن السيد العبادي أخطأ مؤخرا بنشر صوره مع السيد عمار الحكيم والسيد مقتدى الصدر لإظهار انحيازهما إليه ضد الغريم نوري المالكي. فقد أصاب الشارع العراقي بالإحباط، والشك. فهما من بين قادة العملية السياسية المتهمين بتخريب الحياة السياسية، أو بالتستر على من يقوم بتخريبها، بما لهما من وزارات ومليشيات وكتل نيابية تسد عين الشمس.
ألم تروا السيد حيدر العبادي مستقبلا في مكتبه بهاء الأعرجي المحال إلى العدالة بتهم الاختلاس واستغلال النفوذ والكسب غير المشروع؟
فإذا كانت هتافات ملايين العراقيين الغاضبة، وجميع ملفات النزاهة، وكل مستندات أحمد الجلبي، ونداءات المرجعية، لم تستطع أن تخيف أحدا، ولا أن أن تحيل مختلسا واحدا كبيرا إلى العدالة فبأي عين وأي وجه نطلب من الشعب العراقي المنتفض أن يطيل باله، وأن يعض على جراحه، ويُسكت مواجعه، وهو يرى ظلامه سراقه، جميعا، يصولون ويجولون، ويهددون ويتوعدون، ومن خلف كل واحد منهم سفارة أجنبية مع قواتها العراقية المسلحة؟؟
وها هم المحكومون بالفساد يُسيِّرون مواكب العزاء، ويقدمون للناس الهريسة والدولارات، أو يغادرون الوطن بسلام آمنين.
والأه أن زعيم الإصلاح والتنغيير حيدر العبادي يقاتل اليوم ويجادل ويحاول حماية قراره اليتيم الهزيل القاضي بإعفاء نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء من الإلغاء.
فالجميع اليوم، شيعة إيران، وشيعة المرجعية، وسنة الحكومة، وسنة الأمريكان، وسنة داعش، وحيدر العبادي وغريمه نوري المالكي، والشعب العراقي المنتفض، جمعهم أمام طريق مسدود. ولا مخرج من هذا المأزق إلا بعمل جراحي جذري، يقلب الطاولة عايها سافلها، ولكنه مؤلم إلى أبعد الحدود.