18 ديسمبر، 2024 8:11 م

«عكس السير» لهويسمان: هل عزلة المبدع بعيداً عن المجتمع ممكنة؟

«عكس السير» لهويسمان: هل عزلة المبدع بعيداً عن المجتمع ممكنة؟

ذات لحظة من لحظات رواية «عكس السير» يأتي «بطل» الرواية – وسنشرح بعد سطور لماذا نضع الكلمة بين معقوفتين – بسلحفاة فائقة التناسق والجمال ليحدق فيها. ثم مبتسماً وبشكل بالغ الجدية يبدأ بزرع العديد من حجارة ثمينة تضمها مجموعته الخاصة، في قشرة السلحفاة ضمن ترتيب فني بديع. وهو في كل مرة يتأمل عمله الفني يبدو معجباً به أكثر وأكثر وتواقاً إلى أن يضاعف من عدد الجواهر المزروعة. وفي النهاية حين يشعر أن قشرة السلحفاة صارت عملاً فنياً نادراً يحس بالرضى التام عن نفسه، ولكن في تلك اللحظة بالذات تلفظ السلحفاة أنفاسها تحت ثقل ذلك الكمّ من الجواهر الثمينة التي زُرعت فيها. في الحقيقة أن في وسع القارئ أن يستنتج ما يشاء من رمزية هذا المشهد الذي يكاد يكون الوحيد الذي يحمل حركة ما، أو فعلاً معيناً في الرواية، لكن الكاتب كان يقول دائماً حين يُسأل عن مغزاه، أنه أراد منه أن يكون حدثاً قائماً في حد ذاته من دون أن يحمل أية رسالة.
> مهما يكن من أمر، كان كاتب هذه الرواية، الفرنسي من أصل فلامندي، جوريس-كارل هويسمان، معروفاً بعدم اهتمامه بـ «الرسائل» أو «المواعظ» في رواياته. ومع هذا، ما إن اشتهرت هذه الرواية وباتت من أشهر أعمال الكاتب، حتى بدأ النقاد ينزعون عنها صفة رواية ليتعاملوا معها تعاملهم مع «بيان فكري» يحمل دفاعاً عن «ثقافة انحطاطية» تمثل اللافعل في الحياة. والحقيقة أن «بطل» الرواية، لم يكن على الإطلاق، بطلاً من النوع المعهود وإنما كان بطلاً- مضاداً من النوع الذي سوف نلتقيه في آداب القرن العشرين بوفرة في أعمال كافكا وكامو وغيرهما. وجان دي إسينت هذا نجده في الرواية/ البيان، وبعد أن عاش حياة مترفة ومرحة، يقرر أن الوقت قد حان له لينزوي في دارة كبيرة وأنيقة يملكها في ضاحية فونتناي- أُو- روز، حيث يعيش في عزلة جامعاً من حوله كل ما يمكنه أن يفضّله من كتب وأعمال فنية، بل حتى من نباتات وحيوانات صغيرة أليفة كي ينصرف إلى دراسة تستغرقه أكبر عدد ممكن من سنوات حياته. بيد أن جان لا يتوخى تحقيق أي شيء من تلك الدراسة: مجرد العلم للعلم والفكر للفكر والفن للفن. أما الشيء الوحيد الذي سيقوم هو به بالفعل، فسيكون عبارة عن ابتكار عطور جديدة، إنما انطلاقاً من نباتات تنمو في حديقته معظمها سام يقوم بنفسه بالعناية بها وعصرها وتقطيرها وما إلى ذلك.
> والحقيقة أن اللافت أكثر من أي شيء آخر في هذا النصّ هو ما فيه من تصنيفات وتفضيلات أدبية وفنية تكاد في حد ذاتها تشكل كاتالوغاً «مضاداً» للحياة الأدبية الفرنسية في زمن هويسمان، حيث أن بطله يعلن بوضوح تفضيله الآداب القديمة على الحديثة. أما المفضلون لديها من القريبين منه زمنياً فهم فرلين وبودلير وكوربيير ومالارميه، ناهيك بفلوبير وآلان-بو… ما برر لاحقاً اعتبار الكتاب بياناً وليس رواية حتى وإن اتّخذ طابع الرواية… أما بالنسبة إلى «البطل» فإنه سيضجر في النهاية من تلك الحياة المختارة و… يعود إلى باريس!
> في واحد من فصول رواية «صورة دوريان غراي» يحدثنا المؤلف أوسكار وايلد عن «كتاب أصفر» يقدمه اللورد هنري دوتون إلى دوريان، ويرينا كيف يلعب هذا الكتاب دوراً في تطور يطرأ على بطل الرواية. وهذا الكتاب ليس في الحقيقة سوى هذا الكتاب الذي نتحدث عنه هنا. وفي ذلك الحين كان مؤلفه، المنسيّ إلى حد كبير في أيامنا هذه، ذا شهرة واسعة نتجت من كونه واحداً من أبرز الكتّاب الذين آمنوا، في مرحلة من مراحل عملهم بالبعد الجمالي وحده باعتباره البعد الجدير بأن يعبر العمل الفني عنه. ومن المؤكد أن هذا الجانب هو الذي أثار اهتمام وايلد الذي كان في ذلك الحين من أخلص أتباع مبدأ الفن للفن، ضد مبدأ الفن للحياة الذي كان أبرز كتاب المرحلة يرتأونه.
> إذن لم يكن «الكتاب الأصفر» في «صورة دوريان غراي» في الحقيقة سوى رواية «عكس السير» لجوريس-كارل هويسمان، الذي توفي عام 1907 فحزنت الأوساط الأدبية الفرنسية كلها لرحيله، قبل أن يبدأ النسيان يطويه خلال السنوات التالية. وهويسمان كان، على أي حال، ابناً حقيقياً لعصره ولتقلبات ذلك العصر. فهو الذي بدأ كتابته متوجهاً صوب نزعة «طبيعية» تقرّبه من إميل زولا، سرعان ما راح يتجه مع «عكس السير» صوب نزعة جمالية خالصة ليصبح من أشرس أعداء النزعة الطبيعية إثر ذلك. وكان ذلك التقلّب مرآة صادقة للتقلب الذي عرفته «الموضات» الأدبية في فرنسا، بلده، في ذلك الحين.
> ولد هويسمان في باريس في 1848 ابناً لوالد متحدر من أسرة من الفنانين الفلاماند. في بداياته درس الحقوق، ثم ما لبث أن ترك الجامعة ليلتحق كموظف في وزارة الداخلية. وهو بعد تجربته في الجندية ترك العمل العسكري وجال في الشمال الأوروبي ليعود من هناك وينشر في 1874 مجموعة شعرية أولى أتبعها بأول رواية كتبها بعنوان «مارث، حكاية فتاة». وإذ كانت نزعة الرواية طبيعية لفتت نظر زولا الذي ضمّ هويسمان إلى جماعته، فانغمس هذا الأخير في حياة الجماعة إلى درجة أنه ساهم بقصة قصيرة، إلى جانب موباسان وآخرين، في مجموعة «عشيات ميدان» التي كانت أشبه ببيان يعلن عن وجود تلك الجماعة الأدبية. غير أن هويسمان سرعان ما راح يبدو في كتاباته التالية منحرفاً عن روح الجماعة الطبيعية. صحيح أنه صوّر البؤس وتفاصيل الحياة الصغيرة مثلهم، وصوّر العلاقات الاجتماعية على شاكلتهم، لكن ذلك كان سرعان ما يتخذ لديه دلالة على عبثية الوجود وانغلاق الآفاق، وهو أمر كان يتناقض تماماً مع إقبال «الطبيعيين» على العيش ورغبتهم في تصوير البؤس من أجل إبدال مصيره. وهكذا راحت الصراعات تنمو بين الجانبين، حتى كانت القطيعة النهائية في عام 1884 حين نشر هويسمان كتابه الأشهر «عكس السير»، الذي نجد فيه بطل الرواية دي إستنت منهاراً يائساً عاجزاً عن العثور على أي وسيلة للخروج من مأزق العيش، باستثناء الانهيار العصبي والنفساني والبحث عن خيالات ميتة. وهكذا اعتبرت تلك الرواية بداية ما لتيار الرمزية الذي كان يحاول، تحت حمى موريس باريس، أن ينهض على أنقاض الطبيعية.
> مهما يكن، فإن تلك الفترة بالذات كانت الفترة التي شهدت بداية اهتمام هويسمان بالظواهر اللاطبيعية وبشتى ضروب التنجيم والسحر والشعوذة. حيث لا نراه فقط يعبر عن كل ذلك في كتاباته التالية، بل نراه أيضاً زبوناً مخلصاً لشتى أنواع السحرة والمنجمين. لقد بدا هويسمان في ذلك الحين وكأنه اكتشف عالماً لا يريد أن يتركه يفلت من بين يديه. وهو عبر عن ذلك في كتابه «هناك» (1891). والأغرب من هذا أن الكاتب الذي بدأ عقلانياً سرعان ما أضحى، تحت تأثير قسّ غريب الأطوار تعرف إليه، فريسة لكل أصناف المخاوف، حيث راح يمضي أيامه وهو يعبر عن خوفه من أخطار وتهديدات تتربص به. ولقد قاده ذلك كله إلى الغوص في المسيحية الكاثوليكية (هو الذي كان من أصول بروتستانتية) حيث نراه يعلن اعتناقه الكاثوليكية في 1896 ما أثار الدوائر الأدبية الباريسية في ذلك الحين.
> ولم يكتف هويسمان بذلك بل توجه ليعيش عيش النساك بالقرب من دير «ليغوجي»، لكنه سرعان ما عاد إلى باريس والتجأ إلى دير الرهبان البندكتيين وراح يكتب أعمالاً يطغى عليها الطابع الديني ولكن من دون أن تتنازل، قيد أنملة، عن التعبيرات الجمالية التي كانت رافقت كتابته منذ بداياته. وهكذا، لئن كان اهتمامه السابق بالفن قد دفعه لاكتشاف رسامين كانوا حينها شبه مجهولين مثل سيزان وديغا وسورا وبيسارو، فإنه ظل على تعبده للفن الآخر، ولكن من خلال نصوص رائعة كتبها عن أهم الكاتدرائيات، وفي مقدمها كاتدرائية شارتر.
> توفي هويسمان عام 1907، في زمن كانت الحياة الأدبية والفنية قد تخطته. وهو اليوم يبدو شبه منسي إلا من غلاة الأكاديميين مع أنه في زمنه كان لحظة صادقة من لحظات الأدب الفرنسي على حصان بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
نقلا عن الحياة