17 نوفمبر، 2024 7:40 م
Search
Close this search box.

حفريات الذاكرة في تراجيديا مدينة السماوة

حفريات الذاكرة في تراجيديا مدينة السماوة

حين انتهى بروايته الاولى افراس الاعوام ، وهو يسرد تاريخ مدينته السماوة ومنها يشير الى كل العراق . بسقوط الملكية وبدء الحكم الجمهوري , اخذ يسرد الوقائع والاحداث والمتغيرات السياسية والصراعات الايديولوجية بين الاحزاب التي اخذت تتمدد وتنمو على الساحة السياسية, وانتماء جمهور واسع على امل التغيير والنمو في الواقع الذي اخذ يتبدل بعد الحكم او النظام السياسي الجديد .

زيد الشهيد الاديب المبدع والروائي العراقي المميزة بأسلوبه الجميل وعباراته القصيرة التي غالبا ما تقترب من الحكمة التي يطلقها من افواه ابطال رواياته وقصصه القصيرة , اخذنا بسرده الجديد ((تراجيديا مدينة)) ــ الصادرة من المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــ الى نهايات عقد الخمسينات والعقد الاخر من تاريخ مدينته التي تصارع قيم البداوة وتقاليد الريف واستبداد العشيرة وتطلع اهل المدينة نحو التغيير والمعرفة وقبر تقاليد كانت ولما تزل تشكل عائقاً للنمو والنهوض .

وقد اتخذ من المنهج الواقعي طريقاً في رسم الواقع , بعين كاميرا ناصر الجبلاوي التي حفظت الذاكرة وجسدتها لاول مرة بصور ماثلة على جدران العديد من بيوت اهل السماوة . تلك الكاميرا التي وجد فيها الشهيد رمزاً لبدء دخول التكنولوجيا لهذه المدينة الجنوبية التي يغلب على حياتها ويومياتها بنهاراتها ولياليها الرتابة والسأم والتشابه الذي يثير البؤس والخمول . غير ان عقد الستينات وبفعل الصراع الايدلوجي والازاحة السياسية بين الاحزاب والقتل والاعتقالات والانتقام … اذ بدأ بعد انقلاب 8 شباط عام 1963 ((جاء الانتقام اشد عنفاً على اعقاب حقد تنامى يوماً فيوماً , وشهراً فأشهراً .. السماوة كما ظهرت في الفليم شكلت نموذجاً لصراع وانتقام .. خوف , ورعب, وتعذيب , وصراع ، وانين , وتشف .. كره وضغينة .. مداهمات واعتقالات .. توجس من طارئ , وهلع من وشاية . دوريات منفلته في الشوارع وعيون عدائية تخترق الازقة تطالع ما ينم عن ريبة تستحق وضع اليد على من ترتاب منه العين .. ذئاب تكشر وفرائس ترتعد . من السقوف حبال تتدلى , ودماء تقطر صانعة بركاً على الارض ..))

ذلكم المشهد وتلك الوقائع يتذكرها الكثير من ابناء السماوة فهي حاضره في الذاكرة الجمعية تنهض بين الحين والاخر ولا تختلف عن جمر السنوات اللاحقة ومعاناتها والصراع السياسي الذي يلاحق الجميع كلما استأثر أحد الاحزاب بالسلطة .

كاميرا الجبلاوي ارادها الكاتب الشهيد رمزاً للواقع وتجسيد دقيق للاحداث التي حصلت بعيداً عن المبالغات والخيالات التي ترسمها الكلمات التي يبوح بها الكاتب . الصور التي تنتجها الكاميرا هي الشاهد الحقيقي الصادق الذي لايمكن تكذيبه او اختصاره .. غير ان الكاميرا لم تلتقط دقائق الاشياء بسبب الصدمة المروعة التي اصابت حاملها حين سمع صراخاً وطرقاً

على ابواب قطار الموت بعد توقفه في محطة السماوة لنقل السجناء الى نقرة السلمان.. ذلك القطار الذي ارادت منه السلطات البعثية فرناً وقبراً للشيوعيين ((فات العدسة تصوير المشهد الدرامي لقفز اولئك الاشخاص الى الرصيف والارتماء على ارضيته الاسمنتية ليتنفسوا هواء عز عليهم في عربات الجحيم .. العدسة فقط استطاعت تصوير اشخاص متناثرين على الرصيف ,ممددين وقد فغروا الافواه عطشاً بينما اسرع عمال المحطة ومن لديه طاقة متبقية من السجناء الى حنفيات الماء المنصوبة على الرصيف …

ويستمر في الجزء الثالث من الفليم الذي صور مرحلة الحرس القومي اذ يدخل الجبلاوي السوق المسقف ملاحقاً عناصر الحرس القومي بالبدلات الكاكية ورشاشات بور سعيد يدور في الشوارع , مصيوي , باتا , الرشيد , الجسر .. يلج الازمة او العكود .. الجامع ,الدخل, العراية , السبوسه , اليهود , المعمل , الداحرة , النجارين .. هذه الاسماء التي اندثر قسم منها الا في ذاكرة كبار السن ظلت لتحفظ اسماء اخرى, وتحفظها رواية تراجيديا مدينة من الاندثار .. اسماء اقترنت بوقائع واشخاص ساكنيها , وتكشف عن بيئة مدينة وتاريخها الذي لم يكتب قبل كتاب (من ذكرياتي ) لعبد العزيز القصاب الذي استلم مهام قائمقام قضاء السماوة عام 1909 .

فضلاً عن بناء اول جسر معلق في المنطقة الجنوبية افتتح عام 1958 .. ذلك الجسر الذي مسحت اجزاء منه بالحناء تبركاً وظل شاخصاً في ذاكرة اهالي السماوة قبل تدميره بـ 21 صاروخاً ابان الحرب عام 1991 . ويتخذ كصورة للغلاف الاول من تراجيديا مدينة .

في الفصل الثاني ( السينما سحر الصورة وتأجيج المخيلة ) اذ يقتحم عالم الخيال والحركة ونقل قيم اخرى لا تلتقي مع قيم وتقاليد مجتمع اتسم بالرتابة والسكون والتخلف والابتعاد عن عوالم ثانية حقق فيها الابداع الانساني واحات جديدة من الراحة والسعادة والتغيير والتحفيز نحو ضفاف الجمال ذلك التاريخ في عام 1948 الذي دخلت فيه السينما الى السماوة … بناية ضخمة مقارنة بالبنايات الموجودة في المدينة قسمت الى قسمين شتوي وصيفي ((حضور السينما الى السماوة جسد الانتقال من ضفة رتابة تكدس جهلاً كاتماً , وعتمة تكاد لا تنتهي الى ضفة نور وهاج يضئ درباً يمنح بهجة بلا حدود , ويهب متعة بلا قيود نور يهبك صولجان السير في طريق الشعور بأن الاحلام لا تقتصر على المسافة القريبة من رموشك بل الدنيا البعيدة عن تصورك )) (ص112)

تلك الافلام والحكايات والقصص التي جسدها ممثلون انعكس ادائهم على اشخاص تقمصوا شخصياتهم واغرق زيد الشهيد في رسم شخصياتهم ومنحهم حضوراً كبيراً يوضح فيه الاختلال النفسي والعقلي لعديد الشخصيات في المجتمع والبيئة السماوية التي هي جزء من بيئة عراقية لا تختلف في مدنها من الشمال الى الجنوب .

تلك البيئة التي اثرت على الانسان العراقي . فالثابت أن الانسان بن بيئته . مما ادى الى أن يتأثر هؤلاء بسلوكيات وبيئات لا تشبه بيئتهم مما انعكس على تصرفاتهم من شخصيات مجيد ونجم وطرزان الخزاعل وغيرهم .. وهؤلاء نماذج لاخرين ظلوا يعيشون صراعاً نفسياً وعقلياً في مجتمع يعاني من الكبت والجهل والامراض … غير ان اثر السينما لم يكن اجتماعاً فحسب

بل كان محركاً ومخفراً للوعي الذي اخذ يدب في العقلية الراكدة والمشاعر الوطنية الكابية , وقد تجسد ذلك حين عرض فيلمي يسقط الاستعمار وبور سعيد .. المدينة الباسلة (( السماوة يا حبيب بحاجة الى هكذا افلام .. السينما في المدينة فتحت افاقاً لوعي جديد . وعي مقرون برغبة تحول نحو شواطئ الحضارة . شباب المدينة صاروا من خلال السينما يدركون ان الحياة تطلع الى مرافئ الضوء لا البقاء في بحار الخمول والضجر دعني هذه المرة آخذ معي خمسة افلام وليست اربعة كوجبة شهرية )) .. هكذا ختم عبد الستار الامامي مالك السينما مع حبيب المجهز الرئيس للأفلام في بغداد . وبذلك فأن السينما دخلت كوسيلة اتصال مهمة بالإضافة الى الصحافة والاذاعة في توعية الجماهير وتحركها باتجاه تغيير النظام الملكي , مع وجود الاحزاب التي تعمل على كسب الجماهير واستثمار مشاعرها الوطنية التي تحولت الى تظاهرات وهتافات تدعو الى سقوط الحكومة وتغيير شكل النظام والسعي الى رفع المستوى الاقتصادي والمعرفي في المجتمع ..((لا يدري أن اندفاع رواد السينما الى الخارج ودخولهم السوق اربك الحكومة المحلية.. لا يدري ان الشرطة هبوا بهراواتهم ورجال الامن على قلتهم بدؤوا يواجهون المتظاهرين الذين اجتازوا تلك اللحظة فندق الصحراء ومجارش الحبوب , متوجهين الى السوق المسقف , سعياً للوصول الى مركز القائمقامية لاعلان احتجاجهم على استعمار يتخفى وراء مملكة تجاهر بالوطنية والاستقلال , طالبين التحرر من هيمنته ورافضين حكومات يحسبونها ذليلة)) ص156 بيد ان السينما اليوم لا اثر لها في السماوة اذ تحول المكان القديم لها الى دكاكين لبيع شتى المواد فيما اغلقت السينما التي شيدتها الدولة في مطلع الثمانينات وبعد أن تراجع روادها وطبيعة الافلام التي تعرضها وكانت جميعها افلام قديمة ورديئة بفعل المتغيرات التي حصلت في البلد جراء الحروب والحصار ومن ثم تغيير النظام السياسي الذي يرفض المسؤولون عنه السينما واهملها بالرغم من دورها التثقيفي في العالم المتحضر ما زال فاعلاً ومؤثراُ في المجتمع .

ان الوعي السياسي الذي أخذ ينتشر لم يحصل بين الرجال فحسب بل النساء أيضاً , وقد برزت السيدة أم موسى بنت المؤمن رمزاً بادخاً في النضال والنشاط المميز بين النسوة في مدينة تعيش تحت وطأة تقاليد وقيم صلدة ليس يسراً على المرء اختراقها (( تمر المرأة عندنا فتحمل معها تاريخاً من المرارات وصوراً لو أطلع عليها منصف صريح لطأطأ رأسه وبكى !)).((والمرأة تبصم تطلعاتها على رقيم يبغي تأرخة صراعها من اجل تكريس قيمها كمخلوقة تضاهي الرجل)) ص177 .

ان المتغيرات التي ظهرت في بنية المجتمع أفضت الى المتغيرات السياسية وسقوط النظام الملكي الذي استمر خمسة وثلاثين عاماً ونيف . ليبدأ عهد سياسي جديد و حكم الجمهوري , تخللته الديمقراطية .

((بيد أن الديمقراطية طعنت بخناجر التنافس الايدلوجي والسلام خطا عليلاً يتعثر بمطبات غيظ المتنافسين , ويصاب بدوار النزوح البدوي المتأجج برائحة الثأر المتوارث)) .ص193

ان هذا الوصف والتفسير وعلى الرغم من مرور نصف قرن على اول تغيير سياسي للنظام ما زال سائداً بل اشتد اكثر مع الشحن الطائفي والصراع الحزبي والاثني والقومي , الذي انعكس على عدم نمو وازدهار البلد. واذا كان ثمة وئام بين مكونات المجتمع وأديانه يتجسد

من خلال شخصية يوسف ــ الذي أختل عقلياً نتيجة التعذيب في مركز الشرطة ــ وعلاقته مع شمران المسيحية المثقفة تلك العلاقة التي اتخذت من الكتاب وسيلة للتقارب والحب , الذي اغتيل بالسلوك الشرطوي الذي استخدم ضد يوسف لاسباب سياسية ومن ثم جناية لم يرتكبها ..مما تسبب نتيجة مظلوميتة بموت وجنون كل الذين كانوا وراء جنونه وسرقة عقله .

فقد انتهت حياة المفوض رشاش جاسب بالموت وشتيوي الياور بالغرق وشراد هديب بمرض سرطان الدم ومن ثم الموت لهؤلاء الذين قتلوا سلطان شاهر من اجل المال واتهموا ولده يوسف بقتله . وشخصيات اخرى مثل مجيد الذي انتهى الى الجنون وضاع الاسم الحقيقي لطرزان الخزاعل .وقمعت السلطات والتقاليد والقيم البدوية القاسية تطلعات السيدة صفية بنت المؤمن في تحرير المرأة من سطوة المجتمع الذكوري . ووفاة لفتة جواد بحادث سير على طريق الناصرية وموت نجم بسبب مرض حار الاطباء به .

شخصيات سلبية لم تتحقق امالها واحلامها وطموحاتها , شخصيات , مريضة مصابة بأمراض اجتماعية ما زالت تلتصق بواقع راكد .. شخصيات لم تزل تعيش بيننا بأشكال وأسماء متعددة أصابها الاحباط والركض نحو الغد الذي يشبه الامس . لان النفوس والعقول لم تتغير .. وثمة تشابه بين الجميع في التصرف والسلوك سواء كانوا حكاماً أو رعية .

أحدث المقالات