تكملة الفصل الاول
*اداء الامانة
واداء الامانة يعتبرها ابن تيمية يجب أن توجد بالرئيس ، وهي الاساس في ديمومة ملكه ، وشرط مهم من شروط توليه هذا المنصب الحساس الذي هو اعلى سلطة ، واذا لم يؤد او يراع ذلك فهو ليس اهلاً لذلك .
ويضرب لنا مثلا في الخليفة عمر بن عبد العزيز ، اذ يقول :أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين أقفرت أفواه بنيك من هذا المال ، وتركتهم فقراء لا شيء لهم وكان في مرض موته ، فقال: أدخلوهم علي ، فأدخلوهم ، بضعة عشر ذكرا، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه ، ثم قال: يا بني ، والله ما منعتكم حقا هو لكم ، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم ، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح ، فالله يتولى الصالحين ، وإما غير صالح ، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله ، قوموا عني.
قال راوي الحكاية هذه بحسب ابن تيمية : فلقد رأيت ولده – اي ولد عمر بن عبد العزبز ، حمل على مائة فرس في سبيل الله ، يعني أعطاها لمن يغزو عليها.
وعمر بن عبد العزيز يعتبره المؤرخون من ازهد واورع خلفاء بني امية ، ويصفونه بالعالم والزاهد والتقي ، ولعل الشيعة اول خليقة تترحم عليه وتمدحه حينما يأتي ذكره ، بسبب رفع سباب علي بن ابي طالب ثمانون عاما على المنابر والخطب ، وهي سنة سنوها بنو امية نكاية بالشيعة .
يقول صاحب الفخري ((وكان عمر بن عبد العزيز من خيار الخلفاء عالماً زاهداً عابداً تقياً ورعاً ، سار سيرةً مرضيةً ومضى حميداً. هو الذي قطع السب عن أمير المؤمنين ، صلوات الله عليه وسلامه ، وكان بنو أمية يسبونه على المنابر. قال عمر بن عبد العزيز: كان أبي عبد العزيز بن مروان يمر في خطبته يهذها هذاً ، حتى إذا وصل إلى ذكر أمير المؤمنين علي ، عليه السلام، تتعتع. قال فقلت له ذلك فقال: يا بني أدركت هذا مني؟ قلت: نعم . قال: يا بني اعلم أن العوام لو عرفوا من علي بن أبي طالب ما نعرفه نحن لتفرقوا عنا إلىولده. فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة قطع السب وجعل مكانه قوله تعالى: ً إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرونً )).(ابن طباطبا ، الفخري ، ص129، دار صادر) .
وفي مروج الذهب: ((وكان عمر في نهاية النسك والتواضع، فصرف عُمَّال مَنْ كان قبله من بني أمية، واستعمل أصْلَحَ من قدر عليه، فسلك عُمَّاله طريقته ، وترك لَعن علي عليه السلام على المنابر، وجعل مكانه ربنا اغفر لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإِيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك غفور رحيم وقيل: بل جعل مكانه ذلك ” إن اللّه يأمر بالعدل والإِحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي ” الآية، وقيل: بل جعلهما جميعاً، فاستعمل الناس ذلك في الخطبة إلى هذه الغاية)). (المسعودي ، مروج الذهب ج3ص184-184 طبع دار الاندلس بيروت الطبعة الرابعة 1981 تحقيق يوسف اسعد داغر) .
وقد مدحه الشريف المرتضى بأبيات ، والمرتضى هذا يُعد من اكبر علماء الشيعة ومجتهديهم ، يقول :
يا ابن عبد العزيز لو بكت العين … فتى من أميّة لبكيتك
أنت أنقذتنا من السبّ والشّتم … فلو أمكن الجزاء جزيتك
غير أني أقول: إنك قد طبت … وإن لم يطب ولم يزك بيتك
دير سمعان لا عدتك الغوادي … خير ميت من آل مروان ميتك
قال ابن تيمية : هذا وقد كان عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين ، من أقصى المشرق ، بلاد الترك ، إلى أقصى المغرب ، بلاد الأندلس وغيرها ، ومن جزائر قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها ، إلى أقصى اليمن وإنما أخذ كل واحد من أولاده ، من تركته شيئا يسيرا، يقال: أقل من عشرين درهما – قال وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه ، فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار، ولقد رأيت بعضهم ، يتكفف الناس – أي يسألهم بكفه – .
ويعتبر ابن تيمية أن في هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله ، ما فيه عبرة لكل ذي لب.
ويؤكد ابن تيمية أن سنة رسول الله دلت على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع ، مثل ما تقدم ، ومثل قوله لأبي ذر الغفاري في الإمارة: ((إنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها)) .
ويروي أن النبي قال: (إذا ضيعت الأمانة، انتظر الساعة). ويدع ابن تيمية أجماع المسلمون على معنى هذا ، فإن وصي اليتيم ، وناظر الوقف ، ووكيل الرجل في ماله ، عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح .
ودليله على هذا قول الآية: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} الانعام :153 .
ويعقب على الآية بالقول ولم يقل إلا بالتي هي حسنة وذلك لأن الوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم .
ودليل آخر يستند عليه وهو قول ينسبه الى النبي: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) فيشير ابن تيمية الى أن الإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ، وهي مسئولة عن رعيتها ، والولد راع في مال أبيه ، وهو مسؤول عن رعيته ، والعبد راع في مال سيده ، وهو مسئول عن رعيته ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .
وقول آخر ايضا للنبي وهو : (ما من راع يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لها، إلا حرم الله عليه رائحة الجنة).
ويذكر لنا ابن تيمية محاورة جرت بين معاوية وابي مسلم الخولاني فيها مدح واطراء على أنه كان يتصف بالحكمة والعدالة وأنه اهلا للامارة.
اذ يقول : ودخل أبو مسلم الخولاني ، على معاوية بن أبي سفيان ، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل السلام عليك: أيها الأمير، فقال السلام أيها الأجير فقالوا: قل أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا قل الأمير فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها ، فإن أنت هنأت جرباها ، وداويت مرضاها ، وحبست أولاها على أخراها وفاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها ، ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها .
ففي هذا الموقف يصف لنا ابن تيمية بأنه كان على حكمة عالية ، فلم يغضب على الرجل أو يوخه اويوجه له عقوبة ، بل أنه سدد رأيه وافقه على ما قال .فيريد أن يقول أن معاوية كان مثالا واضحا للامير الذي تنطبق عليه كل المواصفات الشرعية . وهذا الرأي يكذبه الواقع التاريخي.
ويعقب ابن تيمية على هذا الموقف الذي دار ما بين الرجلين بقوله : وهذا ظاهر الاعتبار، فإن الخلق عباد الله ، الولاة نواب الله على عباده ، وهم وكلاء العباد على أنفسهم ، بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم معنى الولاية والوكالة ، ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلا، وترك من هو أصلح للتجارة أو المقارب منه، وباع السلعة بثمن ، وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن، فقد خان صاحبه ، لا سيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قربة ، فإن صاحبه يبغضه ويذمه ، أنه قد خان وداهن قريبه أو صديقه.