ترجمة علاء البشبيشي : الضغط الذي تمارسه واشنطن على رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، كيلا يدعو الروس للمشاركة في القتال ضد تنظيم الدولة، قد لا يصمد لفترة طويلة.
صحيحٌ أن القيادة المركزية الأمريكية أكدت أن “العبادي” لم يُوَجِّه الدعوة إلى الروس، وهذا هو الحال بالفعل، لكن هل “العبادي” حقًا هو الذي يُقَرِّر في بغداد؟ وإذا كان كذلك، وهو الأمر المشكوك فيه على أحسن التقديرات، فما هي الديناميكية التي تشكل قراراته النهائية؟
قبل التوغل في استعراض بعض التطورات الهامة التي تحدث الآن في بغداد، فنلقِ نظرة خاطفة على نهاية أسوأ السيناريوهات؛ لمعرفة ما هو على المحك هنا بالضبط.
بعبارة أخرى: ماذا لو دعا العبادي الروس، برغم كل شيء؟
إذا ذهب الروس الى العراق، بينما هم بالفعل في سوريا، فإن هذا:
– سيُمَكِّن التحالف المتصاعد بين روسيا وإيران من السيطرة على المنطقة الممتدة من آسيا الوسطى إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
– وسوف تكون تركيا تحت ضغطٍ من الشرق والجنوب في وقت واحد.
– وقد يؤدي التأثير الاستراتيجي على مسارات الطاقة إلى تغيير خريطة الطاقة العالمية.
– وسوف يتقلص التواجد الأمريكي جنوب وشمال هذه الكتلة الضخمة إلى حدٍ كبير، في ظل تردد الدول المنفردة في تحدي المحور الجديد.
تغير البنية الاستراتيجية للعالم
خلاصة القول: صعود هذا المحور، على مساحات شاسعة من العالم، قد يُغَيِّر، مرة وللأبد، البنية الاستراتيجية العالمية. وإذا انضمّت الصين، قد يتحوَّل الأمر إلى تغيير قواعد اللعبة العالمية نهائيًا.
ربما أولئك الذين يرون “تعقُّلًا” في التيار الجاري داخل إدارة أوباما، أو “إفراطًا” في طريقة عمل إدارة بوش، سيكونون مستعدين في هذه المرحلة لمراجعة تقييماتهم.
الخبر السيئ، هو: أنهم سيكونون حينها متأخرين جدا.
لكن الخبر السار، هو: أن أي عصف ذهني الآن، بينما لم نصل بعد إلى هذه المرحلة، سوف يمنح الإدارة القادمة رؤية أفضل. ونأمل أن يتم فعل شيء حينها.
الحقيقة أننا في خضم هذا التحوُّل الاستراتيجي، الذي لا يزال في طور التكوين، ولم يتمخض عن نتيجة معينة بعد. ولن يتم تجنب السيناريو الأسوأ عن طريق الضغط السياسي على “العبادي”، أو إطلاق تحذيرات مبطنة ومهذبة كتلك التي صدرت من الجنرال “دانفورد”. ذلك أن هذا الطراز من ردود الفعل يستحق اسمه: إنه ببساطة ردّ فعل. وإذا تكشَّف هذا التحول، ستكون الولايات المتحدة في مأزق حقيقي في ربوع غرب آسيا.
صحيحٌ أن قدرة الولايات المتحدة على حماية سياستها الخارجية في تلك المنطقة الحيوية قد ضَعُفَت خلال فترة حكم الإدارة السابقة، ثم دخلت مرحلة عدم الاستجابة خلال السنوات السبع التي أعقبتها، إلا أن التاريخ يخبرنا بأنه في لحظاتٍ من هذا القبيل، يمكن لبعض الخطوات الصغيرة أن تقلل من الأضرار، وتعيد توجيه الأحداث؛ حال القيام بها في اللحظة المناسبة.
لكن لتحديد هذه اللحظات والخطوات، يجب أن يكون هناك عقل جماعي حساس للغاية. وهذا متاح في واشنطن، حسبما أوضحته كافة الجهات الحكومية ذات الصلة، والتي أوصت بالخطوات السابقة في سوريا، خلال عامي 2012 و 2013، في حين اعترض عليها رئيس الجمهورية وحده تقريبا.
أما روسيا فانتقلت إلى سوريا بعد أسابيع قليلة من توقيع الاتفاق النووي مع إيران. وأيًا ما أُعِدَّ سلفا بين الروس والإيرانيين خلال المفاوضات النووية، فقد أدى إلى سلسلةٍ من التحركات المنسقة عقب اختتام المحادثات.
نحن لا نعرف بالطبع ما خططت له البلدين، وكيف استعدا لاستخدام الاتفاق النووي لخلق سياق استراتيجي ملائم لأهدافها، لكننا رأينا خططهما تتجسد في شكل قوات برية روسية في سوريا، ووجود مخابراتي رسمي في العراق.
وكلما فكرنا أكثر حول هذه الخطوات الفعلية، كلما أصبحت الأهداف العامة أكثر وضوحا. ومثلما نستشف مما يجري حاليا في العراق، من المؤكد تقريبًا أن الروس سيذهبون إلى العراق في مرحلةٍ ما من المستقبل القريب. ذلك أن ثمرة العراق ناضجة، ويمكن أن تسقط بداخل سلة الرئيس بوتين في أي وقت.
وثمة رياح قوية في بغداد تسير في اتجاه موسكو. ففي 11 أكتوبر، قال عضو في البرلمان العراقي صراحةً: إن على “العبادي” دعوة الروس إلى العراق دون تأخير. مضيفًا: “الأمريكيون خانونا على مدى السنوات الـ 12 الماضية. ويجب أن تتحمل القوى السياسية اليوم المسؤولية الوطنية والتاريخية، كما يجب علينا أن نستثمر هذه الفرصة التاريخية للشعب العراقي في السماح لروسيا بشن هجمات مباشرة ضد تنظيم الدولة”.
مجرد بداية
منذ ذلك الحين، هبَّت عاصفة ضخمة من التصريحات والعروض الإعلامية والمقالات والخطب الصادرة عن سياسيين يطالبون بدورٍ روسيّ. وهي الحملة التي يستبعد أن تكون عفوية. فيما ينبغي ملاحظة أمرين:
(1) كل من يطالبون بتدخل الروس هم سياسيون ومعلقون شيعة موالون لإيران.
(2) توجيه دعوة عامة للروس عادة ما يقترن بانتقادات لاذعة للولايات المتحدة.
ومن الواضح أن “العبادي” لا يزال يقاوم هذه الموجة الهائلة من الدعوات لجلب الروس. ومقاومته ليست هينة. وثمة فرصة لتنجح محاولات رئيس الوزراء لموازنة هذه الموجة الجديدة من التأييد السياسي لروسيا. فهو يعمل ببساطة على عزل قاسم سليماني- محور نوري المالكي الذي يبدو أنه يقف وراء هذه الموجة المؤيدة وروسيا. ويفعل ذلك من خلال رسم طريق سياسي فرعي.
وتتلخص خطة “العبادي” فيما يلي: العمل على بناء تحالف مع عمار الحكيم، ومقتدى الصدر، والأكراد والسنة للحصول على الأغلبية في البرلمان (ربما 200 مقعدا من أصل 328)، وبالتالي عزل رأس الحربة الإيرانية في بغداد، نوري المالكي، وحلفائه. وهي الخطة التي تسير على ما يرام، خاصة بعد زيارة “العبادي” إلى النجف يوم 7 نوفمبر. صحيح أن “السيستاني” لم يجتمع مع “العبادي” خلال زيارته، للحفاظ على مساحة تحركه كزعيم ديني، إلا أنه لم يجتمع مع “المالكي” كذلك.
بيدَ أنه من الخطأ اعتبار لعبة “العبادي” كافية لعزل من يريدون جلب الروس، والتركيز فقط على تقدم رئيس الوزراء. ومكمن الخطأ أنه يربط هذه المسألة الهامة بشخص “العبادي” فقط، في حين أن قاعدة دعم دعوة الروس تنمو بسرعة كبيرة حوله، وهذا يعني أنه من الخطأ رؤية “العبادي” دون رؤية البيئة العامة المحيطة به. هذه البيئة هي التي ستُمَكِّن رئيس الوزراء من النجاح، أو ستتسبب في فشله. وهذه البيئة تشير أكثر إلى الفشل.
مكمن الخطأ أيضًا أنه لا يتضمن دورًا محتملًا لحادثٍ مفاجئ قد يقع على المسرح العام. على سبيل المثال، هجوم فاشل على الرمادي، أو هجوم كبير ومجزرة يرتكبها تنظيم الدولة ضد قاعدة أمن عراقية. سوف يتم الترويج لورقة “إلقاء اللوم على الأمريكيين” على نطاق نطاق لتخويف جمهور الشيعة، وهو ما سيؤدي إلى فشل مؤكد للعبة “العبادي”، وربما يُنهي حياته السياسية، وبالتأكيد سيجلب الروس إلى بغداد.
كما تمتلك إيران العديد من الأصول في العراق. فبإمكان “سليماني” التلاعب بالأحداث لإيصال الأمور إلى نقطة تبدو فيها جهود “العبادي” المضنية فجأة في غير محلها، ويكون مصيرها الرفض.
فبعد كل شيء، سُلِّمَت الرمادي تقريبا لتنظيم الدولة في مناورة سياسية معقدة. وهي مجزرة يمكن يستغلها العديد من أعضاء قوات الحشد الشعبي الشيعة في الأنبار، أو أي مكان آخر، على سبيل المثال، لإثارة المشاعر إلى حد إجبار “العبادي” بالانحياز إلى صف المالكي، وتمكين السيد قاسم سليماني، الذي يُمَكِّن لـ بوتين، أو ترك رئيس الوزراء بلا أي خيار آخر غير الاستقالة.
لكن كيف تُمنَع أي محاولة لزعزعة “العبادي” أو إحباط خطته؟
العبادي في مواجهة رغبات التوسع
مع امتلاك الولايات المتحدة أصولًا أقل من إيران في العراق، على أمريكا التصعيد في سوريا من أجل تحسين نفوذها في العراق.
وفي حين تبدو ساحتي الحرب منفصلين سياسيا، إلا أنهما في الحقيقة، من وجهة نظر بوتين، ليستا منفصلتين على الإطلاق. إذ تنظر روسيا إلى العراق وسوريا كوحدة كاملة مهمة استراتيجيًا للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي تحويل الجسر التركي إلى شيء عفا عليها الزمن.
وهو الاهتمام ذاته لدى إيران، لكن مع اختلافات بسيطة: ففي سوريا، ستتحدد الأهمية الاستراتيجية النسبية للعراق.
لكن لماذا لا ينبغي أن نرحب بالدور الروسي كما فعل بعض المسؤولين في الإدارة (الأمريكية)؟ فبعد كل شيء، ليست المشاعر المناهضة لروسيا جزءًا من الحمض النووي للغرب في عالم ما بعد الحرب الباردة.
المشكلة هنا لها أبعاد كثيرة. حيث امتطت روسيا الحصان الإيراني لغزو الشرق الأدنى. لكن هذا الحصان في الواقع بريّ، وطائفي، وتوسعيّ، وخطير. لم يكن الحصان المثالي ليركبه السيد بوتين، لكنه كان الوحيد المتاح في العالم الحقيقي.
وبمجرد أن تصبح روسيا، وربما الصين، قادرة على وضع حد للوجود الأمريكي في غرب آسيا، من شبه المؤكد أنها ستحظى برحلة مجانية في بقية دول آسيا، على الأقل، لا سيما أن الدول الأخرى سوف تغير رهاناتها، وتضعها على القوى الجديدة الناشئة. وهو ما يمثل بشكل عام بداية مرحلة جديدة في لعبة الأمم العالمية.
لكن هل ستنضم الصين بالكامل للتحالف الجديد الناشئ بين روسيا وإيران؟
من الخطأ اعتبار أن ظهور تحالفات يتمخض عن الاستراتيجيين والقادة الذين يجتمعون في الغرف المغلقة، ويصوغون علاقة جديدة مختلفة نوعيا. لكن هذا لا يعدو أن يكون تتويجا لعملية. فالتحالف الجديد يظهر في وعي القادة والخبراء الاستراتيجيين حين تظهر ضرورته الموضوعية في الواقع بطريقة واضحة. وبمجرد أن تتضح المزايا للصينيين، سيكون من غير المنطقي بالنسبة لهم ألا يشاركوا وبنشاط.
كم هو مدهش مشاهدة المباراة بين اللاعبين الإقليميين والدوليين. ذلك أن قواعد اللعبة لا توضع من جانب واحد بمعزل عن الآخرين. فالإيرانيون هم من دعوا الروس للتدخل. هذه الدعوة جزء من لعبة أكبر للحد من نفوذ الولايات المتحدة، وهو الهدف المشترك بين إيران وروسيا، ولكلٍ أسبابه الخاصة.
وتواجه الولايات المتحدة موجة ضخمة بالفعل في غرب آسيا. حيث أضعفت واشنطن موقفها في السنوات الـ 15 الماضية، لدرجة أن وجودها هناك قد يكون معرضا للخطر. وفي خضم هذه العاصفة، يولد عالم جديد.. عالمٌ ليس جميلا.
إنها لحظة ينبغي الحفاظ فيها على الموارد والأصول بعناية. صحيح أن هناك أشياء كثيرة لا تروق للولايات المتحدة في العالم العربي، كما أن هناك أشياء كثيرة لا تروق للعرب في السياسات الإقليمية الأمريكية. لكن هذا ليس الوقت المناسب للأيديولوجيات، ولا الرأي العام، أو السياسة.
إنها لحظة للعصف الذهني، والتوصل إلى استراتيجية جماعية للحد من زخم موجة ضخمة قادمة من الشرق لإغراق الشرق الأدنى، وتغيير التوازن الاستراتيجي العالمي. ويجب أن يكون النقاش نشطًا بما يكفي للوصول إلى خيارات واضحة قبل تغيير الحراس هنا في واشنطن.
وعلى العرب إدراك أن ثمة دور حقيقي للرأي العام الدولي في الصورة الشاملة. وأنه حليف مهم. إذا نفَّرته صور المتعصبين الملتحين الملثمين الذين يذبحون البشر، فلن يكون ذا جدوى. فلا بد للجماعة التي تقاتل على الأرض أن تكون لها هوية وطنية وسياسية وليس متطرفة.
أما فوز “العبادي” فليس مضمونًا دون ممارسة ضغوط كبيرة على إيران وروسيا في سوريا وغيرها، ولن يتحقق بدون تجنُّب القوات الأمريكية في العراق بحرصٍ شديدٍ الفخّ الذي قد يعزز شعارات “إلقاء اللوم على الأمريكيين” أو “اختلاق الأمريكيين لـ داعش”، ذات الأغراض السياسية المحددة.
كما أن هناك حاجة إلى تقييم جديد كليا للعراق وسوريا. فيجب أن يُنظر إليهما ككيان واحد، ليس بصيغة تنفيذية، لكن من حيث الاستراتيجية.
لاعبون اقليميون
أمر آخر أخير: من الخطأ الفادح التقليل من الديناميكيات على الأرض، أو داخل اللاعبين الإقليميين؛ لأنها في نهاية المطاف تعمل لصالح هؤلاء الرجال الذين يتوصلون إلى أي خطة جديدة.
على سبيل المثال: التسرع في السيطرة على الرقة خطأ غير متفهم لكنه فادح. صحيحٌ أنه سيوجه ضربة نفسية وتشغيلية هائلة لتنظيم الدولة، لكن كيف؟
استخدام الأكراد للقيام بذلك خطأ كبير. والاعتقاد بأن قيمة الهدف يمكن أن تبرر الآثار السلبية للوسائل هو أمر خاطئ في هذا السياق تحديدًا. إنها ليست حرب الأكراد، بل حرب السنة. وإضافة عنصر صغير من السنة في القوة التي تستعد لمهاجمة الرقة ليست كافية لإقناع السكان الأصليين السنة.
إن اندفاع إدارة أوباما لإضافة السيطرة على عاصمة تنظيم الدولة إلى “إنجازات سياستها الخارجية الكبيرة” يجب أن يقيده الاستراتيجيون العسكريون الذين يدركون حقا تعقيد المعركة. ويجب أن تبقى السياسة بعيدة عن قرارات من هذا القبيل. وما دفع الأكراد في عمق الأراضي السنية إلا زرعًا لبذور مشكلات مستقبلية بين العرب والأكراد، ومعاونًا للتطرف على إعادة الظهور.
صحيحٌ أن الأكراد يجب أن يحصلوا على حقوقهم كاملة، بعدما حُرِموا منها لعقودٍ طويلة دون وجه حق، لكن ينبغي أن يظل دورهم ثانويًا في معركة استعادة الرقة، بينما تُقَدَّم إليهم وسائل تمكنهم من الدفاع عن مناطقهم الخاصة. والقاعدة الذهبية تقول: إن تحقيق انتصارٍ طويل المدى يتطلب أن يُحَرِّر السنة الأرض السنية.
عن “ميدل إيست بريفنك”