23 ديسمبر، 2024 9:05 م

المهندس هو صاحب اختصاص في مجال معين وهو الهندسة، وبغض النظر عن التعريف الدقي للهندسة إلا إنه يعجبني تعريف سمعته من احد أساتذتي في كلية الهندسة جامعة بغداد وهو نسبه إلى نقابة المهندسين في إحدى الدول المتقدمة ومضمونه إن المهندس هو من يستطع أن ينجز عمله كلفته 1 دولار بواحد بنس وبنفس الكفاءة، إذن المهندس وفق هذا التصور يسعى لخدمة المجتمع عبر تقديم الحلول الأفضل بأقل الكلف الممكنة.
هذه المهمة ليست مهمة سهلة، فهي من جانب تتطلب مستوى علمي معين ومهارات معينة، ومن جانب آخر هي محل تحديات ومخاطر على مستويات عدة، لعل البعض سيذهب ذهنه إلى ما يسمى بمخاطر العمل، نعم نحن نقصد ذلك ضمناً، ولكن الأهم من ذلك هو نوع آخر من المخاطر قلما يتم الحديث عنه ألا وهي مخاطر المهندس على العمل وبالتالي على من يتأثر بهذا العمل!
قبل أن اخوض في تفاصيل ذلك بودي أن استحضر كلمة لأحد استاذتي أيضاً في كلية الهندسة حيث كان يقول في معرض تشجيعه لنا أو لبعضنا على الأقل ممن كانت لهم فرصة في الحصول على فرصة قبول في إحدى كليات المجموعة الطبية وحال دون ذلك فارق بسيط في المجموع، يقول: إن المهندس أهم من الطبيب، وقبل أن نسأل قال: أنا أجيبكم كيف؟
لو اخطأ طبيب في عملية أو في تشخيص مرض أو إعطاء علاج سيكون ثمن هذا الخطأ ضحية واحدة في الغالب، ولكن لو أخطأ المهندس في تصميم أو تنفيذ جسر أو بناية أو أي مشروع هندسي فكم ممكن أن يكون عدد الضحايا؟!
قلنا في وقتها ربما آلاف!
عموماً لست في معرض التدقيق في هذه المقارنة ولا تفضيل شخص على شخص أو وظيفة على وظيفة، ولكني أستفيد من هذه المقارنة في بيان مدى خطورة عمل المهندس فيما لو أخطأ فيه-وهنا نتحدث عن الخطأ غير المقصود- وقد اتضح لكم مدى خطورة ذلك، بل إن الخطورة لها جوانب أخرى غير الضحايا المباشرين فهناك الاضرار الاقتصادية وربما البيئية بل قد يصل الأمر لتعطيل مشاريع أخرى.
هذا كله ونحن نتحدث فقط عن الأخطاء غير المقصودة فكيف بالأخطاء المقصودة؟!
ولكن هل يرتكب المهندس أخطاء مقصودة؟
نعم إذا نسي إنه إنسان قبل كل شيء ونسي أهمية وظيفته الإنسانية، هذا محور كلامنا، وهذا الذي نقصده بالمهندس الإنسان بشكل عام.
فالمهندس الإنسان هو الذي يستحضر إنسانيته في عمله ومقاصد ذلك العمل، بل إن إنسانيته لا تغيب عنه أصلاً.
المهندس الإنسان هو الذي يعمل لأجل الإنسان.
المهندس الإنسان هو الذي يبحث عن الابداع لأجل الإنسان.
يقولون إن معرفة شيء قد تتضح أكثر من معرفة ضده، فلعل الأولى أن نتعرف على المهندس اللا إنسان لتتضح لنا صورة المهندس الإنسان بشكل أكبر.
فالمهندس اللا إنسان هو الذي يتعمد الخطأ في كل مراحل عمله أو بعضها ولا يهتم للنتائج المترتبة على ذلك لتحقيق مصالحه الشخصية فقط.
المهندس اللا إنسان هو الذي لا يقدر قيمة عمله وقيمة شهادته ويرخصها أمام أبسط المغريات.
المهندس اللا إنسان-ويجب أن نكون كمهندسين أول من يعترف بذلك- هو الذي سبب بجزء كبير من الخراب في مجال الإعمار والمشاريع في العراق، لا أقول هو فقط من سبب ذلك ولا أقول إنه سبب ذلك اختياراً منه دائماً ولكن هناك من سبب فعلاً وباختياره.
الخراب في الإعمار والمشاريع في العراق ترتبت عليه مشاكل لا حد لها ولا حصر قد تكون الخسائر المالية بدايتها ولن تكون المشاكل السياسية والاجتماعية بل وحتى النفسية نهايتها.
نعم فكلما يقولون كلما كان الدور كبيراً كلما  كانت المخاطر أكبر، فهذه المخاطر هي تبيان واضح للدور الكبير والذي يتطلب كوابح وموانع عن الاستغلال لهذا الدور بما يسبب فشل كبير بدل النجاح المرجو.
الكوابح قد تكون قوانين وضوابط وطرق مراقبة ومحاسبة وهذه كلها مطلوبة- وفيها خلل كبير في العراق حالياً- ولكن هناك كوابح من نوع آخر يمكنها بمستوى من المستويات أن تعالج المشكلة قبل حدوثها أو أن توفر أرضية للوقاية، ونقصد الكوابح الأخلاقية أو بتعبير آخر أخلاق المهنة، أو بتعبير آخر الكود-مجاراة للمصطلح الهندسي- الأخلاقي للعمل الهندسي، جرى الحديث عن هذا الموضوع منذ زمن وهو ليس وليد الوضع العراقي فقط، فقد نودي بالحاجة إلى أخلاقيات مهنة او كود أخلاقي هندسي منذ زمن في الكثير من الدول، وقد أصدرت العديد من الدول والعديد من المؤسسات نسخها الخاصة بها لهذا الكود، فللجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين (ASCE) مثلاً كودها الخاص المكون من 25 صفحة والمسمى (ASCE code of ethics-principles, study, and application)
حيث جاء في مقدمتها كتعريف للكود الأخلاقي ما نصه:
“كود الأخلاقيات هو مجموعة أساسية من القيم والسلوكيات التي تهدف إلى أن تتبناها المستخدمين لكي يكون تصرفهم بمسؤولية  وبشرف ونزاهة وبأسلوب لا عيب فيه. . وعادة ما يستند هذا الكود الأخلاقي على المفاهيم البسيطة التي لها قيمة في المجتمع ككل، والتي تعزز السلوك الجيد  و الثقة وتؤدي إلى احترام بعضهم البعض. ويجب أن يكون الكود الأخلاقي سهل الفهم و ومكتوبة بشكل عام بحيث يمكن تطبيقه على كل حالة “.
وجاء في مقدمتها أيضاً في الإجابة على سؤال ما الحاجة لكود أخلاقي؟ ما مضمونه:
“إنه وثيقة يخدم كمرجع للمبادئ التوجيهية الأخلاقية لإلهام مستخدميه ليكونوا أخلاقيين في عملهم المهني”.
وهناك أمثلة كثيرة أخرى لأكواد مشابهة في الكثير من البلدان الأجنبية وقد ذكرنا الكود السابق كمثال واستشهدنا به، وهناك أكواد عربية أيضاً فهناك “الكود المصري لأخلاقيات ممارسة المهنة الهندسية” المكون من أكثر من 40 صفحة، وهناك الكود السعودي وغيرها.
لم يقتصر الأمر على كتابة الأكواد بل هناك مؤلفات تحدثت عن أخلاقيات المهنة الهندسية منها على سبيل المثال كتاب مدخل إلى أخلاقيات مهنة الهندسة، لرونالد شنزنجر ومايك مراتن، وأيضاً صدر كتاب قبل بضعة سنوات في جامعة البصرة بعنوان (قواعد وأخلاقيات ممارسة مهنة الهندسة) للدكتور نبيل عبد الرزاق جاسم التدريسي في نفس الجامعة والذي اعتمدته كلية الهندسة في جامعة البصرة سنة 2013 ككتاب منهجي.
كما إن هناك العديد من المؤتمرات الدولية التي كان محورها أخلاقيات مهنة الهندسة.
عودة إلى عنواننا الرئيسي المهندس الإنسان، نختصر الموضوع ونختم بالإجابة على الأسئلة التالية:
1-هل المهندس الإنسان ضرورة؟
2-كيف يمكن عمل ذلك؟
وبالنسبة لإجابة السؤال الأول فنقول: نعم المهندس الإنسان ضرورة لأن الهندسة فعل إنساني وما لم يتأطر بأطر الإنسانية بعنوانها العام وبتفاصيلها الأخلاقية والاجتماعية فإنه النتائج ستكون سلبية بلا شك، وإشارة إلى أحد تعاريف الهندسة بأنها ” فن تطبيق المعارف النظرية والتجارب في حياتنا لتحسين الأشياء التي نستعملها أو المنشآت التي نعيش فيها”، فإن التحسين لا يتحقق بمجرد امتلاك المعلومة أو الشهادة أو الخبرة أو جميعها فقط وإنما لا بد من توفر نية التحسين وقصده وهذا ما لا يفعله إلا المهندس الإنسان.
ولأن الهندسة ليست مجرد شهادة لها استحقاقات بل إن هناك التزام من المهندس تجاه مجتمعه وهذا الالتزام يتحقق إذا ما تفهم المهندس هذا الدور وعمل بما تقتضيه إنسانيته.
وضرورية ذلك لا تنحصر بما ذكرنا بل إنها أساس لبناء مجتمع صالح ويعمل وفق أسس صحيحة لأن المهندس عنوان بارز في هذا المجتمع والاقتداء به والاحتجاج بأفعاله وسلوكه-خاصة في مجال عمله- أمر وارد جداً، فضلاً عن الآثار الاقتصادية والسياسية والبيئية بل وحتى النفسية، وفضلاً عن أثر تحقق ذلك-ولو بنسب معقولة- في تقوية جانب المهندسين للمطالبة بحقوقهم وتوفير الحماية القانونية لهم من التجاوزات المختلفة.
أما بالنسبة لجواب السؤال الثاني فنقول: فضلاً عن الحاجة لضوابط قانونية ورقابية، فيمكن تحقيق ذلك بالخطوات التالية:
1-تدريس مادة أخلاق المهنة أو كود المهندسين الأخلاقي-بعد إنجاز هذا الكود قطعاً- كمادة أساسية لطلبة الهندسة ليكون منهجاً لهم في العمل، مع ملاحظة ضرورة انسجام مواد الكود مع واقع مجتمعنا واستثمار البعد الديني في مواده والحث على تطبيقه.
2-تبني نقابة المهندسين متابعة الالتزام بهذا الميثاق الأخلاقي على مستوى العمل الفعلي بوسائل مختلفة.
3-مكافئة وتكريم المهندسين الملتزمين بذلك ونبذ المخالفين.
4-بيان منافع الالتزام بذلك للمهندس نفسه خصوصاً وإن الكود لا ينضم علاقة المهندس بالمجتمع ورب العمل فقط بل ينضم العلاقة بين المهندس وزملاءه أيضاً.
وغير ذلك.
وبذلك نكون قد أوجدنا مهندساً اكثر انتاجاً لنفسه ولمجتمعه وأكثر فائدة وأوجدنا قدوة للمجتمع بدل القدوات المزيفة وأوجدنا الأمل لدى الجميع وبالتالي الحوافز للسعي لبناء مجتمع أفضل.