20 ديسمبر، 2024 8:24 م

عراب الإحتلال بين أنصاره ومعارضيه

عراب الإحتلال بين أنصاره ومعارضيه

ليس من المستغرب أن تختلف نظرة العراقيين إلى النائب الراحل أحمد الجلبي، فهناك من جعله يتربع على قمه هرم الوطنية، وهناك من أنزله إلى القاع الأدنى في مستنقع العمالة. وهناك من تشفى في موته نظير الخراب والموت الذي لحق بالعراق جراء الغزو، وهناك من عارض التشفي منطلقا أما من موقف عقائدي لا يجيز التشفى في الموت، بغض النظر عن شخصية الميت، أو من خلال إعتقاده بأن الجلبي خدم العراق وهو من رموز العملية السياسية الحالية، ولا يستحق الإساءة. الغريب في الأمر أن بعض الذين رفضوا التشفي من موت الجلبي كانوا انفسهم قد تشفوا من موت الرئس العراقي السابق صدام حسين، بل أن بعضهم كتبوا مقالات نهوا فيها عن التشفي وفي نفس المقال تشم رائحة التشفي في موت الرئيس صدام حسين، وهذا إنفصام في المواقف ولا يعكس شخصية متزنة للكاتب.

نتفق تماما بأن التشفي بالموت (كظاهرة طبيعية) وليس (كظاهرة شخصية) غير مقبول لأن البشر جميعا معرضون للموت، لكن ميزان الآخرة بين الحسنات والسيئات لا يلغِ ميزان الدنيا من الإيجابيات والسلبيات، بل هو يعتمد أساسا عليها. ومثلما طالب أهل المتوفي تشريحه لمعرفة سبب وفاته، فمن حق الجميع ان يشرحوا شخصيته لمعرفة سبب حبه من قبل البعض ودفاعهم عنه، وكراهيته من قبل البعض الآخر والتشفي في وفاته.

من المؤكد أن الذي قدم تضحيات كبيرة من الأهل والأحبة بسبب الغزو الأمريكي الذي كان عرابه أحمد الجلبي لا ينظر نفس نظرة من جاء على الدبابات الأمريكية وترك أهله يتنعمون في خارج العراق ويعيشون برخاء ودماؤهم محفوظة. الذي فقد ممتلكاته من دار ومحال ومزارع ومعامل وهاجر بسبب الفوضى الأمنية، ليس كمن جاء صفر اليدين وسلب ديارهم وسكنها وتصرف بممتلكاتهم بلا وجه حق. الذي فقد وظيفته بسببب الغزو وقرارات لجنة الإجتثات التي تزعمها الجلبي لا ينظر نفس نظرة من جاء بعد الغزو وتسلم وظيفته أو وظيفة كبيرة تعد بالنسبة له ضرب من الخيال وبراتب كان يحلم به. الذي عمل في دولة العراق عشرات السنين وأفنى زهرة شبابه في خدمتها، وولى هاربا بسبب فوضى الميليشبات بدون حقوق تقاعدية، لا ينظر نفس نظرة من جاء بعد الغزو ليعتبروا له سنوات التكسع في حارات أوربا وامريكا واحياء سوريا وإيران خدمة جهادية ليخدم بضعة سنوات ويحال على التقاعد ويقبض الملايين. الذي دافع عن العراق في الحروب الثلاثة وسقى تراب الوطن من دمه الزكي، لا ينظر نفس نظرة من هرب من الخدمة العسكرية وإلتحق بصفوف الأعداء وحارب الجيش العراقي.

العالم الذي سخر علمه للعراق والرقي به ولاحقته الميليشيات الإيرانية والموساد الصهيوني وتمكن من النجاة بجلده، لا ينظر نفس نظرة الذي زور شهادته وتبوأ منصبا رفيعا في الدولة العراقية. الذي يسكن المنطقة الخضراء ويتنعم بمطاعمها الأوربية الطراز والعيش الرغيد والخدمات الطبية الراقية والسلع الأجنبية والأمان، لا ينظر نفس نظرة من دخلت مياة الأمطار بيته متعانقة مع مياة المجاري وحلت ضيفا ثقيلا عليه في غرفة المعيشة. من يرى أولاده الصغار مرضى وجياع وبلا دواء ولا مدارس ولا أية خدمات، ليس كمثل من أمن صغاره في أوربا ووفر لهم كل إحتياجاتهم من مال العراقيين.

الغنى نقيض الفقر، الصحة نقيض المرض، الشبع نقيض الجوع، الأخلاص نقيض الفساد، والوطنية نقيض العمالة، لذا من يقف بجانب الأوائل من الأوصاف يتعارض مع من يقف مع الثواني من الأوصاف وهذا أمر طبيعي. لذا من هذا الموقف أختلف العراقيون في نظرتهم إلى الجلبي. وسوف نتوقف أمام بعض المحطات في مسيرة الجلبي ونترك الحكم للقاريء الفاضل، فهو الحاكم على هذه الشخصية المثيرة للجدل، وسنحاول جهد أمكاننا أن نتخذ موقف الحياد، ولكن هذا لا يعني إننا سنتجنى على الجلبي لأن الإيجابات قليلة أو معدومة والسلبيات عديدة، نحن لم نصنعها بل نستعرضها فقط. ومرجع الإيجابيات والسلبيات هو الشخص نفسه وليس نحن، فهو يتحمل مسؤوليتها.

1. ينحدر أحمد الجلبي من عائلة غنية ومعروفة في العراق لعبت دورا مما في تأريخه الحديث، سبق ان تولى والده مناصبا مهمة في العهد الملكي، وغادر أحمد الجلبي العراق عام 1958 وكان عمره ثلاثة عشر عاما، وانتهت علاقته بالوطن تماما، فقد درس في الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا في حقول الرياضيات والإقتصاد، ولم يكن له غير نشاطات مصرفية وليس سياسية. لذا يمكن الحكم بأنه بعيد عن العراق وقضاياه طيلة فترة شبابه وما بعدها لغاية التسعينيات من القرن الماضي حيث ظهر صيته، ولم يكن له أي دور وطني خلال تلك الفترة، لذا لا يمكن وصفه برمز وطني حتى بالنسبة لأنصاره، الرجل امريكي الجنسية وزوجته لبنانية الجنسية وابنائه أجانب ولم يعش في العراق لا هو ولا عائلته. أما من يعتبره رمزا وطنيا لكن صحوته الوطنية جاءت متأخرة فهذا شأن آخر.

2. صار الجلبي تحت الأضواء بعد حادثة مصرف البتراء في عمان حيت تولى رئاسة مجلس إدارته للفترة 1982 ـ 1989 مع أفراد من أسرته وأقاربه، وأدين الجلبي من قبل محكمة امن الدولة في الأردن بتأريخ 9/4/1992 بجرائم اختلاس أموال بنك البتراء والإحتيال وسوء الإئتمان ابان توليه رئاسة مجلس الإدارة، وصدر بحقه حكما غيابيا ـ بسبب هروبه من عمان ـ بالاشغال الشاقة لمدة 22 سنة وغرامات مالية حوالي 30 مليون دولار. ومع تولي الجلبي رئاسة مجلس الحكم في العراق وسيطرته على البنوك العراقية وتفريغها من العملات الأجنبية، فأنه رفض دفع الغرامة او المثول أمام المحاكم الأردنية لتبرئة نفسه. بل على العكس أقام دعوى مقابلة في المحاكم الأمريكية مطالبا بتعويضات من بنك البتراء ـ الذي أعلن أفلاسه ـ ولكن المحاكم الامريكية رفضت دعواه. بالطبع ان وفاة الجلبي تُسقط حكم الأشغال الشاقة عليه، ولكنها لا تُسقط حق المستحقات المالية التي بذمته والتي يمكت استيفائها من تركته او الورثة.

3. ظهر الجلبي على المشهد السياسي في التسعينيات من القرن الماضي، كأحد المعارضين لنظام البعث في العراق، وكان من أبرز المعارضين الذي إعتمدت عليها الإدارة الأمريكية، ونال حزبه المؤتمر الوطني العراقي نصيب الأسد عندما أقر الرئيس الأمريكي كلينتون خطة تحرير العراق بإنفاق (90) مليون دولار على المعارضة العراقية. وإستمر في التعاون مع المخابرات المركزية وتسلم ملايين الدولارات المسجلة بأسمه شخصيا وليس حزبه.

4. كان الجلبي بإعتراف الأمريكان عميلا للمخابرات المركزية ويحمل الرقم (708) وقد نشر (موقع ويكيليكس) وثيقة في مطلع العام 2015 تشير إلى نية المخابرات الأمريكية الإستغناء عن خدمات العميل (رقم 708) الجلبي، بإعتباره أصبح خطرا على مصالحها، بعد أن تبين انه يعمل جاسوسا مزدوجا للأمريكان والإيرانيين معا. وفعلا قامت القوات الأمريكية بالإغارة على بيته وصادرت ما فيه من اجهزة حاسوب ووثائق أثبتت إرتباطه بالنظام الإيراني، فإستغنت عن خدماته تماما. كما أصدرت قوات الإحتلال بحقه مذكرة اعتقال مع ابن اخيه سالم الجلبي عندما كانا خارج العراق.

5. يعتبر الجلبي عراب الإحتلال الأمريكي للعراق وهذا لا يحتاج إلى برهان فالوثائق والتصريحات الأمريكية تؤكد هذا الجانب. فقد كان الجلبي من أبرز مروجي الأكاذيب الأمريكية بشأن إمتلاك العراق أسلحة التدميرالشامل، وكان نجم اللقاءات الصحفية والتلفازية الذي تستعين به الإدارة الأمريكية لزرع الوهم في الرأي العام الداخلي والدولي حول خطورة الرئيس العراقي صدام حسين

على الأمن والسلم الدوليين، وقد تبين فيما بعد مصداقية النظام الوطني السابق وإكذوبة أسلحة الدمار الشامل، وأكذوبة علاقة للعراق بالإرهاب الدولي، وبقية الأكاذيب المعروفة للجميع. وقد سئل الجلبي في لقاء تلفزيوني بشأن إدعائه امتلاك العراق أسلحة التدمير الشامل التي مهدت لأحتلاله فأجاب ” ما أهمية ذلك سواء كانت موجودة أو لا! لقد غيرنا النظام اليس كذلك”!

5. خلال عدة مقابلات إدعى الجلبي ” شخصيا، لن أسعى لكي اصبح رئيسا للعراق، ولا ابحث عن المناصب، ومهمتي ستنتهي بتحرير العراق من حكم صدام حسين”. ولكنه بعد ذلك شعل مناصبا رفيعة، ولم تنتهِ مهمته كما ذكر، فقد تسلم رئاسة مجلس الحكم عام 2003 ثم شغل منصب نائب رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري عام 2005، وعام 2007 كان مستشار المالكي للجنة الخدمات، وصار نائبا في مجلس النواب لحد وفاته. حيث شغل منصب رئيس اللجنة المالية النيابية.

6. عين بول بريمر الجلبي عام 2004 رئيسا للهيئة الوطنية لإجتثاث البعث، وكانت هذه الهئية قد أقصت الكثير من الكفاءات العراقية بسبب الإنتماء إلى حزب البعث، فأحدثت شرخا كبيرا في المجتمع العراقي، وكان عملها إنتقائيا، حيث يوجد العديد من الكوادر البعثية التي تشغل مناصبا مهما في الحكومة والبرلمان والجيش مثل علي الشلاه ومظفر العاني والقادة العسكريين. لكن مع هذا لنستمع رأي بريمر بأحمد الجلبي، كما نقلته وداد فرنسيس سكرتيرة بريمر الخاصة” إنه مهندس مشاريع التفرقة وشق الصف”. وتقول كلما واجهت بريمر مشكلة شيعية فأنه يتصل بالجلبي لتوبيخه قبل ان يتصل بأي عضو في مجلس الحكم وكانت الكثير من تلك المشاكل يخلقها الجلبي ويخمدها لغرض عقد صفقات سياسية مع الاميركان. لم يكن بريمر يحبه فقد كان يتلذذ برفض طلب مقابلته بين الحين والحين، وكان كثيرا ما يوبخه علنا ويسميه (المتملق المفضوح).

7. كان الجلبي مدركا تماما إكذوبة أسلحة التدمير الشامل، وقد حث الولايات المتحدة سرا على الغزو من أجل السيطرة على النفط العراقي، فقد ذكر السياسي والمحلل الستراتيجي (دان مورغان) في مقال نشره في صحيفة واشنطن بوس في19/9/2002 ” ان مصادر المعارضة العراقية أكدت بأن إسقاط نظام صدام من شأنه فتح أبواب كنز هائل لشركات النفط الامريكية” وهذا ما أكده الجلبي يقوله” سيكون للشركات الامريكية نصيب كبير من النفط العراقي” (عراق المستقبل/327).

8. حاول الجلبي بعد أن فشله في إنتخابات علم 2005 أن يدخل تحت خيمة مرجعية النجف، فأسس (البيت الشيعي) الذي إنهارت أركانه قبل أن يكمل بنائه. والبيت الشيعي كما هو واضح بيت طائفي لا يمكن أن يُعمر، الغرض منه إستمالة الشيعة، ولو كانت تسميته (البيت العراقي) لكان الكلام إختلف.

9. كان الجلبي قد إستولى على أرشيف جهاز المخابرات العراقية، وتشير المعلومات بأن معظم الأرشيف ـ قسم إيران والدول المجاورة ـ أرسل إلى إيران. أما الملفات التي تشير الى تجنيد المخابرات العراقية لعدد ممن يسمى برموز المعارضة، فقد إحتفط بها وأرسلها إلى لندن لإبتزاز الزعماء السياسيين الحاليين، لذا فقد كانوا يخشونه جدا مخافة فضحهم، ويلاحظ ان الجلبي هو المسؤول الوحيد الذي لم يوجه له إنتقاد أو تهمة فساد من بين بقية المسؤلين، وربما تكشف إبنته تمار قريبا ما بعهدته من وثائق خطيرة قبل وبعد الإحتلال، سيما أن تيقنت أن أباها تعرض إلى محاول إغتيال. من جهة أخرى كان في سرداب جهاز المخابرات الأرشيف اليهودي الذي يضم مخطوطات ووثائق نادرة عن اليهود منها أقدم نسخة للتوراة، إنتقل الأرشيف بأكمله الى الكيان الصهيوني، وأتهم الجلبي بتهريبه، لكنه لم يفند إتهامه.

10. كان ولاء الجلبي لإيران كبيرا، لهذا السبب تخلت الإدارة الأمريكية عنه، وبعد وفاته لم يعلق أي مسؤول امريكي عنه، في حين توالت التعازي الإيرانية بطريقة ملفتة للنظر، قدم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف التعازى وذكر أن الجلبي” كان سياسيا فاعلا وكان العراق احوج ما يكون لخبرته وحنكته السياسية في تسوية الخلافات وتقريب وجهات نظر الاطراف السياسية. كما قدم نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، التعازي وقال” إن الجلبي وبوعيه لمخططات

الاعداء المقيتة، ركّز نضاله السياسي في مسيرة استقلال العراق ووحدته الوطنية” وكذلك بقية المسؤولين الإيرانيين.

11. يرى بعض العراقيين من أنصار العملية السياسية بأن الجلبي كان من أبرز المعارضين الذين أطاحوا بالنظام السابق وهو رمز وطني كبير، وله دور مهم في صياغة العراق الجديد ودعم التوجه الديمقراطي.

السؤال الآن: هل عراق ما بعد الغزو أفضل من عراق ما قبل الغزو؟

قبل الإجابة لابد من أن يأخذ القاريء الفاضل الأسس التالية كمعايير أساسية عند التقيم: الوضع الأمني، السيادة وعدم التدخل في الشأن الداخلي العراقي،والعلاقات الخارجية وهيبة الدولة العراقية في الخارج، الوضع الإقتصادي، الإستقرار السياسي، الجانب الثقافي والإجتماعي والعلاقات العامة، الوضع التربوي، مستوى الفقر والبطالة، مستوى الخدمات الطبية والبلدية ومفردات البطاقة التموينية، حالات الفساد الحكومي كالرشاوي والتزوير والسرقات والجرائم. مكانة العراق في تقارير المنظمات الدولية بكافة القطاعات. الجانب العسكري قوة وتنظيما وإدارة وتسليحا، مستوى الحريات العامة وحقوق الإنسان. يمكن تأشير كل فقره بعلامة، والتعرف على النتيجة النهائية.

صحيح أن أحمد الجلبي ليس هو المسؤول عن كل هذه الفقرات، ولكنه كان من أبرز المعارضين العراقيين، وهو عراب الإحتلال لذا فهو يتحمل جزء غير يسير من المسؤولية. على ضوء النتائج هل يمكن إعتبار الجلبي “ملاك رحيم”، كما يدعي أنصاره، أو “الشيطان بعينه” كما أشار ذكر باتريك كوبيرن المحلل السياسي في صحيفة الإندبندنت بأن أحد الدبلوماسيين الأوربيين أطلق على الجلبي هذا الوصف؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات