23 ديسمبر، 2024 11:00 م

دموع فرح  تختصر مأساة شعب

دموع فرح  تختصر مأساة شعب

تلقّت الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا الكسيفيج نبأ فوزها بجائزة نوبل في الآداب لعام 2015 ، بينما كانت تقوم بعمل بيتي روتيني ، وهي كي الملابس في شقتها الصغيرة المتواضعة ، كما قالت للصحفيين إثر اعلان فوزها بالجائزة .
سفيتلانا – التي تسكن في عمارة ضخمة متعددة الطوابق ، أشبه بمجمع سكني ، يضم مئات الشقق ويقع بالقرب من وسط العاصمة مينسك –  معروفة  بين سكان المجمع بكياستها ولباقتها وحسن تعاملها مع جيرانها ومع الناس جميعاً . صحيح أنها دائمة السفر والتنقل بين العواصم الأوروبية لمتابعة الأصدارات الجديدة لكتبها المترجمة الى العديد من اللغات الأجنبية ، ولكن سكان المجمع كانوا على علم بعودتها الى مينسك ، وقد احتشدوا عند باب الخروج لتحيتها  فور علمهم بالنبأ السار. نزلت سفيتلانا وما أن فتحت الباب حتى سمعت احدى جاراتها تقول لأخرى  : ” هل تعلمين ؟  سفيتلانا حصلت على نوبل مثل بونين “.
فشلت سفيتلانا في ايجاد قاعة ملائمة في المدينة لعقد مؤتمرها الصحفي الأول فور الأعلان عن فوزها بنوبل ، فقد أغلق النظام في وجهها كل المنافذ واضطرت الى عقد مؤتمرها الصحفي الأول بعد اعلان فوزها بالجائزة  في 8 اكتوبر ، في  مقر صحيفة ” ناشا نيفا ” المعارضة ، التي تشغل بناية صغيرة ، لا تتسع سوى لخمسين شخصا ، ولم تكن سفيتلانا تتوقع ان يحضر المؤتمر اكثر من هذا العدد ، في حين ان عدد الأعلاميين المحليين والأجانب الذين تدفقوا على مكان عقد المؤتمر بلغ أكثر من 200 اعلامي.
سيارة تابعة للسفارة السويدية في مينسك أقلّت سفيتلانا  الى مكان انعقاد المؤتمر الصحفي . كان الناس متجمهرين على جانبي الطريق في صفوف طويلة يحملون العلم الوطني وصور سفتلانا وهم يحيونها ودموع الفرح تنهمر من عيونهم حباً بوطنهم وزهواً بمواطنتهم ، التي جعلت من بيلاروسيا المنسية على كل لسان. ذهلت سفتلانا لهذا المشهد الفريد ، مشهد مواطنيها وهم يبكون من الفرح ، ولم تجد له تفسيراً ، سوى ان الشعب البيلاروسي المقهور الذي يعاني من وطأة حكم استبدادي ، ينتهز أي فرصة للتنفيس عن عواطفه المكبوته . ربما كان الترحيب الجماهيري الحار بسفيتلانا ، المعارضة العنيدة لنظام لوكاشينكو تعبيراً عن كراهيتهم وازدرائهم للدكتاتور .
عانت الشعوب التي كانت رازخة تحت الحكم السوفييتي أهوال ومصائب كثيرة . فقد  قتل حوالي عشرون مليونا من سكان البلاد واصيب أكثر من ضعف هذا العدد . بإعاقات دائمة ، خلال الحرب العالمية الثانية . ولا يعرف على وجه الدقة ، عدد الذين قضوا نحبهم في حرب النظام ضد الشعب ، أولئك الذين اعدموا رمياً بالرصاص أو امضوا سنواب طويلة في معتقلات ومنافي سيبيريا الرهيبة ، أو الذين هاجروا الى الخارج ، حيث لم تنشر أية أرقام رسمية عنهم لحد الآن ، رغم مرور حوالي ربع قرن على تفكك الأمبراطورية السوفيتية ، لأن السلطة تعتبرها من أسرار الدولة . صحيح ان جميع شعوب الأمبراطورية المنهارة عانت من ويلات الحروب والقمع والأستبداد  ولكن المصائب التي كابدتها بيلاروسيا الصغيرة المسالمة أفظع وأكثر ايلاماً . فبعد عقد ميثاق مولوتوف ريبنتروب ، في اغسطس 1939 ، احتلت القوات الألمانية والسوفيتية بولونيا في أوائل أيلول من العام ذاته وتم تقسيمها بين العملاقين . وجري اثر ذلك اعادة بيلاروسيا الغربية – التي كانت ملحقة ببولونيا في ذلك الوقت – الى بيلاروسيا . رحب الشعب البيلاروسي بعملية توحيد البلاد ، ولكن لم تمض سوى أيام قليلة حتى قامت السلطة السوفيتية بترحيل ما لا يقل عن 200 ألف من سكان بيلاروسيا الغربية الى مناطق نائية وإبادة حوالي 30 ألف من سكانها . وعندما هاجمت ألمانيا الهتلرية في 22 حزيران 1941، الأتحاد السوفييتي ،  تلقت بيلاروسيا الضربة الأولى وجرى احتلالها بشكل كامل من قبل جحافل الفاشست خلال الأشهر الأولى من الحرب .. وقاوم الشعب البيلاروسي الغزاة بضراوة ، ويكفي أن نقول أن ثلث سكان بيلاروسيا – ومعظمهم  من الرجال – قد قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية ، سواء في جبهات الحرب أو خلال عمليات المقاومة البطولية . وتتذكر سفتلانا طفولتها البائسة في احدى البلدات البيلاروسية ، التي قتل جميع رجالها في الحرب ولم يبقى من سكانها سوى النساء والأطفال .
. وعندما انهارت الأمبراطورية السوفيتية تحررت الجمهوريات التي كانت ملحقة بها قسراً من ربقة موسكو ، ولكن ذلك كان تحررا ظاهريا لأن النظم الدكتاتورية ما زالت قائمة في العديد من تلك الجمهوريات وبضمنها بيلاروسيا التي يحكمها لوكاشينكو بيد من حديد منذ عام 1994 ، وقد أعيد (أنتخابه) قبل أيام للمرة الخامسة .
لوكاشينكو يعاني من عزلة دولية وحصار اقتصادي غربي خانق ويحاول هذه الأيام مغازلة الغرب ، وفعلا قام بمناورة بارعة ، بالأستجاب لطلب الأتحاد الأوروبي واطلاق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين بعد ( فوزه ) بالأنتخابات الأخيرة .  وهي مكرمة يذكرنا بمكرمات صدام . وبالمقابل ألغي الأتحاد الأوروبي القسم الأكبر من العقوبات التي كانت مفروضة على بيلاروسيا ، ومنها حظرسفر عدد كبير من أعمدة النظام الى الخارج ، ولكن رفع الحظر لم يشمل لوكاشينكو شخصياً .
بعد فوز سفيتلانا بجائزة نوبل وجد دكتاتور بيلاروسيا نفسه في ورطة حقيقية . الكاتبة الجريئة تحارب نظام لوكاشينكو بقلمها الجبار منذ سنوات عديدة وقد اضطرت الى مغادرة بيلاروسيا في عام 2000 ولم ترجع اليها ، الا في عام 2011 ، في فترة شهدت محاولات لوكاشينكو للتقرب من الغرب والقيام ببعض الأصلاحات الشكلية ومنها تخفيف القيود على المعارضين . قيل لسفيتلانا : لماذا عدت الى بيلاروسيا؟  أجابت : ” اريد أن أكون مع شعبي في محنته. ” ومنذ عودتها تجاهلها النظام تماماً ، كأنها غير موجودة .فهي ممنوعة من النشر في بلادها رغم أن نتاجاتها الرائعة فكراً وفناً تلقى رواجا منقطع النظير في بقية انحاء العالم . ورغم أنها كانت مرشحة قوية لنيل نوبل طوال السنوات الماضية ، الا أن فوزها أخيرأ وجه ضربة موجعة للوكاشينكو ،  الذي ظل حائراً لعدة ساعات .هل يهنئها بالفوز أم يتجاهلها كالعادة ؟، ولكن بعد أن انهالت مئات البرقيات والرسائل والمكالمات الهاتفية من أنحاء العالم على سفيتلانا  ، بينها برقيات عدد من رؤساء الدول ، أولهم الرئيس الألماني ، وبرقيات أشهر ادباء العصر ، ورسائل قرائها في شتى أنحاء العالم . وبعد ست ساعات على اعلان فوزها بالجائزة ، وجه لوكاشينكو برقية خجولة الى خصمه اللدود صاحبة نوبل يقول فيها : ” ارجو ان تكون هذه الجائزة في مصلحة بيلاروسيا ” .ولا شك انه يقصد بذلك مصلحة النظام .
سفتلانا سخرت من هذه التهنئة الباردة لأنها أتت بعد برقيات زعماء عدد من الدول الأوروبية ، وفي الوقت ذاته قالت أن لوكاشينكو استطاع التغلب على العائق النفسي وهنأها بالفوز رغم أنها ومنذ سنوات عديدة تعد من ألد خصوم النظام .
سفيتلانا حاصلة على أكثر من عشرين جائزة أدبية عالمية ، بينها جوائز المانية وفرنسية وأميركية  اضافة الى جائزة الدولة التقديرية التي منحت لها في فترة البريسترويكا ( 1987 )  ، عن روايتها ، متعددة الأصوات ” للحرب وجه غير أنثوي” التي صدرت في موسكو عام 1985 – بدعم من ميخائيل غورباتشيف – بمليوني نسخة نفدت خلال فترة قصيرة .
سأل صحفي بيلاروسي سفيتلانا : ” كيف ستتصرفين  بمبلغ جائزة نوبل ؟ .
 أجابت: ” لقد اعتدت ان انفق مبلغ اية جائزة احصل عليها لأشتري بها حريتي ، وجائزة نوبل هي حماية لي من نظام لوكاشينكو ” .