لم يكن الوضع الحالي مقبولاً للولايات المتحدة الاميركية بتضائل دورها في المنطقة بين الانسحاب والتذبذب والادارة المباشرة للحروب او العودة الى الادارة عن بعد او اغفال المنطقة الى حد خوف ورهبة الاصدقاء والحلفاء التاريخييين التقليديين، وحتى الصنيعة الاميركية ( اسرائيل ) صارت تعد حساباتها لهذا التبخر الاميركي .
الاشتراك الروسي في الحرب ضد الارهاب بالساحة السورية وتواجده الاستخباري في العراق رسميا بجوار ايران ، احرج الاسلوب الاميركي في معالجة داعش ، باعتبار ان الولايات المتحدة ارادت من داعش وسيلة استثمار سياسي يتيح لها التواجد في المنطقة والتاثير القوي بقرارات الدول لاسيما العراق، وباقل التكاليف المادية، واميركا من جانبها ايضا
ما زالت تحافظ او تراوح في هذا (الاسلوب ) الداعم للوهابية، ولم تتمكن الى الآن من اجراء اي اصلاح سياسي في الجزيرة العربية وخاصة السعودية ، التي اصبحت مثار تندر الراي العام الغربي والاوربي، الا ان المتغيرات الجديدة والبروز الروسي ( العملي ) المباشر قد غيّر بوصلة الخطط التي تسير فيها الولايات المتحدة، وزوايا التحليل الاستراتيجي لها، وكما يصنفه هنري كيسنجر في مقال نشرته صحيفة وول ستريت جورنال في 21 اكتوبر 2015 بعنوان ( المخرج من ازمة انهيار الشرق الاوسط ) قال ( لقد قبلت الولايات المتحدة بالدور العسكري الروسي، ورغم كون هذه الحقيقة مؤلمة لهولاء الذين وضعوا اسس النظام القائم منذ عام 1973، الا ان انتباهنا في الشرق الاوسط يجب ان ينصب على الاساسيات ، فهناك بيننا وبين الروس اهداف مشتركة )” . وفي مطلع مقاله يقول ( مع وجود روسيا في سوريا ومع تعرض هذا الهيكل الجيوسياسي الذي يبلغ من العمر اربعة عقود لخطر الانهيار اصبحت الولايات المتحدة بحاجة الى استراتيجية واولويات جديدة )” . وهنا لا بد من التذكير بان كيسنجر يندب نفسه بالموقعية الجديدة
لاميركا، باعتباره من اهم منظري النظام القائم للولايات المتحدة في الشرق الاوسط منذ عام 1973، فبالوقت الذي اعتبرت نفسها منتصرة في الحرب الباردة وانهت الند الاول واخرجته من معادلة القطبية الثنائية ( روسيا ) وبرزت هي قوة مهيمنة وحيدة في العالم، وهو ما اعطاها زخم التدخل الكبير في بلدان العالم لمتابعة ملفات وقضايا خاصة بها، او انها تمثل مفردات استراتيجية اميركية، كمحاربة الارهاب ونشر الديمقراطية بالعالم لتحجيم وانهاء الديكتاتوريات، وهو ما حصل في حروبها على افغانستان والعراق وقبلها كوسوفو والى حد ما في ليبيا، الا انها عندما جاءت الى الملف السوري ، قد تأخرت في قرارات تحديد اساليب العمل بين دعم المعارضة بشكل كبير ومفتوح او الاكتفاء بدور الاصدقاء ( تركيا ، السعودية ) ودعمه سياسيا فقط، ثم ذهبت الى خيار لم يقنع اصدقائها والمتمثل بتقديم دعمها العسكري الحثيث، والذي ارادته تحت السيطرة الى المعارضة المسلحة، وهي تصرعلى تسميتها معارضة معتدلة وفتحت مراكز تدريب وتاهيل في الاردن وغيرها، وتقديم الاستشارات والمساعدة …. الخ ، ولم يجرؤ اوباما على قرارا مثل الذي اتخذه بوش في العراق واجتاح سوريا، لان تحركها بهذا الملف كان يصطدم بعقبات كبرى ، تمثلت في المصالح الروسية في سوريا وما ينتج عنه من خرق لقواعد الاشتباك الدولي، ودور ومصالح الجمهورية الاسلامية الايرنية وهي تنجز معها اتفاقا تاريخيا بالملف النووي، ومحور المقاومة وتفاصيله في التهديد والوجود الشعبي الدولي، وكذلك هيمنة المتطرفين على المشهد الامني وتعدد الاقطاب الدولية والمحلية السورية في ادارته، وهو يعني عدم القدرة على ضبط شكل النظام الحاكم القادم في حال سقوط نظام الاسد وعدم التكهن بخياراته السياسية، بالاضافة الى قرار اوباما بعدم التدخل العسكري المباشر بالمنطقة على خلفية تجربة احتلال العراق وافغانستان وما تكبده من خسائر مادية وبشرية فيها وبروز تيار مقاوم بحواظن وثقافة شعبية معادي للولايات المتحدة قادر على لجمها في المنطقة، وفي كل هذة المعوقات لا بد من حساب المصالح الاقتصادية والجيوسياسية لاسرائيل والولايات المتحدة الاميركية وبدقة متناهية في حساب القوى المؤثرة فعلياً وجدياً على هذه المصالح بضمنها المتغير الكبير الجديد واعني به فصائل المقاومة والحشد الشعبي في العراق ، الان ومع بداية انتصارات
( الارض ) حيث تتحرك قوى المقاومة المتحالفة والملتفة مع بعضها ، لبنان والعراق وسوريا وبقدر كبير اليمن وفلسطين، وكلها من القدرة الايرانية الكامنة ، ومعه الدعم الجديد في القرار الروسي ونزوله مع اهل (الارض) فان حدود الحرب الناعمة التي ثبتتها وعولت عليها اميركا قد انحسرت وتقوضت نتاجها، وعاد الصوت الى ما قبل المربع الاول، بمعنى ارهاصات مواجهة سبقت الحرب الباردة
وخطاب خورتشوف التاريخي الذي استعرض القدرة الروسية ( بحذائه ) على منبر الامم المتحدة، واميركا حاليا لا تريد التصعيد لهذه المواجهة مع الروس كدولتين نوويتين ثقيلتين بكل معنى الكلمة ، والتصادم يعني بلوغ الدمار نصف الكرة الارضية، واذا كانت الولايات المتحد تتردد في هذا الخيار، لاسيما انها لم تقطع بمواقف واصطفاف دول كبرى مثل ( الصين ) ودول اوروبية ( المانيا ) ودول اقليمية مؤثرة ( مصر ) ولذلك يبدو لها انه خيارا غيرعقلائيا بالوقت الحاضر، اما بالنسبة للروس هو خيار مضطر للدفاع عن النفس، وحفظ وحماية مصالحها الاسترتيجية والاقتصادية والامنية، ومع حاجة الولايات المتحدة الى الوقت الكافي في اعادة الحسابات فانها ستذهب الى كبش فداء من ادواتها وهو مهيأ تماما وأقصد به (داعش) وهذا القربان سوف لن يتقبله ( اهل الارض ) بسهولة باستثناء مقبولية جزئية روسية، بينما الاطراف الاخرى ( ايران وحلفائها ) سوف لن يرضوا بهذه الانصاف من الحلول وهم لديهم فرصة القضاء على اعداء استراتيجيون واعداء قاتلوا ( محور المقاومة واصدقائه ) في كل الجبهات وكل المستويات واركزها واهمها حرب التشويه العقائدي وبذات الوقت هم مادة قابلة للتدوير الاميركي في وقت اخر وجعلها تهديدا جديدا ضد هذا المحور وبلدانه وابناء شعبه، وبالتالي فأن الانقضاض على الهدف الان هو انهاء ركائز هذة الانظمة في الخليج والجزيرة، والتي تعتمد على الصراع الطائفي وقدرة تزوير التاريخ وكتابته بمزاج المصلحة السياسية وان كان ديناً سماوياً ، ومن هنا سيكون الهدف الاستراتيجي الذي يستحق الكفاح وممكن العمل عليه هوعودة ترتيب المنطقة من جديد بالتوافق (السياسي) بين محور دول المنطقة القوي (تركيا وايران) والروس، وموافقة الاميركان بضمانات معروفة في الاقتصاد والامن، وستكون فرص عودة انظمة امارات وممالك الخليج ضئيلة جداً الى هذه المراكز التي يتمتعون بها حالياً، وان استمرت فهي ليست بهذا التاثير الامني والسياسي بسقوط ادوات القمع ( طائفية سياسية ) وتوزيع الثروات بطريقة اخرى تناسب القرن الواحد والعشرين .
قد يجد البعض ان هذا السيناريو او المسار منحازاً الى محور معين ومعتمداً على نتائج آنية ظاهرة قد لا تستقر او يجري تقويضها واضعافها وايقاف نتائجها قبل ان تستفحل، باستثمار المال الخليجي حاليا وتشكيل جيوش الانابة للولايات المتحدة لاعادة هيبتها وتأثيرها من جديد في المنطقة، وهذا الامر يناسب اميركا ويبعدها عن الاشتباك المباشر مع القوة الروسية والتصعيد نحو حرب كونية ويحقق لها نتائج كبيرة، نقول ان هذه الدول بقضها وقضيضها وكافة صنوف جيوشها في البر والبحر والجو وأسطولها الاعلامي الاضخم في العالم العربي ومعهم ايضا تنظيم القاعدة الارهابي بانتحارييه ومفخخاته، لم تستطع حسم معركة مع شعب شبه اعزل
في اليمن ولمدة ثمانية اشهر من التدمير في هذا البلد ولم ينتج متغيراً سياسياً واقعياً على الارض، فكيف اذا كانت في مواجهة قوة دولية عظمى ودولة الاقليم الاقوى وفصائل مقاومة على طول جبهة المواجهة، ما يعني ان الاعتماد على هؤلاء في حرب انابة لا يحسم الامر، بل ربما يؤدي الى فوضى المنطقة اكثر مما هو موجود حاليا ويزيد من التهديد للمصالح الاميركية، ويضطرها بالنهاية من التدخل والتصادم الكبير، ولذلك فان خيارات اميركا محصورة بحجم تدخلها العسكري الكبير لردع الروس ومحور المقاومة بتفاصيله واعلان حرب مفتوحة للدفاع عن رخاء انظمة الخليج، وهذا لا ينسجم مع المنطق الاميركي في حساب المصالح والكلفة اللازمة، ولذلك فهي تذهب الى الفسحة الزمنية وجذب حكومات العراق ولبنان و تركيا وامكان حكومة جديدة في سوريا تقبل اميركا وروسيا وايران وباقي الدول بنفس القدر، ومنها تستطيع العمل على اعادة ثقلها في المنطقة. وبالنتيجة فان الغلبة لقدرة التحمل والمطاولة وهذه معروفة في تقييم دول المنطقة .