منذ عقود عديدة أضحت المجتمعات البشرية المنتجة عمليا وعلميا تتجه طرديا الى تفهم واقرار المزيد من الحقوق الاساسية للانسان باعتبار ذلك ضرورة لا يمكن تحاشيها من أجل الانسان اولا ومن اجل تحضر أفضل ومن أجل تقدم أكبر في شتى ميادين الحياة ، نظرا لكون الانسان هو القيمة الاعلى في هذا الكون والعنصر الفاعل على الارض ، وان تأمين الحقوق الاساسية المتساوية لكل انسان دون تمييز ديني او عرقي او فكري او مذهبي هو حق ومطلب واقعي ومنطقي ، وان منح الانسان كامل حقوقه الشخصية في الفكر والممارسة دون ايذاء او اجبار الاخرين هو السر الذي يضمن استمرار الحياة البشرية باتجاه الرفاهية والتطور والسلام ، الى ان اقرت تلك المجتمعات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1948 وتحت خيمة الامم المتحدة وثيقة الاعلان العالمي لحقوق الانسان والذي تضمن ثلاثين مادة تخص الحقوق الاساسية لكل انسان على وحه الارض ، وتتضمن المادة 18 من هذا الاعلان حرية الانسان في الفكر والدين أوتغيير الدين او المعتقد ، وتشكل وثيقة الاعلان العالمي لحقوق الانسان مع وثيقتي (العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية) ، ووثيقة (العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ) سنة 1966، ما يسمى بـ ( لائحة الحقوق الدولية ) التي ترتقي الى مرتبة القانون الدولي في منظمة الامم المتحدة حاليا .
تشير الوقائع على الارض بان هناك ترابطا منطقيا وثيقا بين مستويات التطور المتلازمة في الجوانب الاقتصادية والفكرية والعلمية في اي مجتمع وبين مدى حصول الانسان في تلك المجتمعات على حقوقه الانسانية الاساسية ، فكلما حصل الانسان على حقوقه الانسانية الاساسية في مجتمعه تطور ذلك مجتمع نحو آفاق تطور اقتصادي ومعيشي لجميع افراده مقرونا بتطور واسع في مجال العلوم والاختراعات في ظل ظروف المساواة وقبول الآخر بين افراده بعيدا عن التسلط او اجبار الآخرين .
تتوفر في المجتمعات التي يتمتع انسانها بحقوقه الاساسية المذكورة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان عوامل اساسية للعمل والابداع طالما يحصل الانسان فيها على حاجاته الانسانية الاساسية سواءا على المستوى المعيشي او على مستوى حريتة في ممارساته الجسدية او على مستوى حرية الفكر والرأي والمعتقد ، وكل ذلك دون ايذاء او اجبار الآخرين ، بينما يحصل العكس تماما في المجتمعات التي تقيد فيها حقوق الانسان بدوافع او تبريرات سياسية كانت او دينية بالضد من المباديء المنصوص عليها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان ، حيث التمييز بين انسان وآخر على اسس سياسية كما في الانظمة السياسية الدكتاتورية ، او التمييز على اسس دينية او طائفية في الانظمة ذات التوجه الديني ، مما يشل حال العمل والابداع بسبب اقصاء الآخرين او اجبارهم على اعتناق ما لا يؤمنون به ، مستدركين ان الهدف الرئيسي المشترك لدى اصحاب النظم الدكتاتورية من السياسيين والدينيين هو السلطة وما تدره عليهم من الجاه او المال الذي يقومون بالستحواذ عليه ثراءا وتمييزا كثمن لعزل الاخرين ، وهذا ما يفسر لنا تركز او زيادة اعتناق الفكر الماركسي وكذا الفكر الالحادي في افقر مناطق المجتمع الذي يخضع لسيطرة الدكتاتوريات السياسية منها او الدينية .
الدوافع والتبريرات الدينية هي الاسوء تأثيرا في مجتمعاتها ، وذلك لان الانظمة السياسية الدكتاتورية يمكن اسقاطها بفعل المعارضة ، لكن الدوافع والتبريرات الدينية تستند على ثقافة غيبية متوارثة اجتماعيا في عقول وعادات افراد المجتمع عموما ، ولا يمكن تخطي الكثير من سلبياتها بسهولة ، وتلك هي مشكلة المجتمعات الاسلامية عموما والعربية منها بشكل خاص ، حيث تحتل الدول الاسلامية مراكز متقدمة في قائمة اسوء دول العالم من ناحية تأمين الحقوق الاساسية للانسان فيها ، مثلما تحتل عموما مراتب متقدمة في تدني مستوياتها الاقتصادية والمعيشية بينما تحتل جميع الدول الاسلامية وبلا استثناء مراكز متقدمة في مجال انعدام التطور العلمي الذاتي على صعيد الاختراع والابتكار الحقيقي .
أحد العوامل الرئيسية في استمرار توارث الكثير من سلبيات الثقافة الدينية دون ايجابياتها في المجتمعات الاسلامية والعربية منها تحديدا هو النقل الجامد للتجربة الدينية التي حدثت في صحراء الجزيرة العربية قبل ما يقارب من اربعة عشر قرنا ، دون مراعاة تطور الفكر الانساني في مجالات علم الاجتماع وتفهم حقوق الانسان وكذا الادارة والاقتصاد والعلوم الانسانية عموما وايضا تطور الاختراعات والعلوم التطبيقية عموما وما انتجه ذلك من قدرة تفهم واسعة ووسائل مادية عديدة تتيح لكل انسان الاطلاع على كامل تفاصيل وافكار ومعتقدات الاخرين ، وبالتالي فلا ذريعة منطقية لاملاء الايمان الديني اوالطائفي قسرا على اي انسان ، مثلما لا يحق لاي انسان ان يدعي انه وكيل ( الله ) ليسلط نفسه على الاخرين ليحاسبهم او ينال منهم او من حقوقهم الاساسية في تبني الديانات او المذاهب او الافكار التي تناسبهم .
منذ قرون مضت والمجتمعات الاسلامية مستمرة في اوضاع انتقاص حقوق الانسان فيها في ظل تخلف اقتصادي وحضاري وعلمي اضافة الى استمرار التناقص الحاد في اعداد غير المسلمين فيها الى حد باتت فيه بعض المجتمعات الاسلامية تخلو نهائيا من افرادها من غير المسلمين كما حصل في جزيرة العرب قبل 1400 عاما ، وكما يستمر لحد اليوم خلو بقية المجتمعات الاسلامية من مواطنيها من غير المسلمين ، وهنا يتذرع الاسلاميون بسوء تطبيق مباديء وأحكام الدين في جميع تجارب الدول العربية والاسلامية طيلة القرون والعقود الماضية ولحد يومنا هذا ، دون ان يدرك هؤلاء الاسلاميون حقيقة ان العلم والمنطق يحكم عليهم اعادة تغيير النظرية في حالة استمرار تكرار فشل تطبيقها ، فان من غير الحكمة الاستمرار قرونا وعقودا على نفس النظرية رغم نتائج تطبيقاتها المتتالية سلبا ، فاستمرار فشل تطبيق نظرية او فكرة ما لمرة او مرتين او مئة مرة خلال سنة وسنتين ومئات السنين يوجب التفكير في عدم صحة النظرية اصلا وليس استمرار الاعتقاد بعدم صحة التطبيق !!
اغلبية افراد المجتمع العراقي ( حاله كحال جميع المجتمعات الشرقية ) مصابون بداء ازدواج الشخصية حيث ان اغلبية افراده يتطلعون للتمتع بكرامتهم الانسانية وذلك بان ينالوا حقوقهم كبشر من ناحية حرية الفكر والمعتقد والحرية الشخصية وكذا العيش في مجتمع يوفر لهم العمل والسكن المناسب والرعاية الصحية كما في بقية معظم المجتمعات اللاسلامية ، لكنهم بنفس الوقت لا يستطيعون التنازل عن اعتقادهم بصحة كل ما املته عليهم ثقافتهم الموروثة اجتماعيا عن ضرورة استمرار التقييد بالنظم والتعليمات التي توجب عليهم اعدام حقوقهم الانسانية الاساسية واولها حرية اعتناق الدين الذي يريدونه دون اكراه او قيود من اي جهة كانت ، ولعل تنصل اغلب رجال الدين من دورهم في الافتاء بحرية الانسان في اعتناق اي دين او فكر او مذهب هو السبب الرئيس في استمرار توارث هذه الثقافة الاجتماعية على اسس دينية ، ولتوؤل النتيجة الى مجتمع اغلب افراده مسلوبو الحقوق الاساسية كبشر ، ووفقا لهذا الواقع بالامكان تفهم أحد الاسباب المهمة في استمرار تدهور الاوضاع على مختلف المستويات في المجتمعات الاسلامية .
نهاية شهر اكتوبر 2015 اقرت الحكومة والبرلمان العراقي قانون البطاقة الوطنية الموحدة والذي تضمن اقرار الاسلمة الاجبارية لاطفال العائلة العراقية الغير مسلمة في حال اسلام احد الوالدين ، ولم يستجب البرلمان العراقي لمناشدات المسيحيين العراقيين الذين طالبوا بعدم قيام الدولة بتغيير ديانة الاطفال المسيحيين بالأكراه لان ذلك لا يتناسب مع المنطق ومع مباديء حقوق الانسان ومع مضامين الاعلان العالمي لحقوق الانسان ، كما ان مثل هذا الاجراء يلغي حرية الانسان في اختيار دينه حيث بامكان اولئك الاطفال الغير مسلمين تغيير ديانتهم ( اذا شاءوا ) عند بلوغهم سن النضج حسب القانون النافذ في العراق وجميع الدول الاسلامية ، ومن المفارقات الغريبة على العقل والمنطق ان نفس القانون النافذ لا يسمح للاطفال المسلمين تغيير ديانتهم الى ديانة اخرى عند بلوغهم سن النضج ( اذا شاءوا ) مما يعني اضطهادا بحق المسلمين انفسهم اضافة الى كون مثل هذه القانون يمثل تدخلا سافرا في الحقوق الاساسية للانسان ، حيث لا يحق لاي جهة فرض او اكراه اي انسان على اعتناق دين او مذهب معين ، كما ان تدخل الدولة في فرض مسألة تغيير الدين في الزواج يمثل تمييزا دينيا بين مواطني المجتمع الواحد ، حيث انه من المعروف ان القانون العراقي وقوانين المجتمعات الاسلامية ما تزال تمنع زواج اي انسان غير مسلم بعشيقته المسلمة ما لم يغيير دينه بالاكراه !! وبالامكان تصور مدى التمييز والاستهانة بالديانات الاخرى في مثل هكذا قانون ، ناهيك عن تناقض هذا القانون مع احدى اهم الحقوق الاساسية للانسان والمتمثلة بحق الارتباط بالانسان الذي يبادله نفس الشعور دون قيود اكراهه على اعتناق اي دين او اي مذهب او اي فكرة.
هناك عدد محدود من رجال الدين الاسلامي في العراق وعدد من الدول الاسلامية الاخرى ممن يدعون بشجاعة الى تطبيق كافة بنود الاعلان العالمي لحقوق الانسان في القوانين العراقية وقوانين بقية المجتمعات الاسلامية مستندين على رؤيا حديثة للتجربة الدينية التي حصلت في صحراء بدو جزيرة العرب قبل 1400 عاما ، لكن هؤلاء يعانون من استمرار محاربتهم بقوة من قبل بقية رجالات الدين نظرا للخطورة التي تشكلها تلك الرؤيا الجديدة على مصالح اغلبية رجال الدين ، فمنح الانسان المسلم كامل حقوقه الانسانية والواردة ضمنا في الاعلان العالمي لحقوق الانسان سيعني اطلاق العناق لمسيرة التحضر والمساواة والاخاء والانتاج والرفاهية وذلك ما لا يبتغيه الكثيرون ممن يتمتعون بالجاه والمال والمتعة والسلطة على حساب الاخرين .
بقاء ثقافة مصادرة حقوق الانسان تحت راية ( أوامر الله ) تشل حركة وتحضر اي مجتمع وتمنعه من اقرار حقوق الاخرين ايضا ، ففاقد الشيء لا يعطيه !!