اسمحوا لي، اليوم، أن أتحدث عن حيوانات أليفة من جنس البقر.. لا تنافق ولا تكذب ولا ترتكب جريمة قتل ولا جرائم فساد. لا دين لها ولا مذهب ،لكنها تحس بواجباتها اليومية إحساساً كاملاً. تتصرف بمحض ارادتها لتشبع بطون أصحابها من الفقراء استجابة لنوازعها الشبيهة بالإنسانية الصادقة.
سأحدثكم، اليوم، عن (الجواميس) . عن فصيلة من (الفصائل البقرية) يربيها الإنسان للحرثِ ودرّ اللبن والتدفئة بروثها. تمارس وجودها في العمل والانتاج كمخلوق بشري.
سأحدثكم، اليوم، عن (محنة الجواميس) حيث تعاني من الجوع والعطش في غالب الاهوار الجنوبية والوسطى ، بالرغم من أنها حيوانات ذكية وشجاعة وذوات بأس، يقال أن الأسود تخاف منها. نقطة ضعفها الوحيدة أنها تخاف من (عضة بعوضة) فتهرب إلى ماء الهور والمستنقع .
في عالم الاهوار فقر مدقع وحالات من التخلف المريع يعيشه السكان من أبناء آدم وحواء ، تجعلهم غير قادرين على إيجاد صيغ التعبير المناسبة لهم ،خاصة وأن برلماننا العتيد منذ أول يوم تشكيله يحرم الفلاحين من امتلاك عضويته، مثلما حرم على العمال امتلاكها، حتى صار برلماننا غير قادر على حماية الزراعة والصناعة وحماية الثروة الحيوانية.
الشيء الوحيد المقنع بجدوى الاهوار هي المشاهد العاطفية بين الانسان والحيوان ومضامين الحوار القائم بينهما ،خاصة بين انسان الهور والجاموس، حيث وُجدت عبقرية اللغة بين الطرفين .
العلاقة بين الإنسان والجاموس ما ظلت على حالها في الأعوام الأخيرة كما قالت تقارير تلفزيونية شاهدتها على شاشات بعض الفضائيات العراقية.
لم يعد في الهور ماء تستحم به أو تحمي جلدها ووجهها من البعوض، ولا نباتاً طرياً تتغذى به، ولا دواء يقيها من أمراض كثيرة هجمت عليها فماتت امهاتها واخواتها وبناتها أمام عيونها وعيون الناس من أصحابها و حماتها ومربيها.
كانت الجواميس تحلم أن تعود اليها اسطورتها الخيالية بعد عام 2003 أي بعد سقوط الدكتاتور العراقي صدام حسين، الذي وجد نفسه في فسحة طويلة من الزمن قادراً على قهر ليس فقط سكان الاهوار حين جففها ومنع وصول المياه إليها ،بل سخر عقله وجيشه وشرطته للتحامل حتى على الجواميس وقتلها عطشاً وجوعاً وحرم كل الناس العراقيين من التمتع السياحي برؤية الصور الجميلة في بقاعٍ واسعةٍ، تجد فيها كثير من طيور العالم مستقراً لها في رحلة الشتاء. كما تجد فيها ملايين الاسماك تأججاً في بيوضها وإنجابها وتكاثرها، لتكون خاصية من خواص المائدة العراقية لم يتسع أوانها لا في زمان هولاكو ولا في عصر لويس السادس عشر.
اليوم نجد في الاهوار العراقية أول إنسان على وجه الكرة الارضية محروماً من المياه، أول إنسان يزداد ألماً، كل يوم، وهو يرى جواميسه مريضة أو ميتة، أول إنسان ريفي محروماً من الغذاء، أول إنسان نهري محروماً من الاسماك.
الجاموس يموت. الأسماك تتمرغل فوق الطين قبل جفافه وجفافها. الطيور تبحث عن الهواء ومكان البيض في ميادين دول أخرى بعد ان تحولت اهوار العراق إلى مهاوي عجائب وغرائب. غدت ارضها وسماؤها وانهارها نموذجاً وحيدا للموت.
الحكومة العراقية لا تستجيب لآلام الجواميس، ولا لنداء الطيور، ولا لصراع الاسماك في سبيل الحياة، ليظل المواطن العراقي في أهوار الحويزة والحمار والجبايش وغيرها يعيش مقهوراً في وحدة تامة بلا اصحابه في التاريخ والجغرافيا، بلا أصحاب الزمان والمكان. يتألم بعوامل اقتصادية اجتماعية مختلفة أبرزها أن ظروف نشأته وبيئته غدتا غريبة عليه.
يا وزارة الزراعة العراقية تعلمون أن لبن الجاموس أدسَمُ وأطيبُ بِكثيرٍ مِن لَبَنِ البَقَرِ. وهو اطيب وافضل من كل لبن مستورد. كما أن الجاموسُ سَبَّاحٌ ماهِرٌ ، منه يتعلم الإنسان شيئاً كثيراً.
يا وزارة الموارد المائية : الجاموسُ، لا يَعيشُ إلاَّ قَريبًا من الماءِ وفي وسطه لأنَّهُ في وقتِ الحَرِّ يَدخُلُ في الماءِ لِيَبْتَرِدَ.
أيتها الحكومة في المنطقة الخضراء: الجاموس مُقاتِلٌ عَنيدٌ، فإذا ما اعتُدِيَ عليهِ أو على أولادِهِ يدافعَ عنهم دِفاعًا شَرِسًاً قويًّا .
يا دعاة المحاصصة في البرلمان العراقي: أين حصة الجواميس من مياه الرافدين وانتم تعلمون إنه يُحِبُّ الماءَ، يدخَلَ جميعَ جِسْمِهِ فيه لساعات طويلةٍ . ؟
يا رئيس الوزراء: أين خطط (اصلاح) أوضاع الجاموس العراقي وحلّ مشاكله وعلاج امراض ابدانه ومعالجة أزماته النفسية في (مشروعكم الاصلاحي)..؟
الماء محور حياة الجاموس، لكنه يعيش، الآن، بيئة غير متلائمة مع تكوينه السيكولوجي الخاص، يعيش بجسدٍ من دون نشوة ، يحس بالتفاهة والعبث والألم و لا يرى غير ايماءة الاحتضار القريب.
لا تجبروا الجاموس العراقي إلى اختيار الهروب إلى البلدان الاوربية كما هرب اليها الشبان العراقيون..!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 26 – 10 – 2015