23 ديسمبر، 2024 6:41 م

في صغرنا، كان حلم اغلب الطلبة والطالبات أن يصبحوا معلمين، لشدة تأثير المعلم آنذاك و أهميته في منظومة الدولة والمنظومة المجتمعية، فكلمة (معلم، او معلمة) وحدها تعني (كشخة)، اما (مدرس، او مدرسة) فهي تثير الرجفة، فكيف باستاذ جامعي؟ لا.. لاتكفي كلمة (حلم) لوصف تأثير هذه الكلمة بل كانت اقرب الى كلمة (ملك).
وانطلاقا من مبدأ تخريب العقل والبنية المعرفية من ناحية، والغيرة وعقدة النقص من ذوي العقول والشهادات من ناحية اخرى، أمعن النظام السابق في اذلال الاستاذ الجامعي وقبله المعلم والمدرس، حتى أضطر البعض الى العمل في مهن كثيرة وحقيرة اضافة الى العمل الوظيفي لسد رمق عوائلهم، وجميعنا يتذكر ما شهده وسمعه من روايات حول استاذ باع مكتبته وآخر باع بحوثه وغيره باع وظيفته وهاجر، والبعض باع حتى ضميره.
مازالت صورة بعض اساتذتي في الجامعة بتلك السترات البنية باكمامها التي ينتصفها رقعة جلدية غامقة، لم يكن مايرتدونه زيا موحدا مفروضا عليهم، بل هي البدلات التي تصدق عليهم بها النظام السابق من شركة خياطة النجف او الاسواق المركزية الخ. اما سيارات المارسيدس التي اهداها النظام لهم في بداية الثمانينات، فقد تنازل عنها البعض وباعها ليتساوى مع طلبته في ركوب الباص او الحضور الى الجامعة مشيا على الاقدام، حتى تحول احد الاساتذة، الذي كان آنذاك شابا حديث التخرج، الى مصدر سخرية الطلبة، كونه يماثلهم عمرا ويستقل معهم الباص الحمراء ذو الطابقين،
، ومع ذلك (ميتحجى)، لكنه خنع وخضع لضغط دولارات بعض الطلبة الاغنياء فيما بعد، وصار (يتحجى). وكانت نتيجة تلك الهجمة العنيفة على العلم والكفاءات، حدوث اكبر هجرة للعقول في تاريخ العراق، حيث توزع اصحاب الشهادات في بقاع الارض حتى صار من الطبيعي ان تسمع باسماءهم في العديد من جامعات العالم والشركات، مخلفين وراءهم زملاء، اضطر معظمهم للبقاء في البلد، اما تحت ضغط الظروف المادية او العائلية.
وبعد 2003، تنفس الاساتذة الصعداء، وتنعموا برواتب حفظت لهم ماء الوجه ونقلتهم الى مستوى اجتماعي يليق باسم الاستاذ الجامعي، علما ان هذا الوضع لاينطبق على جميع الاساتذة الجامعيين، بل على من لديه خدمة طويلة، ولقب علمي عالي وشهادة دكتوراه. اما اصحاب شهادات الماجستير والمعنيين حديثا ومن هم في بداية السلم الوظيفي والاكاديمي، فان رواتبهم لاتتجاوز المليون وبضعة الاف، مما يضطر بعضهم الى العمل كمحاضرين في جامعات اخرى، فالمليون التي كانت كبيرة بعد 2003، صارت لاتكفي لاعالة عائلة صغيرة، بل انها قد لاتسد ايجار دار صغيرة. وحقيقة الامر، ان
المخصصات الجامعية هي من رفعت راتب الاستاذ الى المليون، وفي حالة رفعها والاعتماد على الراتب الاسمي، يتحول الامر الى فضيحة!! فالراتب الاسمي للاستاذ الجامعي يتراوح بين ( الف350- الف600)، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان اصغر فرد في حماية اي نائب او مدير، لايحمل شهادة اعدادية، يتقاضى بين (الف750- الف900) فهل هناك اذلال اكثر؟
و هل يقصد النظام الحالي من تضييق الخناق على الاستاذ ان يدفعه الى الهجرة؟ أم ان الطبقة المخملية التي تسكن الخضراء لاتتحمل ان تنافسها طبقة اخرى بفتات (الترف)، هذا اذا اعتبرنا عيشة الاكتفاء ترفا!
وفي الوقت الذي تعتبر وزارة التعليم العالي في دول العالم المتقدم الوزارة اهم والاغنى، فهي في العراق تعد من (أفكر) الوزارات حتى في سنوات الميزانية الانفجارية، ففي الوقت الذي يحصل بعض الموظفين على ارصدة لهواتفهم ومخصصات نقل وغيرها، وهي الوزارة الوحيدة التي لم تشمل موظفيها بتوزيع قطغ اراضي، بل ان الاستاذ الجامعي يضطر الى دفع اجور استنساخ المحاضرات للطلبة احيانا!!
خلال زيارتنا لاحدى الجامعات الاميركية، مرت علينا الكثير من المشاهدات، كان اهمها، المنزلة الرفيعة التي يتمتع بها الاستاذ الجامعي في كل مكان، وكانت ردة فعل الناس تفاجأنا عندما يعرفون بأننا اساتذة جامعة، فتسمع منهم: أوووه.
ومابين اذلال النظام السابق للعلم واهله، واذلال النظام الحالي لما تبقى من (وشلة) اصحاب الشهادات، انا أيضا اقول: اوووه، لم يتبق من الاستاذ الجامعي الا الاسم، وصيت الغنى ولا صيت الفكر!!

http://www.newsabah.com/wp/newspaper/64363