(*)
كقارىء منتج أرى كل رواية تتغذى على الذاكرة الاستعادية ) فالماضي جزء منا وكل مايمكننا اتخاذه من تدابيريتلخص بمواجهة ذلك الجزء الذي يؤرقنا بالنسيان../84- نساء)..ولكن ليس بالتغذية وحدها ينهض الدرس السردي، بل لابد من تقنية عالية ينبجس منها تفعيل اتصالية بين الذكرى والراهن ..(فالجديد يشغلنا حيناُ ويقطع علينا طريق التذكرولكني أعترف ان قوة الجديد سرعان ماتتلاشى بعد حين وسيفاجئنا التذكر بأقسى هداياه اللعينة، سيرمي علينا دائما ماركنّاه خلفنا من ركام/ 84) وبالطريقة هذه تتحايث الرواية مع الراهن من جراء تفعيل إتصالية الجمالي/ الحياتي (ولذلك فإنها تنقاد بالقوة الى استعارة شكلها من تقطيع متميز ومخصوص لأبعاد الواقع ومستوياته المختلفة..)حسب باختين.. فنحصل على ذاكرة استعادية مشروطة(بموضوعة شعورية حاضرة بالضرورة) وبالطريقة هذه يوصلنا فعل التذكرمن منتصف سبعينيات القرن الماضي الى مابعد 2003حيث أنقضّت اوراق جارحة من خريف فاتك على ربيع الخلاص من نظام استبدادي ،ونشبت منازعات طائفية مسلّحة على مراكز النفوذ وتشظية العراق بالتفخيخ والاغتصاب والأقلمة والمحاصصة والخ من اجندات المحتل..والجوار
(*)
في الجملة الاخيرة من الرواية، تقول الساردة المشاركة..(وتمنيت لو أن بالامكان حمل مرايا سقفها فما اشد حاجتي اليها منذ الآن../340).. أرى ثمة محاولة لتفعيل اتصالية بين الساردة (أنا) وبين صديقة عمرها (موجة).. من خلال المرايا، فالتواصل سيقوم من خلال حركة تبادل متواصلة بين القطبين المتميزين للحاضرة والغائبة، معتبرا غياب أحدهما يعني آليا حضور الآخرى وهكذا فحين تنقطع (أنا) عن التفكير بذاتها، ستفكر بذاتها من خلال مرايا صديقتها (موجة) و ستبأر ذاتها من خلال موجة وبالطريقة هذه ربما… ستتماهى (أنا) في موجة من خلال مرايا موجة التي كانت تخاطب مراياها قائلة..(ستكونين رفيقة وحدتي وتبادليني مشاعر اللحظة المغموسة بسكون الوحشة والضياع . وسأغض النظر عن التشابه بين وجهي ووجهك فأنا في القاع وأنت هناك في السقف ومعا سنبدد الضجر ونقتل الوحدة ونتسلى بتقطيع أوصالها../ 154- 155)..شخصيا أرى ان هذه الامنية ستعينها في سرد المرآة ، خصوصا عندما تستلقي الراوية في سريرها، ستكون المرآة مثل شاشة سينما تعرض عليها ماتبثه ذاكرتها التذكارية، كما ان هناك مرآة لامرئية لسوى الساردة/ المشاركة في سيرورة زمن الرواية وفي زمن كتابة الرواية..وهذه المرايا توهم الرائي اليها بوجود الآخر الملازم ..(أنتزع سقف الغرفة أسلحة مقاومتها بحركة خاطفة بعد ان تدلت فتاة مصلوبة بعينين ملتصقتين بعينيها وصارت المصلوبة تتحرك حيثما تحركت (موجة) وتقلد كل حركة تأتيها تقليداً أعمى لاحياة فيها../154) والأمر لايقف عند هذا الحد من التراسل المرآوي..فموجة تأنسن المرايا، وتراها تصاب بالوهن كالبشر..(..يغبر وجهها من كبر عنئذ تزوغ عيونها ولاتعود تعكس ذلك البريق الذي يكسب الوجوه الناظرة ألقها السعيد .نعم فاللمرايا عهودٌ من السعادة وأخرى غابرة . إنها كعيون بشرية تمر بأمراض العمر ايضا
!../155)..والمرايا لاتخلو من وظيفة مضيئة وتوسعية، تزيد من سعة الغرفة وتزيد في مباهجها..(المرايا كلها توزّع ماتلتقطه من صور وأنوار كعطايا ثمينة على المكان…/156)..وبالطريقة هذه تكون للمرايا وظيفة اتصالية الوعي بالعالم ،فأن حضور المرايا والتركيز عليها بهذا الشكل السردي لايكون في المرايا ذاتها، بل وجود المرايا بذاته سيكون متلازما مع وظيفة الأنا حيث يكون لها كوجيتو خاص (أنا اراني إذا انا هنا) ومرايا موجة تحاول تخليصها من الواحدية وتحويلها من موجة الى موجات / أمواج، فهي تقيم علاقات مع هذا المرّكب الافتراضي الذي يضاعف الواقع بدءاً من جسدها فالاشخاص وبالتالي الاشياء المحيطة بها ضمن هذا الفضاء المغلق/ الغرفة .
(*)
لاتخلو الرواية من جرعات سيرة ذاتية للمؤلفة.(292)( 326)..وفي الصفحة (171) نحصل على كلام يدور حول الميتا روائي حيث تخبرنا الساردة المشاركة..(فوجئت بمقاطعتها الحازمة لي ورفضها ان تضع حياتها بين يدي لتكون مجرد مادة لرواية تصورت أني مقبلة على كتابتها .أعتذرت مبينة أن لاعلاقة لسيرتها سوى أنها فتحت شهيتي لكتابة عمل لايمت لها بصلة../171) ..يتضح ذلك في غلاف الرواية، فالاوراق النباتية مشفّرة بأحرف وسيكون مفتاح الشفرات فعل قراءة الرواية: ز، ب، س، م، ويوحدهن ذات اللون المشتق من الأحمر، أما الورقة الخضراء الزاهية، فمكتوب وسطها (أنا) وهذه الانا لااسم لها في الرواية، ولااحد يناديها بأسمهاو خلال فعل القراءة سيتماوج المسطور على شاشة بياض صفحات الرواية..وستعلو (موجة) كشخصية مهيمنة على صديقاتها وعلى الرواية وقارئها..
(*)
كقارىء منتج للرواية، فأنني سألغي لوحةالغلاف المثبتّة في وجه المطبوع، واثبت رسمات موجة السردية لصديقاتها :
*زهراء : سدرة عتيقة، سماء السدرة عباءة الجد السوداء، الجد له وجه قمر مضيء/180
*برتيون : مغلفة في دمعة صافية كقطعة من كرستال نادر../187
*ساغيك : ريشة مشعشعة تطوح بها ريح لاتهدأ ابدا../192
*أنا :سلم خشبي عتيق فيه صلابة تتيح للآخرين أرتقاءه آمنا. الصاعد الوحيد الذي تعكسه اللوحة
هو السوس والأرضة…/196
(*)
لااتساءل وفق الساردة..(..الموجة هي (موجة) نفسها، إلاّ إني أجهل أسباب تحولها الى طين مقابل ذلك التحول السامي للأله البشر/ البشر – الأله/ 97) فالتحول بالنسبة لي تم وفق قناعة أحلام يقظة الماء كما علمنا المعلم غاستون باشالار..لكني سأقترض من الساردة الضمنية اسئلة واكررانتاجها..(ماذا تضمر هذه الموجة العاتية؟ وماهي درجات زلازلها؟ وكيف يمكن قياسها؟ وماهو مدى سمك قشرة هدوئها التي غلفت وجهها زمنا قياسيا؟ وكيف يمكن أخماد نيران براكينها المشتعلة ابداً…/82).. موجة ب(نفورها من الطروحات المختلفة ورفضها للأيدلوجيات كلها../62) وهي
ال(مرفهة كثيرة الأسفار،وعاشقة مزمنة للكتاب،متنقلة بين الوظائف والأعمال المنسجمة مع قدراتها/65) واقرب وصف لشخصية (موجة) هو المتوحدة وحسب الساردة المشاركة (نعم انها وحيدة إلامنا، منعزلة ،ولكنها لاتجد راحة أومستقراً إلاّ بقربنا، ومع ذلك لم تكن مبالية بنا بالقدر الكافي وهي لاتتوانى في توجيه الضربات القاسية لنا دون تحسب../66)
* استعين برسمة سردية من قبل الساردة المشاركة..(موجة ..ترى نفسها كفرس حرون ترمح في موقعها الخلفي من مسرح الاحداث بلا هوادة نافرة من كل ماحولها / 136)
*الخطاطة في ص169 تجعل من موجة محور الصداقة ونقطة دائرتها والسهام موجهة صوبهن وصوبها فهي سهام بأتجاهين…
…
ومفتاح الخطاطة تثبته الساردة على لسان موجة..
(أنا ماء الجثث الذي سقى السدرة المهمومة، وكرستال الدمعة النقي الذي خذله الضباب ومنع عنه الحقيقة وعاش الافكار بنصف قلب…ورائحة الهلع الذي تبثه نتف الريشة التائهة في سفر الرياح.أنا الوجه الآخر للسلّم (أنت) تركتُ لك صلابته ومسكن الأرضة الهانئة ورسمت نفسي على الوجه المعاكس من اللوحة. أنا الفجوات المحفورة في الخشب ظاهرياً لاأستند الى قدم ولا أمسك بشيء وحين تحولنا الى قنطرة صار وجهك نحو السماء صوب الشمس والنجوم وصار وجهي الى الأرض، لاأرى غير عتمة الظل ولايلقي العابرون تحتي نظرة إليّ..أنت تنظر اليك الطيور الفرحة بطيرانها وأنا عششت في خرائبي طيور الليل وصيادو الظلمة../204- 205)
(*)
في ص91، سنكون مع سجل عتيق يحتوي اسماء رجال واسم امرأة..وهو سجل مشتريات تجارية : التاجر البصري المعروف (أبي داود سلمان المنديل)..(السيد جري بن السيد نور) والاسم السادس من التجار العشرين كان لإمرأة (إحنينة بنت شاكي) ص95..وهناك التاجر(غني بن ماويه) ص96..وفي
ص98 نكون مع تاجر أسمه (شالم بن شاتي ) وهناك ثمة التباس لغوي ..(وقد تعذر علي البت بهويته إن كان يهوديا كما حاول صاحب السجل الإيهام بذلك ، حيث حرّف السين الى شين ، أم كان الأمر مجرد أعتياد على هذا النمط من الكتابة../ 98)..ص144 مثبت (راضي آل مرهون) تاجر صغير من ملاكي الاراضي الزراعية والسجل يكشف هنا عن نشاط الحركة التجارية في البصرة..
(*)
نساء الرواية بتوقيت أفول الأمل وبعد غياب يجتمعن..(نحن خمس صديقات جمعتنا عشرون سنة متواصلة وباعدت بيننا أكثر منها لم نتوقف لأيما سبب عن التفكير بعضنا ببعض وكان أفتراقنا بعيداً عن أرادتنا إلا أنه لم يكن قسرياً وحين صارت كل واحدة فينا تحت نجمتها النائية، أفل الأمل الذي نسج حكاياتنا التي قدرنا أنها لن تنمحي ابدا..فوجئنا ونحن نضع أيدينا على وجارها بأنطفاء جذوتها) والمسافة / الغياب ليست بالقصيرة بينهن، بل صارت تستوجب تعارفا جديدا بينهن..! فمتغيرات الوضع السياسي العراقي لها مؤثرياتها في الشخصية العراقية..(أخبريني اذن بما لااعرفه وهو كثير جداً على مايبدو إن كنت ترغبين..نعم بكل تأكيد ستكون لنا أحاديث طويلة .فقط لاتستعجلي الأمر ودعينا نعتبر هذا اللقاء بمثابة تعارف..ضحكت طويلا وشاركتني الضحك فبعد أكثر من أربعين سنة من الصداقة
صار علينا التعارف من جديد../81)..وثمة اتصالية أكاديمية فهن طالبات في قسم اللغة الانكليزية ، أعني : زهراء، برتيون، ساغيك، والساردة (أنا)، أما موجة فكانت تنضم اليهن وهي الطالبة في قسم
اللغات الشرقية ولها حافظة ممتازة مكنتها من اجادة اللغات التي درستها كلها/ 64 والصديقات تربطهن اصرة لغوية ايضا..وحسب الراوية..(أنا ايضا درست الالمانية كانت اللغة المساندة أو الثانوية بعد الانكليزية أنا وساغيك اخترنا الألمانية أما برتيون وزهراء فقد درسنا اللغة الانكليزية، موجة درست الألمانية بعد اختصاصها الاصلي الديانات الشرقية وعلى وجه الخصوص اليهودية .لم تجد صعوبة في استيعاب التركية والفارسية، اعترف انها بارعة في الحفظ والتعلم…/293)…وكل واحدة تحاول معالجة ماضيها الخاص بمفاتيحها الذاتية ..(84)..زهراء تظهر في الرواية كضيف شرف، ساغيك وبيريتون يحضرن مبأرتان من خلال سرد الساردة الضمنية أقوى العلاقة هي التي بين موجة وراوية الرواية :(326)
(*)
المعمار الهندسي للرواية، يتماهى في شخصية موجة ومروياتها التي لاتعدو ان (تكون أبوابا تفضي الى ابواب تفضي الى أخرى، من دون ان تتاح معرفة مايكمن خلفها بوضوح/152).. وموجة ذات بطولة مطلقة في الفضاء الروائي(هي سيدة المشهد المسرحي بلا منازع ورضيت أنا بدور الكومبارس الأخرس…/173).. لكن إتصالية التروية ليست بالشكل الذي تفسره الساردة المحجوبة التسمية..موجة تسرد بالرسمات المثبّتة بالسجل، وهذه الرسمات تبقى شفرات عصية على غير موجة ، ورسماتها تتجاورمع خطاطات تعازيم القباليين، تلك الملة المشفرة من اليهود التي عاشت منذ عشرات القرون وهنا تقوم موجة التي تتقن عدة لغات بتعليق مهاراتها اللغوية لتتجنب فضائح السرد وبالطريقة هذه قأن موجة هي المرأة التي تخصي نفسها بنفسها..وهي حتى بأعتبارها راوية لرسماتها تتجنب تفكيكها..(تتقمص موجة دور الراوي بعد ان بينت ان اللوحة لاتعدو غير اشارة فضفاضة من العسير لملمتها في بؤرة معنوية واحدة../153)
(*)
أنادي موجة فيحضر السجل قبلها محمولا بين يدي راوية الرواية..ومن السجل تنبثق الرواية/ الأم
ها اقرأ روايتين الاولى عنوانها نساء وستكون سيّر النساء الخمس بمثابة حاشية أما المتن فهو سيرة موجة،ولايمكن فهم موجة بلا السجل، سجلها وهنا ايضا سأكون وفق قراءتي المنتجة بين حاشية ومتن
المتن هو الرسمات المثبتة بالقلم الاسود او قلم القوبيا، والحواشي، هي ماتسطره الرواية من قراءاتها للرسمات
(*)
ومن السجل سنعرف وجيز تاريخ حقبة التعايش السلمي بين الملل والنحل في البصرة المدينة الساحلية المنفتحة على التحضر والتمدن ، كما تتكشف لنا تلك المسارب الظلامية لتوجهات المخطط الصهيوني..الذي ينتهك الارض والسلوك البشري السوى ولايتورع في انتهاك المحارم كما فعلت أم إيزاك
(*)
ثمة شفرات تحتاج وقفات طويلة : المشحوف، الصندوق،، رسمات السجل،البياض كرواية اللارواية/167 جلد الغزال
*المقالة منشورة في مجلة آفاق أدبية / بغداد/ تشرين الاول / العدد الثاني/ 2015
*إلهام عبد الكريم / نساء/ إصدارات دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد / وزارة الثقافة